ثورة سورية.. ثمَّ ماذا بعد؟
الحديث في الموضوع السوري، يشبه الولوج إلى حقل شوك حافي القدمين، فأنت، مهما كنت حذراً فيه، لا بد أن تُشاك بشوكةٍ من شوكه المنتشر في كل مكان. وكذلك حال كل مَن أراد أن يدلي بدلو في كارثة سورية، ولا يفرق، هنا، إن كنت من مؤيدي الثورة أم من مؤيدي النظام، ففي المحصّلة، ما أن تقدم رأياً أو تتخذ موقفاً، حتى تنهال عليك الانتقادات، وتطلق نحوك السهام من كل حدب وصوب. ففي السياق السوري اليوم، لا مجال مطلقاً لمناطق رمادية، فثمة لونان فحسب، من حيث المواقف، أبيض أو أسود، في حين يطغى الأحمر القاني على المشهد الإنساني الكارثي هناك.
من حيث المبدأ، لا يملك أي حر ومؤمن بحق الشعوب في العيش بحرية وكرامة، إلا أن يقف في صف الشعب السوري، وأن يؤيد أساس منطلقات ثورته ضد نظام مستبدّ مجرم. ونظام بشار الأسد، وبعيداً عن فلسفة مؤيديه وحديث المؤامرة على "نظام الممانعة".. هذا النظام فقد شرعية وجوده منذ رفض مطالب شعبه السلمية والعادلة في مارس/ آذار 2011، ومنذ واجه بالرصاص المسيرات السلمية، وصولاً إلى استخدامه السلاح الكيماوي ضد أبناء شعبه، ومروراً بقصفهم بطائرات حربية ودبابات.. إلخ. فالشعب السوري قُتل، ولا يزال، بسلاح اقتُطع من كَدِّهِ وعرقه، باسم الاستعداد للمعركة الكبرى مع العدو الخارجي، وهي معركةٌ لم تأتِ مطلقاً.
ولا ينبغي أن يعمينا هذا الموقف المبدئي، أبداً، عن الحال التي انزلقت إليها "سورية الوطن" اليوم. فإذا كنّا نرفض قبول زعم مؤيدي النظام وجود مؤامرة على "نظام الممانعة"، فذلك لا يعني أنه لا توجد مؤامرة على سورية نفسها. فسورية ومكانتها في عين العاصفة، بل وأبعد من ذلك، فإن ثمة مَن استثمر، ولا يزال، في الصراع في سورية ليكون الصخرة التي تتكسّر عليها رياح التغيير التي هَبَّت على المنطقة، في السنوات الأربع الأخيرة. نعم، فثمة مَن أراد لها أن تكون الساحة التي تُستنزف فيها روحية التغيير في منطقةٍ كانت ساكنة راكدة، وها نحن، اليوم، نسمع طغاةً عرباً كثيرين وجوقاتهم يُحاجُّونَ شعوبهم: هل تريدون تغييراً؟ أنظروا إلى سورية إذن، أهذا ما تريدونه؟ هل تريدون مصر أو ليبيا أو حتى يمناً آخر؟
منطق الاستثمار الأخير، في صراع سورية، له أطراف كثيرة، وبأجندة متعارضة، ولكن جُلَّهم يتّفق على أن لا تنتصر ثورة الشعب السوري المعبّرة عن روحية التغيير التي تبغي تحقيق الكرامة والحرية والعدالة والمساواة ومفهوم المواطَنة الحقّة. فمَن يناصر النظام، ويريد بقاءه، لا يريد ديمقراطية ولا حرية، فسورية تحت الاستبداد أطوع في خدمة أجندتهم. هذا حال روسيا وإيران. وجلُّ مَن يعادي النظام لا يريد انتصار ثورة شعبية حقيقية في سورية، لأن ذلك لن يكون في مصلحة بقاء الاستبداد والاستقرار المهين في المنطقة، وهذه بعض حسابات الولايات المتحدة وإسرائيل وجُلُّ النظام الرسمي العربي. وهكذا، تجد الجميع يستثمر في إطالة أمد الصراع الدامي والمدمر من دون تمكين طرف واحد من حسم المعركة.
في خضمّ ذلك كله، تُطحن سورية وشعبها. فإلى اليوم، قتل ما يزيد على مئتي ألف سوري في الصراع، وهناك عشرات آلاف الجرحى والمفقودين. ونحو نصف الشعب السوري، (ما يقارب 23 مليون نسمة)، أصبح لاجئاً في دول الجوار أو نازحاً داخل بلده ويعيش أوضاعاً إنسانية مزرية. وشمل مستوى الدمار أكثر من نصف البلد، بما في ذلك البنية التحتية والمؤسسات والمدارس والمستشفيات والمنازل، التي دمر منها أكثر من مليونين. دع عنك انهيار الاقتصاد السوري بشكل شبه كلي، واعتماد أكثر من 60% من الشعب السوري، اليوم، على المساعدات الإغاثية، واقتراب نسبة البطالة بين القادرين على العمل من حاجز الـ50%. وحسب تقديرات دولية مختلفة، ستستلزم عملية إعادة إعمار سورية، على الأقل، ثلاثين عاماً، وبكلفة تراوح ما بين 200 ـ 500 مليار دولار أميركي.. إلخ.
