شهد لبنان، يوم أول من أمس، تظاهرة مطلبية، لحث الحكومة على حل أزمة النفايات المُتراكمة في محافظتي بيروت وجبل لبنان منذ نحو شهرين. تظاهرة كانت قد سبقتها تحركات عدة نظمتها حملة "طلعت ريحتكم"، التي استقطبت بداية عشرات المواطنين ثم المئات ثم الآلاف. وتحول التعاطي الأمني معهم من "الاستخفاف بهم" إلى استخدام العنف المفرط من دون مراعاة لمطالبهم، أو الاكتراث لوجود أطفال وكبار سن بينهم.
وتنقّل المعتصمون بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وكادوا أن يصلوا إلى ساحة النجمة حيث مقر البرلمان. شارك مواطنون من مختلف المناطق والطوائف في هذا الحراك، جمعهم مطلب محق. فهؤلاء تعبوا من رائحة النفايات التي تعبق في الأجواء، بالإضافة إلى رائحة حرقها بسبب تكدسها في الشوارع. وكان في المقدمة ناشطون مدنيون ضاقوا ذرعاً بالانتماءات الحزبية، وقرروا إطلاق الحملات، علّهم يستطيعون خرق الجمود الذي يعاني منه البلد. فكانت حملات "إسقاط النظام الطائفي و"لا للتمديد" و"الحراك المدني للمُحاسبة". وخاض أعضاء "طلعت ريحتكم" نقاشات عدة، قبل الاتفاق على ترك سقف التحرك مفتوحاً أمام المواطنين، كما أشار عدد من هؤلاء لـ"العربي الجديد". حتى إن إحدى التحركات وصلت إلى منطقة الحمرا البعيدة نسبياً عن مقر الحكومة، حيث دعت الحملة إلى التظاهر.
وحين حاول المنظمون وضع إطار للتحرك، اتهموا باحتكاره والحصول على تمويل. فما كان منهم إلا أن ردوا بكلمات لم تحمل أي مضمون سياسي، مستعينين بآراء خبراء بيئيين، تحدثوا عن الضرر الناتج عن أزمة النفايات على صحة المواطنين. أيضاً، عرضوا كلفة الحملة التي موّلوها. هؤلاء يلومون الأجهزة الأمنية والعسكرية التي استخدمت العنف المفرط من دون أي رادع قانوني أو أخلاقي، قائلين إنه لا يمكن التراجع حتى محاسبة من تسبب في إصابة عشرات الشباب بالرصاص الحي والمطاطي.
بيئة نظيفة
مطالب كثيرة ترددت على ألسنة المعتصمين في رياض الصلح، الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة. أيضاً، جمعت الساحة عدداً من الشباب المنتمين إلى أحزاب متنوعة، الذين أصروا على حقهم في العيش في بيئة نظيفة، والتمتع بصحة جيدة. فلم يمانعوا المشاركة ضمن حملة "طلعت ريحتكم". من هنا، شارك عدد من الشباب في حركة "أمل" التي يرأسها رئيس مجلس النواب، نبيه بري، في الاعتصام الليلي، وذلك بعد انتهاء المواجهات.
ويلوم هؤلاء بعض المنظمين على طريقة إدارة الاعتصام. مع ذلك، يؤيدون دخول ساحة النجمة والاعتصام أمام البرلمان. بدا موقف هؤلاء غريباً بعض الشيء، إلا أن المشاركين رحّبوا بهم. وفي مكان آخر، وقف أحد المسؤولين في أحد الأحزاب المُنضوية ضمن تحالف قوى "14 آذار". أصر على ترك مسافة بينه وبين المتظاهرين، مشيراً إلى أن "الشارع ليس ملكاً لأي فريق اليوم، والتحرك أكبر من أي حزب". من هذا المُنطلق، كانت دعوة شباب هذا الحزب للمُشاركة كأفراد في هذا التحرك، بعيداً عن انتمائهم الحزبي.
وجوه جديدة
الحماس بين الشباب، الذي حرصت وسائل الإعلام المحلية على نقله، دفع غيرهم إلى الالتحاق بهم، علماً أنها كانت مشاركة بعضهم الأولى في الشارع. منهم محمد، الذي يتابع دراسته في ألمانيا. وقد وصل قبل أيام لقضاء إجازته في لبنان، ليجد نفسه في ساحة الاعتصام "بسبب الملل في المنزل وانقطاع التيار الكهربائي". يسأل مازحاً عن الرجل الذي ظهر على الهواء مباشرة، وشتم أحد المحامين، فيجيبه آخر: "تلك تظاهرة مُختلفة". يضحك ويمضي بين المُعتصمين بحثاً عن تلفزيون ألماني علّه يدلي بتصريح باللغة الألمانية التي تعلمها حديثاً.
اقرأ أيضاً: "طلعت ريحتكم" تعتصم في بيروت
خلال بحثه، يلتقي الطبيب حامد، وهو شاب بيروتي لم يسبق له أن شارك في أي تظاهرة. يبدو مُنزعجاً بعض الشيء من ضجيج المُعتصمين "والوقفة في الشارع". لكنه اقتنع بضرورة المشاركة بعدما شاهد مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي. وفي موقع قريب من مكان وقوف الطبيب وأصدقائه البيروتيين، شهدت الساحة نقاشاً طويلاً بين رئيس هيئة التنسيق النقابية الأسبق، حنا غريب، وعدد من الشباب الذين حاولوا الاستفادة من خبرته في التحركات المطلبية. قاد أستاذ مادة الكيمياء في الصفوف الثانوية مسيرة مطلبية امتدت سنوات لإقرار سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام. وانتهى الأمر حين خسر في انتخابات هيئة التنسيق النقابية بعد تدخلات سياسية حولت المعلمين من نقابيين إلى عناصر حزبية تتلقى الأوامر من السلطة السياسية. في السياق، يؤكد غريب لـ"العربي الجديد" على "ضرورة أن يقود الحراك اليوم قادة شباب يحددون أهدافاً واضحة ويعملون على تحقيقها في الشارع". يقاطعه أحد الشبان قائلاً: "إذا كان سقف المطالب مُرتفعاً فلن نتمكن من تحقيق أي شيء. فإسقاط الحكومة صعب". تتغير لهجة غريب ويحذر الشباب من "الحديث بلسان السياسيين. لا تكترثوا لهم، فالحكومة ساقطة شعبياً"، ثم ينتقل النقاش إلى الخطوات التنفيذية لإسقاط النظام السياسي. في المقابل، يعلق أحد المشاركين على هذا الحراك، ويأسف "لقضاء سنوات عدة في أحد الأحزاب اليسارية التي أورثتني أزمة اليسار". أول من أمس، استرجع بعضاً من تاريخه النضالي في ساحة رياض الصلح.
إلى ذلك، أضفت مشاركة البعض، بعض الفكاهة على التحرك. حضر "باتمان" وأحد مقاتلي الـ"فايكينغز". كما قررت عروس أن تشارك بزفتها في الحراك قبل أن تنتقل إلى قفصها الذهبي.
وتنوعت الشعارات التي رددها المعتصمون، بالإضافة إلى اللافتات التي رفعوها أو كتبوها على الجدران. منها "بل الأرزة واشرب دم". وكان هذا الشعار الدموي الوحيد الذي كتبه مجهول على عربة شرطة طاولها التكسير قرب ساحة الشهداء. وعلى الرغم من أن المشهد بدا مرعباً، إلا أن عددا من الفتيات المشاركات أصررن على ترديد شعار "سلمية سلمية"، مع تصدرهن خطوط المواجهة في مختلف الشوارع "لحماية الشباب من الاعتقال". كأنهم خارج المشهد العام. بهدوء غريب، كن يرددن الهتافات، غير آبهات بخراطيم المياه.
توالت الأحداث سريعاً. فالشباب الذين أرادوا الاعتصام وترديد الهتافات للمطالبة بحقهم في العيش بعيداً عن النفايات، قوبلوا باعتداءات من قبل القوى الأمنية والعسكرية، مع إطلاق نار كثيف على مرقبة من ساحة الشهداء من قبل عناصر الجيش اللبناني. ومع سماع أصوات الرصاص في المحيط، بادرت قوى الأمن الداخلي إلى إعطاء الأوامر لعناصر مكافحة الشغب، الذين أطلقوا عشرات قنابل الغاز المسيلة للدموع، بالإضافة إلى خراطيم المياه، على الرغم من وجود أطفال وكبار سن ضمن المُتظاهرين. فتحول الاعتصام المركزي إلى اعتصامات صغيرة متنقلة أمام الحواجز الأمنية. أيضاً، تحولت الشوارع القريبة إلى ساحات عمل للمُسعفين من الصليب الأحمر اللبناني والجمعيات الأهلية. ونقل عشرات الجرحى من المتظاهرين وعدد أقل من جرحى القوى الأمنية إلى المستشفيات.
استغلال سياسي
مع تزايد الاعتداءات، خلال ساعات الليل، فاق عدد التصريحات السياسية التي نددت بما حدث عدد قنابل الغاز المسيلة للدموع التي ألقيت لتفريق المتظاهرين. وتولى عدد من وزراء "تكتل التغيير والإصلاح" إطلاق مواقف مناهضة للحكومة. وانتقل الصراع بين تيار "المستقبل" ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، النائب وليد جنبلاط، إلى مستوى جديد بعد مطالبة الأخير وزير الداخلية، نهاد المشنوق، بالاستقالة، الأمر الذي رفضه المشنوق، مُطالباً جنبلاط بتحمل مسؤولياته كجزء من القوى السياسية المسؤولة عن أزمة النفايات.
بدوره، تعرض وزير التربية والتعليم العالي، إلياس أبو صعب، (أحد وزراء تكتل التغيير والإصلاح) للرشق بالمياه، وطرد من ساحة رياض الصلح التي زارها لـ"التضامن مع الشباب". كذلك، رفض المُعتصمون مشاركة أعضاء في "منظمة الشباب التقدمي" التابعة للحزب الاشتراكي في الحراك الشعبي.
اقرأ أيضاً: كارثة صحيّة على الأبواب