في الذكرى الثامنة لإطاحة العقيد معمر القذافي في العام 2011 ونظامه في ليبيا، والتي تصادف اليوم الأحد، لا تتوفر مؤشرات جدية توحي باقتراب الليبيين من التوصل إلى مرحلة الدولة، رغم تناوب سبعة مبعوثين أمميين على منصب الوساطة بين الأطراف المتنازعة للتوصل إلى حل.
حل غائب بفعل مجموعة أسباب يصعب توزيعها بشكل عادل بين الداخل والخارج، بين ضعف ثقافة الدولة وغياب الأحزاب والبنية القبلية الغالبة في هذا البلد، والقسط الهائل للقذافي في المسؤولية عن التصحر السياسي، وانتشار السلاح في يد مئات المليشيات والنزعات الانفصالية شرقاً وجنوباً، من جهة، والتعامل الإقليمي والدولي مع ليبيا كساحة نفوذ ومجرد جدار لصد اللاجئين السريين الآتين من العمق الأفريقي إلى أوروبا، وكبئر نفط، لا كبلد ودولة، تختلف فيها المصالح وتتقاتل بالإنابة للتحكم بالملف الليبي، من جهة ثانية. هكذا، سقط النظام الدموي للقذافي، ولم يحل مكانه بديل، سوى الفوضى والحرب والتسيُّب والفساد والتقسيم، فعلياً إن لم يكن رسمياً.
نجح الليبيون في تنفيذ أول انتخابات برلمانية في العام 2012، وتكليف حكومة مؤقتة، لكن ذلك النجاح السياسي كان مهدداً بسبب الأوضاع الأمنية المتهاوية على خلفية انتشار السلاح وبدء تشكيل المجموعات المسلحة على أساس مليشياوي، فلم تتمكن سلطات المؤتمر الوطني (البرلمان) في حينها من دمج مجموعات المسلحين في أجهزة الأمن والجيش، ما ساعد على اندلاع الخلافات المسلحة في أكثر من مناسبة وطيلة أشهر بين مختلف المليشيات، بالتزامن مع ظهور نعرات انفصالية ظهرت في مطالب التيار الفدرالي باستقلال ذاتي لشرقي ليبيا، وتأسيس المكتب السياسي لإقليم برقة في سبتمبر/أيلول 2013 ومحاولة بيع النفط عبر ميناء السدرة لصالحه، قبل أن تتمكن أطراف دولية من محاصرة ناقلة النفط "مورننغ كلوري" وإرجاعها إلى الموانئ الليبية.
قد تكون أبرز محطات تأزيم الأوضاع الليبية سياسياً وعسكرياً، إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر عملية عسكرية عُرفت بـ"عملية الكرامة" في بنغازي في إبريل/نيسان 2014. عن هذا الموضوع، يقول المحلل السياسي الليبي مروان القمودي، لـ"العربي الجديد"، إن أزمة حفتر تتمثل ليس في ظهوره فحسب "بل أيضاً في تزامن بروزه مع إعلان نتائج ثاني انتخابات برلمانية جرت في أغسطس/آب من العام نفسه، حين نجح مؤيدو حفتر في جمع النواب في مدينة طبرق شرقاً، ما جعل ذلك البرلمان ذراعاً سياسية أكسبت حفتر تأييداً سياسياً وشرعية أمنت له صفة قائد للجيش برتبة مشير" بدعم إقليمي علني من دولتي الإمارات ومصر إقليمياً، ودولياً من فرنسا وروسيا. ودخلت ليبيا منذ ذلك التاريخ في أتون انقسام سياسي كبير، بحكومتين وبرلمانَين، بسبب رفض مكوّنات سياسية ومسلحة في طرابلس الاعتراف ببرلمان حفتر، فأعادوا المؤتمر الوطني (البرلمان الأول المنتخب بعد الثورة) إلى الواجهة، خصوصاً بعد حكم المحكمة العليا بعدم دستورية البرلمان في طبرق، ورغم سيطرة مناوئي حفتر على طرابلس ومعظم مناطق الغرب الليبي. إلا أن حفتر تمكن من توسيع رقعة سيطرته خارج بنغازي، بدءاً بمنطقة الهلال النفطي، ثم درنة، وأخيراً إلى الجنوب الليبي، ما جعله رقماً في المعادلة الليبية والبحث عن دور له في أي تسوية.
وبالتزامن مع ذلك، تحولت البعثة الأممية من تقديم الدعم إلى دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة. وتُوجت جهودها بتوقيع اتفاق سياسي في مدينة الصخيرات المغربية نهاية 2015، أفرز "حكومة وفاق" ومجلساً أعلى للدولة إلى جانب البرلمان القائم في طبرق، والذي ماطل لأشهر في الموافقة على دسترة الاتفاق السياسي واعتماده قانوناً أساسياً، بسبب تعارض الاتفاق السياسي مع أهداف مشروع حفتر الحالم بتسيّد كل القوات المسلحة الليبية بشكل رسمي، وهو ما حرمه إياه اتفاق الصخيرات، ما حول مخرجات الاتفاق المغربي، وخصوصاً حكومة الوفاق ومجلس الدولة، إلى طرف في الأزمة.
