ثرثرة فوق النيل
في المشهد، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يقف في مؤتمر صحافي إلى جانب رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد في أثناء زيارته القاهرة في العاشر من يونيو/ حزيران 2018، مخاطباً إياه في مؤتمر صحافي: "قل والله لن نقوم بأي ضرر بالمياه في مصر". واستجاب آبي أحمد مكرّراً القسم. لا تعليق يليق بالمقام والمناسبة من عبارة "لم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة" التي وردت على لسان إحدى شخصيات رائعة نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، تعبيراً عن سخرية الواقع السياسي والاجتماعي الذي آلت إليه مصر.
تصور الرواية التي صدرت طبعتها الأولى عام 1966، الواقع المصري، وربما العربي، آنذاك، إذ يلتقي أصدقاء حول مائدة "كيف" يثرثرون طوال الليل في الشأنين، العام والخاص، يخوضون في المسرح والأدب، وصراع الرأسمالية والاشتراكية، واندحار الفاشية، ويرمون واقعهم بنقد لاذع، في هذيانٍ لا يخلو من بعض الحكمة. في عام 1971، ظهرت "ثرثرة فوق النيل" على شاشة السينما في فيلم من إخراج حسين كمال، وبطولة نجوم السينما آنذاك، أحمد رمزي، سهير رمزي، ميرفت أمين، عماد حمدي، عادل أدهم. تحاول شخصيات الفيلم الهروب من الواقع اليومي البائس بعد هزيمة 1967، يجتمعون في عوّامة مربوطة على ضفة نهر النيل من يتعاطون الحشيش والثرثرة، منهم الموظف المحبط أنيس زكي، وسنية الغاضبة من خيانة زوجها، وسمارة الصحافية الناقمة على كل شيء .. وآخرون.
تحضر حوارات الحشاشين في متن الرواية، في حوارات كتبها نجيب محفوظ قبل ما يزيد عن نصف قرن، وكأنها تتحدث عن حال مصر الراهنة، إذ تعيدنا ثرثرات عبد الفتاح السيسي والمهزلة المشار إليها أعلاه، إلى ثرثرات العوّامة التي كانت تجري فوق مياه النيل. الفرق أن ثرثرات السيسي وشلته تمس حياة النيل، شريان حياة مصر، ثرثرات لا تؤدّيها شخصيات متخيلة، أو ممثلون متقمصون أدوارهم كما رسمها المخرج، بل يخوضها باحثون عن نصر في الغرب، هروباً من هزيمةٍ، تجري مياهها المنهمرة من الجنوب، تحت أقدامهم المرتجفة.
من دون الخوض في ثرثرة نظام السيسي وشلته من المخدوعين والمخادعين، لا تفسير لما آلت إليه قضية سد النهضة، سوى ضعف مصر التي صارت "حيطة واطية" للبعيد والقريب، وإلا كيف نفهم تفاخر وزير خارجية إثيوبيا، غيدو أندارجاشو، وتغريده الأربعاء الماضي، عقب انتهاء المرحلة الأولى من ملء السد النهضة، قائلا: "النيل لنا". هل كان لوزير خارجية إثيوبيا أو غيرها أن يتجرّأ على مصر، لو كان لها قيادة تحمي حقوقها المائية في نهر النيل بالأفعال، لا بثرثرات خاوية، واستعراضات خطابية هزلية.
من سخريات الأزمة، أن برلمان السيسي، وبعد جلسات ثرثرة، لا تخلو من رائحة الكيف، بدلاً من منح الرئيس وجيشه تفويضاً لوقف إثيوبيا التي تعتدي على حياة المصريين ، يأتي التفويض لمصلحة تدخل عسكري في ليبيا. لم يعد خافياً عجز النظام المصري أمام إصرار أديس أبابا على المضي في خططها بخصوص سد النهضة. يحاول السيسي الهرب إلى الأمام، إخفاء غابة الإخفاقات التي ألقى مصر فيها منذ انقلاب 2013، والاختباء خلف إصبع التدخل في ليبيا، مُتبرّماً بوقوع مصر تحت تهديد من قوات حكومة الوفاق الوطني التي تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن الحدود المصرية، ولم تعتد على مصر، ولم تنازع المصريين على جرعة الماء.
يختم حسين كمال فيلم "ثرثرة فوق النيل" بنهاية حادّة وعميقة في رمزيتها، حيث يفصل عم عبده (الحارس) حبل العوامة بعد خروج أنيس وسمارة، عن اليابسة، لتُبحر هائمة على وجه مياه النيل بلا وجهة، بينما يغرق الساهرون على متنها في ثرثراتهم الليلية العبثية تحت سحب كثيفة من دخان الكيف، غير عابئين بمسار العوامة. كأن عبقرية نجيب محفوظ تنبأت بما آلت إليه أحوال المحروسة راهناً، منذ انقلاب 2013، وغرق جنرالاتها القاعدين والمتقاعدين في ثرثراتهم، سُكارى بنشوة انتصاراتٍ لا يراها غيرهُم.