06 يوليو 2017
جبهة الإعلام في ذكرى حرب غزة
في مثل هذه الأيام من العام الماضي 2014، كما هي هذه الأيام في 2015، يتجمع الفلسطينيون والإسرائيليون أمام شاشات التلفزة، يتابعون التصريحات السياسية والبلاغات العسكرية لكلا الجانبين، ما يعطي إشارة قوية على مركزية الدور الإعلامي للمعركة الدائرة على أرض غزة.
وفيما العادة أن تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلية الحرب النفسية ضد الشعب الفلسطيني، ضمن حملة متناسقة من الألف إلى الياء، ويلوذ الفلسطينيون برد الفعل ليس أكثر، فإن حرب غزة، أخيراً، قلبت ظهر المجنّ أمام القدرات الإسرائيلية المعهودة في مجال الحرب النفسية، فقد فاجأتها المقاومة، قبل اندلاع المعركة، برسائل إعلامية مركزة ومتواترة، استهدفت إرباك المستويين: السياسي والعسكري الإٍسرائيليين، وضرب الجبهة الداخلية.
وأظهرت غزة تفوّقاً كبيراً في قدرات الخطاب الإعلامي لقيادات المقاومة وبياناتها، وإدارة الحرب النفسية عبر نشطاء "الإعلام الجديد"، وتفوق عدد من مغردي غزّة بصورة مثالية في لغة الإنسان والمقاومة معاً.
الحرب النفسية
مع بدء معركة غزة، استمرت المقاومة الفلسطينية في تصدير رسائلها الإعلامية المؤثرة التي تنوعت في أشكالها ومضمونها وأهدافها، بصورة شبه يومية، ما حدا بمعلقين وخبراء استراتيجيين عديدين إلى التأكيد على أن تل أبيب خسرت الحرب النفسية مبكراً لصالح المقاومة.
لم تأت قوة رسائل الحرب النفسية للمقاومة الفلسطينية من فراغ، بل تم إعدادها، وصوغ مضامينها من مختصين وخبراء في الحرب النفسية، ما يؤشر إلى مستوى التطور المهم الذي بلغته على مختلف الأصعدة والمجالات، وترك أوضح الأثر على طبيعة إدارة الطرف الإسرائيلي للمعركة التي شابها تخبط وإرباك كبيران، ومستوى الضعف الذي اعتور المجتمع الإسرائيلي وجبهته الداخلية.
وقد جاء في رسالة مصورة، بثتها كتائب عز الدين القسام، مدة دقيقة موجهة للمستوطنين، وتظهر صور نتنياهو ويعلون وغانتس، وكتب تحتها باللغتين العبرية والعربية: "قادتكم قتلوا أطفالنا، قصفوا بيوتنا، وحكموا عليكم بالموت.. اهربوا قبل فوات الأوان"، ويظهر في خلفية الصورة عشرات الصواريخ تطلقها المقاومة دفعة واحدة، وصور لهروب مستوطنين وقادتهم.
وفور اندلاع المواجهة، نشرت المقاومة الفلسطينية رسائل إعلامية، أهمها شريط فيديو يصور صاروخاً من تصنيعها، ومجموعة صور استعراضية لمسلح يحمل صواريخ، ومن خلفه نيران تشتعل، وكتب أسفلها بالعربية والعبرية "كل المدن الإسرائيلية قريبة من غزة"، في إشارة إلى أنها في مرمى صواريخ المقاومة.
لكن الأيام الخمسين من حرب غزة أظهرت أن هناك فرقًا بين "حرب نفسية وشنّ حرب بطريقة نفسية"، لأن المقاومة الفلسطينية انخرطت في النوع الأول، وأرسلت رسائل نصية أنّ المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا تعرض لهجوم، فيما النوع الثاني في صميم حملتها، حيث الصواريخ التي لا يمكنها الانتصار على الإسرائيليين، يمكنها نشر الخوف بينهم.
وجاءت ذروة الحرب الدعائية في تحدي المقاومة الفلسطينية، بشكل علني وعلى الهواء مباشرة، بدعوتها وسائل الإعلام بتسليط كاميراتهم نحو سماء تل أبيب، الساعة التاسعة من مساء يوم 12 /7 /2014، وتحدت الطواقم الفنية العسكرية بإرسال بطاريات القبة الحديدية إلى محيط المدينة لمنع سقوط الصواريخ.
