وأخيراً، صدرت الترجمة الفرنسية لرواية "خلف آثار انتحار" (دار Bleu Autour) للكاتبة التركية تيزير أوزلو (1942 ـ 1986)، مرفقةً بالسيناريو الذي استقته منها. ونقول أخيراً لأن هذين النصّين اللذين كتبتهما أوزلو باللغة الألمانية لم يصدرا إلا بالترجمة التركية التي وضعتها الكاتبة لهما، رغم قيمتهما الأدبية وتضمّنهما تفاصيل لا تحصى حول حياة وطريقة تفكير "طفلة الأدب التركي الشقية".
ولمن لا يعرف أوزلو، نشير إلى أنها ولدت في منطقة الأناضول، وعاشت طفولة ومراهقة صعبتين بين والدين علمانيين نشطا في مجال التعليم، والمدرسة الكاثوليكية النمساوية في إسطنبول حيث درست. لكن عشقها للحرية وللسفر والمغامرات العاطفية دفعها إلى الرحيل قبل إنجاز تعليمها، فتنقّلت بين مدن أوروبية كثيرة، أبرزها باريس وبرلين وزيوريخ، حيث توفّيت باكراً بعد إصابتها بمرض السرطان، تاركةً خلفها أعمالاً أدبية جريئة بقدر ما هي مشعّة.
ومن إنجازات أوزلو نذكر، على مستوى الترجمة، نقلها من الألمانية إلى التركية بعض نصوص كافكا ونصّي إنغمار برغمان "الفراولة البرّية" و"عبر المرآة"، وعلى مستوى الكتابة، قصصها الغزيرة وخصوصاً روايتيها اللتين تتحلّيان بطابع السيرة الذاتية. الرواية الأولى صدرت عام 1980 بعنوان "ليالي الطفولة الباردة" وتُرجمت إلى الألمانية ثم إلى الهولندية فاليونانية والفرنسية. أما الرواية الأخرى، " خلف آثار انتحار"، فكتبتها أوزلو مباشرةً باللغة الألمانية عام 1982.
ومع أن هذه الرواية نالت "جائزة ماربورغ الأدبية" التي تُمنح لنص ما يزال على شكل مخطوطة، إلا أن أوزلو لم تجد لها ناشراً في ألمانيا، وهو ما دفعها إلى إصدارها في إسطنبول عام 1984 بعد أن ترجمتها شخصياً، وبكثير من التصرّف، إلى التركية. ومن هذه الرواية استقت سيناريو بعنوان "الحياة خارج الزمن"، كتبته بالألمانية، لكنه لم يصدر بدوره إلا بالنسخة التركية التي وضعتها له.
وكان على هذا النص انتظار الروائية والمترجمة الفرنسية ديان مور كي يحظى، مع الرواية التي تقف خلفه، بترجمة إلى الفرنسية، علماً أن الترجمة جرت انطلاقاً من النسخة الألمانية نظراً إلى تفوّقها شعرياً على النسخة التركية. وفعلاً، تتميّز النسخة الألمانية لرواية "خلف آثار الانتحار" بقوة شعرية واضحة تتجلى خصوصاً في تحرّر أوزلو داخلها من الحدود الجغرافية والزمنية، لكن من دون أن يؤدّي ذلك إلى تيه القارئ الذي يقبل بمرافقتها في سفرها المسرود داخل هذا النص.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كتابة أوزلو لروايتها باللغة الألمانية كانت خياراً متعمّداً، كما يشهد على ذلك ما كتبته حول هذا الموضوع في دفتر يومياتها: "ماذا تعني اللغة؟ يمكن للّغة أن تكون واجهة منزل برليني قديم، جادّةً مزفَّتة بشكلٍ سيئ، أو ليلاً فحسب. أحياناً، [يمكنها أن تكون] جسداً رفيعاً وشاحباً، أو جملة كاتبٍ لا ملح فيها إلا باللغة الألمانية. [...] من أين أنا؟ من أبٍ وأمٍّ غريبَين عليّ. من لغة أضحت غريبة عليّ. من الطبيعة التي تفرحني وتخيفني. من بلدٍ تألمتُ فيه وأريد الهروب منه".