ويعتبر مروان القمودي أن حالة الانقسام والخلافات هذه زادت من حدة الفراغ الأمني وتكديس السلاح ونشوء تنظيمات مسلحة محلية متعددة الولاءات والأهداف، تقاتل بعضها بعضاً لأسباب مناطقية وقبلية، وربما شخصية. وشكل تهريب السلاح والبشر نشاط أغلبها، لكن الأخطر منها التنظيمات الدولية، خصوصاً تنظيمي "القاعدة" و"داعش". والأخير رغم تواجده في أكثر من منطقة، فقد زادت قوته لدرجة إعلانه عن تأسيس عاصمته في سرت لأكثر من سنة قبل أن تتمكن حكومة الوفاق من طرده بمساعدة دولية. ودخلت المعادلات القبلية الجنوبية في حسابات حروب حفتر باستثمار الخلافات التاريخية بينها. كذلك انخرطت الحسابات الأيديولوجية في الحروب عندما انضمت المليشيات السلفية إلى قوات حفتر لقتال من يعارضونها في بعض المعتقدات ووصفهم بالخوارج. و"ينتمي إلى هذا الصنف مقاتلو التنظيمات المتطرفة كالقاعدة في بعض مناطق الجنوب" على حد تعبير القمودي. لكن أكبر القوى المسلحة، بحسب القمودي، هي المليشيات التي تدعمها أطراف سياسية، كحكومة الوفاق في طرابلس، أو المليشيات القبلية وبقايا كتائب القذافي التي يعتمد عليها حفتر وتتلقى دعماً وتدريباً إقليمياً ودولياً، بالإضافة للقوة المناطقية، وأبرزها قوى مصراتة التي تعتبر الفصائل المناطقية الكبرى.
لكن عوامل تعقد الأزمة لا تقتصر على الأسباب المحلية، بل تؤدي الصراعات الإقليمية الدولية دوراً كبيراً، رغم ما توحي به المؤتمرات الدولية التي جمعت القادة الليبيين الرئيسيين الأربعة (رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ورئيس البرلمان عقيلة صالح، وخليفة حفتر) في باريس وباليرمو. وفي هذا السياق، يرى أستاذ العلوم السياسية في عدد من الجامعات الليبية، خليفة الحداد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الأمم المتحدة نفسها شاركت أكثر من مرة في عرقلة التوصل إلى حل، عن قصد أو من دونه، مؤكداً أن الأمم المتحدة، رغم جهودها، لا تمتلك القدرة على الحد من التدخلات الدولية. ويشدد الحداد على أن تعدُد المبادرات والوسطاء الإقليميين والدوليين عرقل مسار المحادثات بين الفرقاء الليبيين، فكل دولة تطرح المبادرة بما يتفق مع مصالحها ومصالح وكلائها في الداخل الليبي. ووسط تنازع الشرعيات والتصعيد العسكري، طرحت الأمم المتحدة، عبر مبعوثها الأخير غسان سلامة، في سبتمبر/أيلول 2017، خارطة طريق جديدة لإنهاء الانقسام السياسي ولتوحيد مؤسسات الدولة، بواسطة انتخابات برلمانية ورئاسية، عبر ثلاث مراحل، أولها عبر تعديل الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات، وعقد ملتقى وطني جامع لكل الأطياف والشرائح الوطنية، وانتهاء بتنظيم انتخابات بعد إنجاز دستور دائم للخروج من حالة الانقسام وإنهاء المراحل الانتقالية. لكن أياً من مراحل الخطة الأممية لم يُكتب له النجاح، وسط تأزيم سياسي بسبب مماطلة مستمرة للبرلمان في طبرق في إنجاز استحقاق الاستفتاء على الدستور، في موازاة تصعيد عسكري من قبل حفتر، تنقل بين أكثر من منطقة، بدءاً من بنغازي والهلال النفطي ودرنة خلال العام الماضي، وانتهى بحملة عسكرية لا تزال نتائجها غامضة في الجنوب الليبي حالياً.
ورغم توافق قادة ليبيا الأربعة خلال لقاءي باريس وباليرمو في العام الماضي، على ضرورة إجراء انتخابات، إلا أن حصول هذا الاستحقاق المهم لا يزال محل شكوك جراء تناقضات الواقع وتغيراته. ويعتبر مدير المركز الليبي للسياسات والدراسات الأمنية، خالد أوحيدة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن خطة الأمم المتحدة الحالية تعتبر فرصة أخيرة للوصول إلى مرحلة إرساء الدولة، لكنه يرجح عدم نجاحها "لأن تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن وجود 20 مليون قطعة سلاح موزعة على ستة ملايين شخص، هم مجموع عدد سكان ليبيا". ويعرب أوحيدة عن قلقه لأن "الأمم المتحدة لا يبدو أن لديها بديلا في حال فشل خطتها الحالية". ويرفع من مستوى قلق أوحيدة أن "انتشار السلاح قد ينقل الأزمة إلى مسارات أخرى، من بينها احتكام أطراف للسلاح في ردة فعل على مساعي حفتر السيطرة على كل ليبيا، وبالتالي فإن سيناريو التقسيم على أساس مناطقي وقبلي وجغرافي لن يكون مستبعداً عندها" على حد تعبيره. لكنه في المقابل، لا يستبعد أن تتفكك البنية العسكرية الحالية لقوات حفتر، ما قد يضعف من فرص الأخير في السيطرة العسكرية، خصوصاً إذا اقترب من العاصمة طرابلس. وبرأي أوحيدة فإن "أقرب السيناريوهات إلى المنطق اليوم، جمود الأوضاع واستمرار الأزمة في شكلها السياسي والعسكري الحالي مع مواصلة الأمم المتحدة جهود التوصل إلى حلول في انتظار توافق دولي حول رؤية موحدة للحل، فهي المفتاح الأساسي لانتهاء الأزمة".