وهدفت المقاومة بإعلانها توجيه ضربة عسكرية صاروخية ضد تل أبيب، قبل ساعة من التنفيذ، إلى إثبات قوة الردع، وقدرتها على تنفيذ تهديداتها، على الرغم من قوة الجيش الإسرائيلي، والتحليق المكثف لطائرات الاستطلاع والمروحية والحربية في سماء غزة.
منح ذلك كله المقاومة فرصة أن تنجح في كسر هيبة الجيش "الذي كان لا يقهر"، والتسبب في صدمة نفسية عميقة للإسرائيليين، والتلاعب بأعصاب قيادتهم، وتسجيل نقطة لصالح الفلسطينيين في الحرب النفسية، حيث تم استخدام هذا "التكتيك الجديد" ليثبت قدرته على نقل المعركة من غزة إلى داخل الكيان الإسرائيلي.
وحين أعلنت المقاومة أنها ستقصف تل أبيب بصواريخ جديدة في التاسعة مساء، استخدمت جزءًاً من الحرب النفسية التي تعود الإسرائيليون طويلاً على استخدامها ضد الفلسطينيين. وهكذا استخدم الجانبان الحرب النفسية سلاحاً ثانياً على الجبهة، سعى كل طرف فيها إلى تثبيت صورة انتصار. ويوماً بعد يوم، ازداد التأثير النفسي لهذه الحرب التي بدت وسائل الإعلام جزءاً مهماً منها، إضافة إلى الشبكات الاجتماعية.
اقتنع الإسرائيليون بأن ما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية حرب نفسية، ونجحت فيها، لأن الشارع الإسرائيلي وقف بانتظار إن كانت ستنجح في تنفيذ إعلانها. وفي نهاية الأمر، حدث إطلاق الصواريخ في الموعد، وعند إطلاق صافرات الإنذار توجه الإسرائيليون إلى الملاجئ.
وفي وقت لاحق من الحرب، عمل مهندسو المقاومة وخبراؤها على بث رسالة المقاومة، ونقل الصورة الحقيقية للمعركة إلى الجمهور الإسرائيلي بشرائحه كافة.
الجمهور المستهدف
تمثل هذا الجهد بداية في اختراق بث القناة العبرية الثانية، وهي من أهم القنوات واسعة الانتشار، وبث رسالة لمدة دقيقتين للجمهور الإسرائيلي، مذكرة إياه بغباء قيادته وتهورها، وصولاً إلى اختراق البريد الإلكتروني لمليون إسرائيلي، ووضع إشارة المقاومة، وبث بيان بالصور لهم، عبر سيطرتها على نظام الرسائل الخاص بمجلس المستوطنات، وإرسال رسائل التهديد للإسرائيليين، مروراً باختراق هواتف عدد كبير من الجنود على حدود غزة، وإرسال رسائل نصية، وأخرى صوتية، لهواتفهم الشخصية، تخاطب كل فئة منهم حول المعركة الدائرة.
كما تلقى مئات الإسرائيليين رسائل تهديد، موقعة باسم المقاومة الفلسطينية، خلال أيام الحرب على غزة، حيث أرسلت مئات الرسائل النصية (SMS) على هواتفهم المحمولة، تتعهد فيها بمواصلة القتال والتصدي للعملية العسكرية، واستمرار إطلاق الصواريخ باتجاه البلدات الإسرائيلية، وطالبتهم بالهروب من مدينة حيفا، بعد قصفها مصانع البتروكيماويات، ما يهدد حياتهم، في محاولة للمس بمعنويات الإسرائيليين في هذه المعركة.
ثم أرسلت المقاومة رسالة نصية لشركات الطيران التي تسيّر رحلاتها إلى الكيان الإسرائيلي، وتحديدًا مطار اللد (بن غوريون)، حذرتها من خطر الإقلاع والهبوط والسفر عبره، لأنه من بنك أهداف المقاومة، وتطالبها بوقفها، بسبب وجود مخاطر محدقة بكل المطارات نتيجة للحرب.