الأخطر من ذلك كله، أمران، الأول: احتمال ضياع جيل كامل في سورية من ملايين الأطفال الذين لا يذهب كثيرون منهم إلى المدارس اليوم، في داخل سورية، وفي أماكن لجوئهم. فأولئك الأطفال أصبحوا، في السنوات الثلاث والنصف الأخيرة، فريسة للحرب والأمراض والعمل القاسي.. إلخ. ويتمثّل الأمر الثاني في تفسّخ سورية على أسس مناطقية وسياسية وإثنية وطائفية.. إلخ.
الأدهى من كل ما سبق، أنه لا توجد بارقة أمل في الأفق القريب. فالمعارضة السورية الخارجية ممزّقة شرَّ ممزّق، وهي أضحت، اليوم، نهباً للأجندات الإقليمية والدولية المتعارضة. بل إن الولايات المتحدة، التي منعت السلاح النوعي عن الثوار السوريين على الأرض، تريد من هذه المعارضة، اليوم، أن تكون شريكة لها في حربها على تنظيم "الدولة الإسلامية في الشام والعراق" (داعش)، والذي نما وتمدّد في سورية، بسبب السياسات الأميركية الخانقة للثورة السورية. المثير في هذا السياق، أن نظام الأسد اليوم، يجاهد لتقديم أوراق اعتماده للإدارة الأميركية والغرب شريكاً في "الحرب على الإرهاب"، متناسياً أن قمعه وإجرامه وإرهابه هو، في الأساس، ما ولّد "داعش" وما شابهها، ولا يستبعد أبداً أن تقبل إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، المأزومة، بحلف ضمني، أو عبر وسطاء، مع نظام الأسد.
تعيدنا الحيثيّات السابقة إلى سؤال يطرحه عنوان المقال، ثمّ ماذا بعد بالنسبة للثورة السورية؟ هل ستبقى سفينتها تسير من دون بوصلة وربان؟ فلا هي قادرة على اجتراح رؤية للمستقبل، ولا على توحيد صفوفها في الخارج، خصوصاً في ظل إقصاء رموز وقيادات وتيارات من غير المحسوبين على نظام عربي بعينه استثمر الكثير في محاربة الثورات العربية. أما قوات الجيش الحر التابعة لها فتتقلص وتنكفئ يوماً بعد آخر، أمام ضربات النظام، وأمام منافسيها من الفصائل الإسلامية المسلحة، وتحديداً "داعش"، في ظل ضعف التسليح الإقليمي والدولي لها. ومن ثمَّ يصبح مشروعاً أن نسأل: ألم يأن الأوان لقيادات المعارضة السورية في الخارج أن تتخفّف قليلاً من ارتهاناتها الدولية والإقليمية، والأجندة المتعارضة التي تحملها، وتفكر في حل سوري لمصلحة سورية!؟
سورية تتعرّض لعملية تدمير ممنهج، وشعبها يتعرّض لإبادةٍ، بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، على قيادات المعارضة أن تنهض بروح وطنية لتحمّل مسؤولياتها التاريخية أمام شعبها وتتحرّر من إسار الارتهان لأجندات خارجية، عربية أم أجنبية، لا تحمل الخير لسورية وثورتها، أو أن تفسح المجال لبروز قيادات أخرى، تنطلق من الهمِّ السوري الخالص. فإن لم يكن في الإمكان، ضمن المعطيات المحلية والإقليمية والدولية الراهنة، إسقاط النظام، فلماذا لا يتم التفكير بمصالحة وطنية، حتى ولو كانت على أرضية "الضرورة"، لإنقاذ سورية. طبعاً، أي مصالحة وطنية، إن كانت ممكنة، لا بد أن تستلهم روح الثورة السورية ومطالبها، فالشعب السوري لم يَثُر ولم يدفع هذه الأثمان الباهظة، لكي يعود من حيث بدأ، ولكنه، أيضاً، لم يثر لكي تصبح بعض قيادات معارضته موظفين لدى أجهزة أمن أنظمة عربية وأجنبية، معادية لكل روحية التغيير في المنطقة.
بكلمة، إما أن يرتقي متصدّرو مشهد الثورة السورية إلى التحدّي، أو أن يخرجوا من المشهد غير مأسوف عليهم. ففاجعة سورية كبيرة، ولا يمكن لهذا الحال أن يستمر. فلا إيران ولا أدواتها في المنطقة، ومنهم نظام الأسد، قادرون على استمرار تحمّل هذه الفاتورة الباهظة، ولا الشعب السوري وثورته قادرون على استمرار تحمّل غدر بعضهم بهم، فضلاً عن هذه الفاتورة الباهظة لهم كذلك. آن الأوان للبحث في خيارات أخرى، وبعون من أصدقاء سورية الحقيقيين، وكلنا يتمنى سقوط هذا النظام المجرم، إن أمكن ذلك.