مر يوم الأربعاء الماضي طويلاً على التونسيين، إذ تواترت فيه الأحداث بشكل لافت، قبل أن تستقر مساءً على رضوخ رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ للاستقالة. وكان الفخفاخ والمقربون منه، وحزب "التيار الديمقراطي" وحركتا "الشعب" و"تحيا تونس" يرددون، على مدى الأسبوع الماضي، أنه لن يستقيل، وأن على "حركة النهضة" أن تغادر الحكومة إذا لم يعجبها الوضع. حتى الرئيس قيس سعيد، رفض دعوة "النهضة" للتشاور حول الحكومة الجديدة، مؤكداً أن حكومة الفخفاخ لا تزال تتمتع بكامل صلاحياتها، وعلى من يريد تغييرها أن يسلك الطرق الدستورية.
وتسارعت الأحداث بعد ذلك، وقررت "النهضة" وشريكاها الجديدان، "قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة"، خوض المسار الدستوري، بتقديم "لائحة لوم للحكومة" إلى البرلمان، تضمنت 105 أصوات وليس الـ73 المطلوبة فقط. وأكدت قيادات فيها، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنها حصلت بالفعل على الـ109 أصوات التي ستسحب الثقة من حكومة الفخفاخ، ما يعني أن الحسم يمكن أن يتم ولو بصعوبة في البرلمان.
المشهد السياسي المستقبلي بعد حكومة الفخفاخ لن يختلف عما قبلها
وأمام هذه المعطيات الجديدة، والتي تضاف إليها تأكيدات لدى هذا الفريق بثبوت شبهة تضارب المصالح التي ستسقط الفخفاخ، عاجلاً أم آجلاً، تغيرت المواقف بسرعة. وأكدت مصادر حزبية، لـ"العربي الجديد"، أن سعيد طلب من الفخفاخ تقديم استقالته، وهو ما تأكد بعد ذلك في بيان الرئاسة نفسها أول من أمس. وكشفت عن تفاصيل اللقاء الذي التأم صباح الأربعاء الماضي، وجمع سعيد بالفخفاخ ورئيس مجلس نواب الشعب (البرلمان) راشد الغنوشي والأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي، مؤكدة أن الفخفاخ قدم استقالته للرئيس صباح اليوم ذاته. وذكر البيان أن اللقاء "خصص لبحث سبل الخروج من الأزمة السياسية الحالية، والتأكيد على وجوب وضع مصلحة تونس فوق كل الاعتبارات". ولفت إلى أن سعيد شدد، خلال الاجتماع، "على ضرورة حل المشاكل وفق ما ينص عليه الدستور"، وأنه "جدد حرصه على عدم الدخول في صدام مع أي أحد. وذكّر بأن الدولة فوق كل اعتبار وبأن العدالة يجب أن تأخذ مجراها"، مضيفاً أنه "لا مجال للمساس بكرامة أي أحد".
وتحيل عبارة سعيد "العدالة التي تأخذ مجراها" مباشرة إلى قضية تضارب المصالح، وأنه قرر النأي بمؤسسة الرئاسة عن أي شبهة في هذا الصدد. ويبدو أن الفخفاخ كان متشنجاً في رد فعله، إذ إنه قرر، بعد مغادرته قصر الرئاسة، أن يستبعد وزراء "النهضة" من اجتماع للحكومة. وقال أحد هؤلاء الوزراء، لـ"العربي الجديد"، إنه كان في طريقه إلى قصر الحكومة قبل أن يتم إبلاغه وزملائه أنهم غير معنيين بالاجتماع، ليفاجأوا بخبر إقالتهم بعد ذلك.
