تبخّرت الآمال في إسبانيا بتشكيل حكومة وحدة وطنية، تُخرج البلاد من دوّامة أزمة سياسية خانقة، فرضت شغوراً سياسياً غير مسبوق. وبات محتماً على البلاد تنظيم انتخابات تشريعية في 26 يونيو/حزيران المقبل، بعد فشل كل الأطراف في التوصّل إلى تشكيل ائتلاف حكومي بعد انتخابات 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
في هذا السياق، دقّ مناصرو حركة "بوديموس" اليسارية الراديكالية، بزعامة بابلو إيغليسياس، آخر مسمار في نعش الأزمة الحكومية، حين صوّتوا ليل الاثنين الماضي، بنسبة 82.2 في المائة في استفتاء عام ضد مبدأ "المشاركة" في حكومة ائتلاف وطني يقودها الحزب "الاشتراكي" بزعامة بيدرو سانشيز، وحركة "ثيودادانوس" الليبرالية الوسطية بزعامة ألبرت ريفيرا.
وكانت أربعة أشهر من المفاوضات الشاقة، قد تمخّضت عن اتفاق بين "الاشتراكي" و"ثيودادانوس"، سانده 131 نائباً من أصل 350 في البرلمان الجديد، إلا أنه كان في حاجة إلى دعم نواب "بوديموس" لتشكيل حكومة وحدة وطنية. غير أن "بوديموس" قَلَب الطاولة على الجميع، وقرّر عدم المشاركة في هذه الحكومة، رغم كونه متحالفاً مع "الاشتراكي" في قيادة عدد من البلديات والمجالس الإقليمية. وهنا المفارقة فـ"بوديموس" يتحالف مع "الاشتراكي" محلياً وإقليمياً، لكنه يرفض التحالف معه وطنياً.
وجاء هذا التطور السلبي ليُناقض تماماً غالبية التوقعات، التي تنبأت غداة انتخابات 20 ديسمبر الماضي بتشكيل حكومة يسارية، عمادها تحالف بين "الاشتراكي" الذي حصل على 22 في المائة من الأصوات، و"بوديموس"، الذي حصل على 20.7 في المائة، مع ترجيح التحاق النواب الاستقلاليين من إقليمي كتالونيا والباسك، بهذه الحكومة، أو على الأقل الامتناع عن التصويت ضدها.
ومما رجّح هذه الفرضية، أن الحزب "الشعبي" بقيادة رئيس الوزراء المنتهية ولايته ماريانو راخوي، الذي حلّ أولاً في الانتخابات بنسبة 28.7 في المائة من الأصوات، عاجز عن إيجاد حلفاء له في البرلمان الجديد. لكن هذه التوقعات ذهبت أدراج الرياح بسبب شرطين أساسيين، وتعجيزيين بالنسبة لـ"الاشتراكي"، وهما: تنظيم استفتاء حول استقلال إقليم كتالونيا، وأيضاً حجم تمثيل "بوديموس" في الحكومة، الذي عليه أن يعكس حجم الأصوات التي نالها في الانتخابات.
والواقع أن الخريطة السياسية التي تمخّضت عنها الانتخابات الأخيرة في غاية التشابك والتعقيد. في إقليم كتالونيا، حقق "بوديموس" أفضل نتائجه الانتخابية، بفضل تحالفه مع أنصار رئيسة بلدية برشلونة، الناشطة اليسارية آدا كولو، الذين وعدهم "بوديموس" بمساندة مبدأ تنظيم استفتاء حول استقلال الإقليم. مع العلم أن هؤلاء رهنوا امتناعهم عن التصويت ضد حكومة ائتلاف يسارية بهذا الشرط. لكن "الاشتراكي" يرفض بالمطلق مبدأ الاستفتاء ويحارب بشراسة فكرة انفصال هذا الإقليم عن الدولة الإسبانية. وهنا مكمن الاختلاف الجوهري الذي أطاح بفكرة التحالف من أساسها.
أما الشرط الثاني الذي زاد من تعميق الهوة بين "الاشتراكي" و"بوديموس"، فهو إصرار إيغليسياس، على انتزاع منصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة العتيدة. وسبق لإيغليسياس أن أثار امتعاض الاشتراكيين، حين قال في 22 يناير/كانون الثاني الماضي، إنه "لا يثق كثيراً في أجهزة الحزب الاشتراكي ونخبته الطاعنة في الشيخوخة، لهذا يطالب بضمانة واضحة في مقابل مشاركته في الحكومة".
أما الضمانة في نظر إيغليسياس، فهي تمثيل "بوديموس" في الحكومة بما يليق بحجمه الانتخابي. ما يعني عملياً، منح الحزب نصف الحقائب الوزارية في الحكومة العتيدة. غير أن "الاشتراكي" رفض هذا الطلب، واعتبر أن "بوديموس لا يريد المشاركة في حكومة ائتلاف، بل يريد في الواقع إقامة حكومتين متوازيتين ومتناقضتين في نفس الحكومة".
وعلى ضوء هذين الشرطين المرفوضين اشتراكياً، بادر سانشيز في مطلع شهر فبراير/شباط الماضي، إلى فتح قناة تفاوضية جديدة مع حركة "ثيودادانوس"، بموازاة المحادثات مع "بوديموس"، من أجل سحب البساط من تحت أقدام النواب الاستقلاليين ونسف فكرة الاستفتاء الكتالوني. غير أن تقارب "الاشتراكي" مع "ثيودادانوس"، أثار حفيظة إيغليسياس الذي اعتبر هذه المبادرة تعبيراً عن النهج "الانتهازي" للنخبة الاشتراكية، خصوصاً أن "ثيودادانوس"، حركة ليبرالية يمينية وعلى النقيض تماماً من الخط اليساري الراديكالي لحركته.
ومع تعزيز موقف إيغليسياس، مساء الاثنين، بعد التصويت الحزبي ضد فكرة المشاركة في ائتلاف وطني، بات من الضروري تنظيم انتخابات تشريعية جديدة، ما يدفع "بوديموس" للرهان على هذه الانتخابات، للحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد في مجلس النواب، بالحجم الذي يتيح له إمكانية تشكيل حكومة من دون "الاشتراكي" عبر التحالف مع النواب الشيوعيين والخضر. لكن عدداً من المراقبين يرون في هذا الرهان مجازفة غير مضمونة العواقب، لأن الناخب الإسباني ملّ من لعبة التحالفات السياسية المعقّدة، والحماس الذي أثاره "بوديموس" بدأ في الانحسار، مع تراجع نسبة البطالة وخفوت حدة الأزمة الاقتصادية. كما أن عدة استطلاعات للرأي بدأت تسجل أخيراً صعود أسهم الحزب "الشعبي" اليميني و"ثيودادانوس" في أوساط الناخبين الاسبان، ما قد يُعرّض "بوديموس" لنكسة انتخابية تطيح بحلمه في قيادة البلاد.