وفي هذه الرواية، تسرد أوزلو تفاصيل سفرٍ حقيقي قامت به عام 1982 بهدف تقفّي آثار أخوتها في الروح، أي الكتّاب الثلاثة كافكا وإيتالو سْفِيفو وسيزار بافيزيه. وفي تلك الفترة، كانت أوزلو تقيم في برلين الغربية حيث نراها مسكونة بذكريات قريبة وبعيدة؛ ذكريات طفولتها في الأناضول؛ ذكرياتها الأليمة في مستشفى الأمراض العقلية حيث أمضت فترة من حياتها بسبب معاناتها من حالات اكتئاب، وخضعت لصدمات كهربائية؛ ذكريات القمع الذي تعرّض له أصدقاؤها على يد الدولة؛ ذكريات أسفارها العديدة إلى أوروبا وزواجها مرّتين، من دون أن ننسى فقدانها عام 1982 صديقتها كريستا، زوجة الكاتب الألماني جواكيم سارتوريوس، وصديقها الكاتب والمخرج السينمائي بيتر فايس.
إذاً، لدينا في البداية مشهد فوضى عاطفية وزمنية لا يخلو من الشعر أو الفكاهة، لكن على القارئ أن يقبل مؤقّتاً البقاء، داخله، في العتمة أو الضبابية المتعمّدة. وبينما يعود ضمير المخاطب، الذي يحضر مرّات عدّة في الصفحات الأولى، تارةً إلى الأنا الأخرى لشخصية أوزلو الفصامية، تارةً إلى بافيزيه، صنوها، وتارةً إلى الصديق المتوفّي فايس؛ يعود ضمير الغائب تارةً إلى سارتوريوس، تارةً إلى العشيق الشاب التي ستقطع علاقتها به وهي في طريقها إلى إسطنبول، وتارةً إلى أشخاص آخرين يصعب تحديدهم.
باختصار، تتعاقب شخصيات وأماكن وحقب إلى ما لا نهاية، وبطريقة عشوائية، ما يُحدِث التباسات أو خلطاً لا نبالغ إن ربطناه بالجنون الذي بقي متربّصاً بالكاتبة. وفي هذا السياق، يبدو العالم الثابت الوحيد والصالح للعيش، في هذه الرواية، هو عالم الأدب والكتّاب الذين صالحوا أوزلو مع نفسها. من هنا قرارها السفر لزيارتهم في ديارهم: في مدينة براغ، وتحديداً المقبرة التي دُفن كافكا فيها؛ في مدينة ترييست الإيطالية، وتحديداً في الشقة القديمة والمليئة بالذكريات حيث استقبلتها ابنة إيتالو سْفِيفو؛ في مدينة تورينو، الإيطالية هي الأخرى، التي اختار بافيزيه الموت فيها، وفي بلدة سانتو ستيفانو بيلبو حيث وُلد، التي شكّلت الهدف النهائي لسفر الكاتبة ومكان شفاءٍ أكيد لها.
وحتى هذه الأسفار لا تحضر داخل الرواية بتسلسل تاريخي دقيق. ولعل السبب هنا يعود إلى الإكراهات التي فرضها تنقّلها الثابت. إذ يجب انتظار وصولها إلى فيينا كي تجد الوقت لتسجيل ما عاشته في براغ. وفقط عند الحدود البلغارية ستستحضر الليلة التي قطعت فيها علاقتها بعشيقها الشاب، داخل السيارة التي كانت تقلّهما. لكن الأكيد هو أن هذا التداخل الملغَّز والساحر بين مختلف معطيات الرواية يشكّل نشيداً مديحياً للأدب وسلطاته.
وفعلاً، بتقفّيها آثار كافكا وسْفيفو وبافيزيه الذين رحلوا عن هذه الدنيا، تستعيد الكاتبة طعم الحياة، وبالتالي زمنية مشبّعة بالمعنى، وحرّية داخل عالمٍ بلا حدود، هو عالم الفن، والقدرة على حب الآخرين، ولو بشكلٍ عابر، كما يتجلى ذلك في اللقاءات والعلاقات الشهوانية التي توقّع هذه الرواية والأسفار المروية داخلها.