وقال القيادي في الحركة محمد القوماني، في تدوينة على صفحته على "فيسبوك"، إن ''إعفاء وزراء النهضة بعد استقالة رئيس الحكومة رقصة الديك المذبوح". واعتبر النائب عن "ائتلاف الكرامة" عبد اللطيف العلوي، من جهته، أن "ما فعله الفخفاخ يؤكّد فعلاً أنّه أسوأ من تولّى رئاسة الحكومة في تاريخ تونس! انتقام صبيانيّ غبيّ، على حساب مصلحة البلاد طيلة الفترة القادمة الممتدّة إلى حين التصويت على الحكومة الجديدة! يضحّي بمصلحة التوانسة في وزارات أساسية مثل النقل والصحة، في ظلّ حرب غير محسومة على وباء كورونا، من أجل ماذا؟ من أجل أن يُشعر نفسه بزهو كاذب أنّه انتقم لنفسه من عمل النهضة. ينتقم من الدولة كي ينتقم من النهضة".
رجح المؤدب أن تتنازل "النهضة" عن نصيب الأسد في التشكيل الحكومي الجديد، بهدف توسعة الحزام لتفادي إسقاطها بيسر
لكن يبدو أن هذا الاستبعاد لم يكن بريئاً، رغم أنه لن يدوم أكثر من 40 يوماً، الحد الأقصى لتشكيل الحكومة الجديدة، إذ تتحدث تسريبات عن مراجعة التعيينات التي قام بها وزراء "النهضة"، وتغييرها، وربما البحث في ملفات أيضاً، لكنه سيشكل "انتحاراً سياسياً" للفخفاخ، الذي ستنتظره أيام طويلة من التحقيقات. لكن الأسئلة الحقيقية والمهمة بخصوص هذه التطورات الكبيرة تتجاوز هذه التفاصيل، إذ تتعلق بمصير بلد تنتظره ظروف اقتصادية صعبة ورهانات اجتماعية لا حصر لها، وظروف إقليمية مجهولة، علاوة على الأسئلة الدستورية والسياسية المتعلقة بالفترة المقبلة.
وأوضحت أستاذة القانون الدستوري وخبيرة الشؤون البرلمانية منى كريم الدريدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "تقديم لائحة اللوم لا يمنع رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ من الاستقالة من منصبه"، مؤكدة أنه "لا وجود لأي مانع دستوري لذلك". وأضافت أن "الدستور التونسي يشترط أن تتضمن لائحة اللوم المقدمة اسم مرشح بديل لرئاسة الحكومة، قبل عرضها" على البرلمان. وبيّنت أنه "فور قبول استقالة الفخفاخ يشرع سعيد في مشاورات لاختيار الشخصية الأقدر في أجَل عشرة أيام بحسب ما ينص عليه البند 89 من الدستور"، مشيرة إلى أن "المشاورات ستجري مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية التي ستخلف الفخفاخ".
وأضافت كريم أنه "بإمكان سعيد القيام، بنفس مسار تكليف الفخفاخ، بمراسلة المعنيين بالمشاورات كتابياً، ثم يختار الشخصية الأقدر. ويمنح الدستور رئيس الحكومة المكلف تكوين حكومته في أجَل أقصاه شهر، قبل عرضها على البرلمان لنيل الثقة". وأشارت إلى أن "الفخفاخ يواصل دستورياً ممارسة مهامه على رأس الحكومة إلى حين تسليم السلطة لرئيس الحكومة الجديد بعد نيل ثقة البرلمان، وأداء اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية". واعتبرت أن التوجه لسيناريو "حكومة الرئيس 2" كما يسميها السياسيون يُعد زمنياً أسرع لانتقال السلطة إلى الحكومة الجديدة، موضحة أن "الدستور لم يتعرض إلى ما اصطلح عليه إعلامياً بحكومة الرئيس، لأن الأحزاب والكتل هي التي ترشح وتقترح فعلياً، وليس الرئيس الذي يمنحه الدستور اختصاص اقتراح وزيري الدفاع والخارجية".
