تستحيل سردية الحريات السياسية في الجامعات اللبنانية واشتباكها مع الصورة النخبوية التي كوّنها المقبلون إليها طلاباً وأساتذة محاضرين، دون العودة إلى المنطق العام للعمل السياسي الذي يحكم لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية مطلع التسعينات.
لذلك، تبدو معضلة الحريات داخل الصروح الأكاديمية من حال السياسة وأحزابها التي كرّست القطيعة بين الفرد/الطالب والفرد/المحازب، فأصبحت الحياة الجامعية لغالبية الطلبة اللبنانيين مرتبطة، بشكل أو بآخر، ببطاقة التيار السياسي الذي ارتضى أن ينتمي إليه، وتلقائياً مع تظاهرات الحزب ونشاطاته.
لم يكن الإشكال الأخير في الجامعة الأميركية في بيروت بين طلبة ينتمون إلى الكتائب اللبنانية وآخرين ينتمون إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي سوى فصلٍ مكرّر تستعيده ذكرى اغتيال بشير الجميّل من كل عام. وهذا المسار في العلاقة بين أخصام حزبيين فرّقتهم الحرب والسياسة يمكن إحالته في تمظهره جامعياً إلى التربية الحزبية التي لزّمت الطلاب تاريخاً طويلاً من الشخصيات الراحلة.
وعليه، يبدو حضور بشير الجميل وأنطون سعادة وطوني فرنجية وكمال جنبلاط ورفيق الحريري.. إلخ، دعوة غير مباشرة لإحياء ما هو ميت كدلالة على البقاء في سنوات السلم الأهلي، أو أقله سنوات توقف الحرب.
على أنّ البقاء المنشود والأبدي - رغم اصطدامه بالعنف وتوليده لعنف مضاد في حال المتصارعين حرباً وسلماً - يكتسب رمزية كبيرة عبر تلبيسه رداءً شبابياً طلابياً، خصوصاً إذا كانت "الأميركية" مسرحاً للاشتباك؛ ليس لأنّ المكان يقع في شارع الحمراء معقل القوميين، إنّما للاسم الذي يحمله ذلك الصرح باعتباره واحداً من أفضل المسارح العلمية في البلاد، إذا لم يكن أفضلها وأكثرها ديمقراطية وحركية في الفضاء السياسي.
فالجامعة التي تنشط فيها تيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وفيها عدد لا بأس به من طلاب سوريين وفلسطينيين أضفوا حيوية على السائد اللبناني الذي اتّسم بالملل الآذاري (8 و14) لسنوات عشر، حوّلها حزبيون لساحة معركة أرادها الطرفان ترجمة إضافية لمسار العنف الذي غيّب "رمزاً شهيداً" يحتفي به الكتائبيون، ويرفضه القوميون باعتباره عميلاً رجعياً.
والحال أنّ الجامعات في لبنان ليست إلا انعكاساً للانقسام السياسي الحاد الذي تشهده البلاد منذ سنوات، فالحريات السياسية التي يفترض أن تنعش التجربة الديمقراطية في الكليات وتفضي إلى ما هو في صالح الطلاب وحيواتهم الجامعية ومستقبلهم المهني، تبدو أبعد ما يكون عن الآمال المرجوة. والسبب الرئيسي يعود إلى تحكّم العقلية الحزبية وتعويمها على حساب الأهداف الجامعية التي يأتي في سلم أولوياتها تعزيز وعي الطلاب وتدعيمه باحترام أفكارهم؛ لأنّ الممارسة السياسية الجامعية تعني في بعض ما تعنيه إجازة إلى وعي الذات والشعور بالأمن والاستقلال والحرية الأكاديمية.
والمستفاد من تكرار التشابك السياسي في الجامعات لا يعدو كونه توطئة لمأساة تقضم الحياة الأكاديمية وتحوّلها إلى مسار إلزامي لمعاش الأحزاب السياسية وما تقتات عليه من نفاق وفساد وحروب وجود وإلغاء، ليس أخطرها استعادة خطاب "الشهداء الوطنيين" في ميزان، و"القتلى العملاء" في ميزان آخر؛ وجعله بطاقة جامعية لعناصر حزبيين يخرجون من محاضرة ليهتفوا بحياة زعيم حيّ أو ميت، لا فرق طالما أنّه استمرار للعنف والعنف المضاد.