اليوم، حلّت علينا "خوانا" أخرى من بورتوريكو، جارة في الغرفة رقم (229). وأنا سعدت بذلك، لأن ساكنة الغرفة السابقة، ساليما الألبانية، غادرت، بمشاكلها، للأبد. غادرت بعد أن اكتشف ذكور المخيم بسرعة أن هناك شيئًا مختلفًا ومغريًا في غرفتها. ألاحظ أن العمة خوانا بابلو ديّاس، وهذا هو اسمها، ثمانينية نشطة تتمتع بالسلطة والشجاعة، غير أن الأسى يطبعها في كل ما تأتيه من كلامٍ وحركات. إنها لا تدرك، أن كل تنهيدة تطلقها سهواً، هي عندي، عبارة عن استعارة مؤلمة.
كأنها بقطعها تلك الآلاف من الأميال، هاربةً في أرض الله، قد رأت الوجه الحقيقي للعالم. "هذا العالم الذي هو ـ حضرتك ـ مصنوع من مخالب، فحسب".
أحياناً، نفاجأ بصوتها يغني أو ينوح، خصوصاً في أوقات قريبة من الفجر. ولا غرو أنها تستدعي جراح وأشباح إرثها البعيد، كهندية حمراء. إن ما رأته في ملحمة الهروب تلك، كان وحشيًا لدرجة أنه ينبغي إعادة تفكيكه لفهم أبعاده.
تقول خوانا إنها جاءت "إلى هنا" لتتوسل الرحمة من "المستعمرين البيض"، بعد أن أعوزتها عند أشقائها اللاتينيين. تقول وترشف من كوب خشبي. ثم لا تشير إلى أي شيء سيحدث بعد ذلك. بعد أن تنتهي من القهوة، تطلب سيغارة، فتنهيها بسبعة أنفاس متتالية، ويندلع الغناء. غناء يندلع كأنما من تلك الأقاصي التي .. حتى الله يجهلها. كلمات كالطيف تركض وراء أحلام مغتالة. كلمات كانت خوانا، كأنما تنزفها دماً من ملايين الأفواه، لا من فمها الموشوم بالأخضر وحده. مرة أخرى، خلال دقيقة واحدة، تشرع خوانا في التنهد والهمس.
ومع ذلك، فإن هذا التباين الطفيف بين همسها وتنهدها لا يشير إلى أي شيء سيحدث بعد ذلك. وأنا من جانبي، أتحاشى الإشارة إلى "أي شيء سيحدث بعد ذلك"، ليقيني أنها ستكتشفه تدريجياً في منفاها الجديد ـ هذا إن حصلت على "إقامة" أصلاً.
أتركها في ساحة بلوك ألف، وأعود لأحدق في سقف الغرفة الأبيض. هيه، أنت يا عقلي النقدي القابع هناك! أعطني الجرأة على مواجهة حقيقة بغيضة، لكن في غير أوقات النوم. وهيه، أنت يا قلبي اللانقدي الجاثم هنا! كم من المضحكات تولد من لحم العبث؟ وكم أيضاً من دموع؟
خوانا الطيبة مثل ديك فلسطيني أخرق، هل فكرت مرة بما ينتظرها من كمدٍ في غدِنا الأوروبي؟ لقد صنعت جميع حياتها في واحدة من قرى بورتوريكو المنسية على رأس جبل، فهل تشعر الآن بالقوة الكافية للبقاء على قيد العيش هنا؟
أشك، ثم يعاودني الشك، ثم يتوارى شبح خوانا، فألتفت إلى شبح نفسي وقد نعست. أيها العابر، تسكن عالماً خالداً، يرتكز على مساحة هائلة من اليابسة والماء ـ حضرية وريفية على حد سواء ـ وهذا شيء في دخيلة روحك يؤلمك. لأنك ظل. لأنك شبح. لأن إقامتك على الأرض محدودة، وأقصر مما يتمنى أيّلٌ حتى.
أما خوانا، فعابرة مثلك، لكنها لا تتعاطى ترف أفكارك أبدا. إنها تفكر، كإنسان الحياة العادية: "متى يمنحونني بيت السوسيال، فأرتاح من طعامهم البغيض؟".
أيها العابر: لا يمكنك القتال عندما يكون لديك قدم واحدة في القبر. أيها العابر وقد أخطأت: لقد تم توثيق حال السيدة وعالمها من خلال انطباعات مسطحة. يلزمك الحفر من جديد، كي تمسك الطرف الحقيقي للخيط.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة