بلغ عدد المساجد المنتشرة في أرجاء بلغاريا، بحسب إحصاءات عام 2007، زهاء ألف وثلاثمئة مسجد، تُقام الصلوات في ألف منها فقط، جرّاء نقص في عدد الأئمة. من بينها "جامع إسكي"، الذي يقع في مدينة يانبول، ويُعتبر مركزاً روحياً فريداً من نوعه، لأهميته الأثرية واحتضانه لمعنى تعايش الأديان، في بلد شهد العديد من النزاعات، بين المسيحيين والمسلمين على مرّ تاريخه.
يتميز جامع "إسكي" بطرازه المعماري العثماني، ويعود تاريخ تشييده إلى عام 1409، وهو ما يشهد عليه النقش المنحوت على الحجر فوق باب مدخله. بدأت عمليات ترميمه، اعتماداً على منحة من برنامج "التنمية الإقليمية" للاتحاد الأوروبي، أوائل القرن الحالي، واستمرت لنحو عشر سنوات، حيث كشف المبنى عن أسراره الكثيرة.
خلال الحفريات الأثرية في حرم الصلاة، عُثر على بقايا كنيسة مسيحية من القرون الوسطى، تبين أنها بُنيت ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي. بالقرب منها تم الكشف عن بقايا معبد وثني "تراقي" يعود إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وفيه كان يُحتفى بـ"الفارس" الأكثر تبجيلاً، أي الإله التراقي. وبالقرب من الجدران الخارجية المتاخمة، كُشف عن حرم لطقوس العبادة التراقية من العصر الحديدي المبكّر، الذي يعود إلى ألفي سنة خلت. وفق الباحثين، كانت الكنيسة المسيحية القروسطية، مخبأة إلى نصفها في الأرض، وقد استُخدم الفضاء من حولها كمقبرة. وعلى أنقاضها بُني الجامع، ويُعتقد أن النقّاشين البلغار، هم من رسموا قبته، هذا يمكن أن تلحظه حتى العين المجردة، استنادا إلى طبيعة اللون والخطوط وبعض العينات. أثناء ترميم القبة الرائعة، درس المتخصصون العناصر المسيحية "الخفية" في الرسم، واعتبروا أنه بالكاد أن يكون من محض المصادفة والتأثير العشوائي، أن في واحدة من المساحات الخلفية الزرقاء، تتراءى كنيسة صغيرة مع الصليب على سطحها.
حقيقة أخرى مثيرة للاهتمام في تاريخ "جامع إسكي"، فقد كان المبنى الوحيد الذي نجا بعد معركة التاسع عشر من تموز/يوليو 1877، بين الروس والعثمانيين، حين أُحرقت ودُمرت المدينة من قبل الأتراك، وقوات سليمان باشا، التي خرجت عن نطاق السيطرة، وكان ضحايا المعركة أكثر من مائة وستة آلاف بلغاري. بعد تحرير بلغاريا من الحكم العثماني عام 1878، عاد الناجون إلى يانبول، لرفع مدينتهم من تحت الأنقاض، واكتشفوا أنه لم يتبقَ لهم فيها، ولا كنيسة واحدة لإقامة عبادتهم. حينها لم يتردد الكهنة المسيحيون في بدء العبادة داخل الجامع الناجي، فاستخدموه لإقامة الاحتفالات والشعائر المسيحية، من قبيل التعميد وحفلات الزفاف.
عندما استُعيدت بعض الكنائس، عاد الجامع مرة أخرى داراً لعبادة المسلمين فقط، وأُدرج على قائمة المباني الأثرية القديمة، في وقت مبكر من عام 1927، ثم أعلنه المعهد الوطني للتراث، صرحاً تذكارياً في عام 1972، كما اعتبرت جداريات الجامع قيماً تراثية ثقافية، ذات أهمية وطنية. وبعد أن انتهت بعثة الاتحاد الأوروبي من استعادة وترميم القطع واللوحات الأثرية داخل المبنى، تم افتتاح "المتحف الأثري للأديان" في قلب "جامع إسكي" عام 2011، وبات المبنى الجميل والكبير، جامعاً لعديد من النظم والمعتقدات الدينية، وصار بذلك محطّ اهتمام الزوار من مختلف الأديان والجنسيات.