ثقب السلّة الأميركية
قبل أشهر قليلة، لم يكن أحد يتخيل أن موازين القوى في المنطقة ستنقلب إلى هذا الحد. كان هناك تسليم بأن العجز قدر عربي أمام ما هو قائم في المحيط، وأن موقف المتفرج على ما هو حاصل في سورية والعراق، ولاحقاً اليمن، سيبقى على حاله إلى أن يقرر الأميركيون غير ذلك، طالما أن إدارة أوباما غارقة في مفاوضاتها النووية مع إيران، صاحبة القرار الحاسم في أحداث المنطقة، وخصوصاً أنها المحرك الأساس للقوى الفاعلة فيها.
كان هذا قبل أشهر قليلة، وتحديداً قبل القرار العربي بالتدخل في اليمن لمواجهة المد الحوثي، الذي كان يحصل أمام مرأى ومسمع الولايات المتحدة، التي كان مسؤولوها يرددون دوماً مطالبتهم لإيران بـ"الكفّ عن زعزعة استقرار اليمن". لكنهم في الوقت نفسه كانوا يفاوضون على حصص تخصيب اليورانيوم المسموح لطهران القيام بها مقابل رفع الحصار، والذي يسمح للجمهورية الإسلامية بسيولة تفتقدها تساعدها على تمويل حروبها الإقليمية.
كان من الواضح أن قياس المصالح يتحكم في الخيارات السياسية الأميركية، بغض النظر عن تحالفاتها الاستراتيجية القديمة في المنطقة. فرغم محاولات الطمأنة الكثيرة من قبل المسؤولين الأميركيين، رأى الحلفاء أن في سياسة الولايات المتحدة تهديداً مباشراً لدول المنطقة التي كانت، ولا تزال نوعاً ما، تركن إلى التدخل الأميركي لحماية مصالحها.
إلى تلك اللحظة، كانت دول المنطقة الحليفة للولايات المتحدة، وخصوصاً الدول الخليجية، مقتنعة بقرار وضع كل بيضها في السلة الأميركية، والركون إلى خيارات الإدارات المتعاقبة لتقرير مصير المنطقة. لكن مع بدء التحرك العسكري لدول التحالف العشري في اليمن، كان من الواضح أن هذه الدول أحدثت ثقباً في هذه السلة، وبدأت بتوزيع بيضها والتصرف فيه وفق خياراتها الشخصية وتحديد مصالحها المباشرة. اليمن كان الخطوة الأولى، و"عاصفة الحزم" وما تلاها كان مفاجئاً لكثير من المراقبين، المحليين والغربيين، الذين لم يكونوا يتوقعون تحركا عربيا منفردا خارج القرار الأميركي. قرار إلى اليوم لا يزال غير راضٍ عن العملية العسكرية، وها هو يسارع للدعوة إلى تعليق الغارات والبحث عن خيار سياسي، رغم أنه لم يكن راعيا مباشرا منذ البداية لهذا الخيار، طالما أن الأحداث في اليمن لا تنعكس مباشرة على مصالحه.
الثقب اليمني في السلة الأميركية ما لبث أن اتسع، وها هي سورية تنضم إلى خطوات التحرك العربي- الإقليمي المنفرد المتمرد على القرارات الأميركية. 4 سنوات مرت على بداية المقتلة السورية، وسط عجز وصراع عربيين، دفع ثمنهما السوريون من لحمهم الحي، بانتظار توافق بين الأقطاب الإقليمية والإدارة الأميركية على كيفية حل هذه الأزمة. اليوم لا يبدو أن أحداً من الأطراف الإقليمية سيبقى منتظراً القرار الأميركي، وهو ما يتضح من المعلومات عن تفاهم تركي - سعودي على تسليح ودعم المعارضة السورية لإطاحة نظام بشار الأسد. أمر كان الأميركيون، ولا يزالون، يتحفظّون على المضي فيه إلى النهاية، وهو ما عرقل خطوات في هذا الاتجاه من دول مستعدة لذلك. غير أنه يبدو أن واقع الحال تغير اليوم، وبات للأطراف الفاعلة في المنطقة أجندتها الخاصة، بعيداً عن حسابات المصالح الأميركية.
التحول في استراتيجية دول المنطقة التي يبدو أنها لم تعد بانتظار الأضواء الخضراء من "شرطي العالم"، أقلق الأميركيين الذين يسارعون اليوم إلى احتواء التحرك الخارج عن إرادتهم، وجذب دولاً أخرى، فرنسا على سبيل المثال، تحاول الاستفادة من ما يمكن تسميته اليوم "الحكم الذاتي" العربي والإقليمي.
لهذه الدول اليوم سلتها الخاصة، وشروطها التي تفرضها على الولايات المتحدة من منطق قوة، وهو ما يتضح من الشروط التي يعلن عنها المسؤولون الخليجيون قبل القمة المرتقبة بين أوباما وقادة دول مجلس التعاون في كامب ديفيد. شروط تؤكد أن لدول المنطقة خياراتها اليوم، وأن السلة الأميركية لم تعد مناسبة كلياً، من دون أن يعني ذلك التخلي عنها بالمطلق.