تزخر البصرة كما غيرها من مدن العراق القديمة بالعديد من الآثار والأماكن التاريخية المهمة التي تحكي حقب مهمة في تاريخ العرب والمسلمين ككل، فمن سوق المربد الذي جمع نحاة العرب وشعراءهم قبل أكثر من 1400 عام في دار الإمارة ومدرسة الحسن البصري ومقر الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى حلقات الواصل بن عطاء ودروسه، وصولاً إلى منازل المعتزلة وأضرحة الزبير وطلحة وقادة حروب فتح العراق.
أول مسجد خارج الجزيرة العربية
ومن هذه الأماكن جامع البصرة الكبير، وهو أول مسجد في الإسلام خارج منطقة شبه الجزيرة العربية، وبني عام 14 للهجرة بعد فتح البصرة من قبل القائد العربي عتبة بن غزوان في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وشيّد المسجد في بدايته من الطين وجذوع النخل بمساحة لا تتجاوز 200 متر مربع، وبعد حريق البصرة الكبير عام 17 للهجرة، أعيد بناؤه مرة أخرى من قبل الوالي أبو موسى الأشعري وزاد من مساحته ثم أعيد بناؤه وتوسعته مرة أخرى في عام 160 للهجرة من قبل الخليفة العباسي المهدي، حيث وسع مساحته وأعاد بناءه بالآجر والجص، أما سقفه فمن خشب الساج، واتخذ له أعمدة من حجر نحتها من جبال الأحواز العربية، بلغ عدد المصلين فيه نحو 20 ألفا.
مراحل مهمة في التاريخ
شهد هذا المسجد مراحل مهمة من تأريخ الإسلام والمسلمين وتأريخ العراق ففي أروقته كانت تعقد حلقات الدرس العلمية والفقهية واللغوية حتى صار في ما بعد من أكبر المعاهد العلمية الذي درست فيه مختلف العلوم، وسميت الدكات باسم العلماء والفقهاء، بالإضافة إلى كون المسجد من المساجد الجامعة، إذ تقام فيه صلاة الجمعة، يعد المسجد مقرا لوالي المدينة أيضا لتداول الرأي، حيث يتم عقد الاتفاقيات وإرسال الرسل واستقبالها واتخاذ القرارات المهمة. إلا أنه بعد ذلك استعيض عنه بإنشاء دار الإمارة، ومع ذلك بقي المسجد يحتفظ بدوره في القضايا السياسية، خصوصا في الفترة العباسية الثانية، وفيه ألقى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب خطبته الشهيرة عندما وصل إلى العراق عام 36 للهجرة، ولذلك يطلق عليه اليوم أيضا اسم جامع خطوة الإمام.
ماذا قال عنه الرحالة؟
وجاء ذكر الجامع في كتاب رحلة ابن بطوطة، الذي طبع في دار الفكر، قوله: "وكنت رأيت عند قدومي عليها على نحو ميلين منها بناء عاليا مثل الحصن، فسألت عنه، فقيل لي: هو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت البصرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها، وقد وصفه الشاعر عبد الله بن المفجَع قائلاً:
"ألا يا جامع البصرة لا خرَبك الله
واسقى صحنك الغيث من المزن فروَاه
فكم من عاشق فيك يرى ما يتمناه"
ومن مشاهير من زاروا المسجد أو قضوا شطراً من حياتهم بين جنباته، عبد الله بن عباس، والحسن البصري، وتلميذه واصل بن عطاء، وكبار علماء المعتزلة، وأبي علي الجيائي، وأبو الحسن الأشعري، ونشأ عنه مذهب الأشاعرة في علم الكلام، فضلاً عن عشرات الصحابة الذين استقروا في البصرة أو أقاموا فيها فترات مختلفة خلال معارك المسلمين لفتح بلاد فارس ويضم حاليا مكتبة ضخمة فيها وثائق وكتب نادرة ونفيسة.
المسجد حاليا ورغم إعادة تعميره والاهتمام به بحيث أصبح مقصدا مهما للسياحة الدينية على وجه التحديد، لكنه ما زال بحاجة إلى اهتمام أكثر وصيانة الأجزاء التراثية الموجودة فيه بشكل مستمر وفقا للقائمين عليه.