إلا أن إشكالاً دستورياً طرحه الخبراء بهذا الصدد، إذ يفترض سقوط الحكومة الجديدة في البرلمان وعجزها عن نيل الثقة، أن يقوم الرئيس بحل مجلس الشعب والدعوة إلى انتخابات جديدة، لكن الدستور يمنع، في الوقت ذاته، حل البرلمان قبل فترة ستة أشهر من أول تكليف حكومي (نالته حكومة الفخفاخ في 27 فبراير/شباط الماضي، ما يعني أنها تنتهي في 27 أغسطس/آب المقبل). ويعني هذا أنه سيكون على الجميع التوصل إلى تشكيل حكومة جديدة في ظرف 40 يوماً أو مواجهة حل البرلمان، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات سياسية على الجميع.
وأشار المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن "المشهد السياسي المستقبلي بعد حكومة الفخفاخ لن يختلف عما قبلها، ما دامت نفس المكونات البرلمانية والكيانات السياسية تتعاطى مع الواقع والأحداث والمتغيرات بنفس الشكل". وقال: "اليوم انفضّ حزام برلماني وولد من أنقاضه حزام برلماني جديد"، مشيراً إلى أن "القائمين على لائحة اللوم لسحب الثقة من الفخفاخ هم أنفسهم الائتلاف الحكومي الجديد (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة والمستقبل)، في وقت سيتحول حلفاء الأمس الذين يقودون حملة سحب الثقة من الغنوشي إلى صفوف المعارضة (التيار الديمقراطي والشعب وتحيا تونس والإصلاح)".
ورجح المؤدب أن "تتنازل النهضة عن نصيب الأسد في التشكيل الحكومي الجديد، بهدف توسعة الحزام لتفادي إسقاطها بيسر. كما يُتوقع أن تخفض من حجم التوتر البرلماني لجلب أكبر قدر من الحشد البرلماني خشية السقوط في مربع حل البرلمان وإعادة الانتخابات". واعتبر أن "التحالف الجديد هو التحالف السليم الذي كان من الأفضل الدخول به منذ البداية، فالنهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة ثلاث كتل متقاربة من حيث المصالح والمطامح أكثر من باقي الكتل، رغم اختلاف المرجعيات والتوجهات". وأضاف: "لا خوف على تونس من تغيير الحكومة، فقد سبق خلال العام 2016 سحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد ومنح الثقة ليوسف الشاهد خلال نفس الشهر من دون تسجيل أية مخاطر، بل تحولت العملية الدستورية الانتقالية بعد هدوء الأوضاع نموذجاً في التداول الديمقراطي".
ولكن هل تتفادى "النهضة" أخطاءها السابقة وتتمسك بحكومة الوحدة الوطنية، وهل ستوجه الدعوة إلى "التيار الديمقراطي" و"الشعب" و"تحيا تونس"، أو أحدها، للمفاوضات الجديدة؟ القيادي في "حركة النهضة" النائب سمير ديلو وجّه رسالة إلى من وصفهم بأصدقائه في "حركة الشعب" و"حزب التيار الديمقراطي"، قال فيها: ''لا تلعنوا المستقبل...اختلافاتنا جزئية أمام كلّ ما يجمعنا". ودعا، في تدوينة، أنصار "النهضة" إلى عدم الاستثمار في العداوة، معتبراً أنّ "التيار الديمقراطي وحركة الشعب "شريكان، اليوم وغداً'". وقال: ''كلمة لأنصار حركة النهضة: لا تستثمروا في العداوة. التيار وحركة الشعب ليسا عدوّين، بل هما شريكان، اليوم وغداً''. وتؤكد جميع التوليفات المنتظرة والمتوقعة لتشكيل الحكومة أن المشهد سيبقى على حاله، طالما لم يحدث حوار صادق ومكشوف بين كل هذه الأطراف هدفه إنقاذ البلاد، والتوافق على الحد الأدنى المشترك والارتقاء فوق الخلافات، وهذا أمر صعب بحسب ما بيّنته أقصر تجربة حكومة تونسية، بما يدفع إلى التفكير بجدية أن الحل الأفضل قد يكون الذهاب إلى انتخابات جديدة، رغم كلفتها، لعلها تفرز مشهداً مغايراً.