فيما أصدر جهاز الشاباك الأمني تحذيرًا للإسرائيليين من القراصنة الفلسطينيين، الذين اخترقوا مواقع رسميّة وإعلاميّة، وأرسلوا رسائل نصية، ما زاد من حالة القلق في أوساط المخابرات، بسبب تصاعد احتمالات تعرّض الشبكات لهجمات إلكترونية واسعة من "هاكرز" داعمين للفلسطينيين.
كما اخترق فلسطينيون موقع شركة "دومنيز بيتسا" على الإنترنت، ونشروا كلاما باللغات العربية والعبرية والإنجليزية يقولون فيه: "اليوم سنضرب أعماق إسرائيل.. تل أبيب، القدس، حيفا، عسقلان، أسدود، بأكثر من 2000 صاروخ".
وبدأت تتصاعد حملات القراصنة الفلسطينيين ضد الإسرائيليين، بصورة تدريجية منذ بدء حرب غزة، لأنها استهدفت حسابات لشخصيات عسكرية وسياسية إسرائيلية بارزة، وأرفقت صورا تظهر اختراقها، وأرسلت عبر تلك الحسابات رسائل تشمل صور مسلحين فلسطينيين، وشعار "الهاكرز" الخاص بهم، وطلبت من الإسرائيليين الرحيل عن فلسطين.
ودشنت المقاومة الفلسطينية بعض مواقعها الإلكترونية الناطق باللغة العبرية لأول مرة، واتخذت الخطوة لمخاطبة الجمهور الإسرائيلي، بالتزامن مع تواصل العدوان على غزة. واحتوت المواقع على عدة أقسام، تتناول عرض صور ومقاطع فيديو وأخبار المقاومة، فيما لم تتوقف قنوات فلسطينية، لا سيما تلفزيون الأقصى، عن بث رسائل متواصلة بالعبرية للجنود الإسرائيليين، تتوعدهم بالموت في غزة، إذا دخلوها براً، وتخبرهم بأن قادتهم ورّطوهم في حربٍ لا قبل لهم بها، وعليهم انتظار الصواريخ.
وشعر الفلسطينيون، أيام الحرب، خصوصاً في أثناء بث التلفزيونات الإسرائيلية برامجها، أن فضائية الأقصى تحولت إلى مخاطبة الإسرائيليين أيضاً، وليس الفلسطينيين فقط، لأن تلك القنوات تترجم ما يقولون على "الأقصى" أولاً بأول، فيما نجحت المقاومة في اختراق قنوات إسرائيلية عدة ثوان، وأظهرت مقاتلا بسلاحه وسط البحر. وبثت قنوات تلفزيونية فلسطينية صورا منتظمة لمقاتلين ملثمين يحملون قناصات وصواريخ، وصورا أخرى لراجمات الصواريخ تعمل، في تحد مباشر للجيش الإسرائيلي.
وأنتج الفلسطينيون أغنية بالعبرية بثت مئات المرات، تقول ترجمتها: "سنزلزل أمن إسرائيل"، وتقول كلماتها: "اهجم نفذ عمليات، هز كيانهم، واجعله يضطرب، اقتل كل الصهاينة، زلزل أمن إسرائيل، تقدم واحرق معسكراتهم، زلزل أمن إسرائيل، وأشعل فيه بركانا"، ويظهر في فيديو الأغنية مقاتلون فلسطينيون يتدرّبون على إطلاق الصواريخ، حيث انتشرت الأغنية بشكل كبير جدا على "يوتيوب"، وبعدة أشكال وفيديوهات مختلفة، في نسبة مشاهدات وصلت مئات الآلاف.
شبكات التواصل
لم تقتصر الحرب النفسية التي شنتها المقاومة ضد الإسرائيليين على الإعلام الرسمي وناطقيه، بل دخل الأفراد والمدونون على الخط، وأخذوا يبادرون بالنشر بواسطة الشبكات الاجتماعية. ونشر الفلسطينيون أفلاماً على الشبكات الاجتماعية، لتهديد الإسرائيليين، وكيف يجري انتشال أطفال من تحت بيوت يدّعي الجيش أنها أهداف، ونشروا كذلك صورا لرئيس الوزراء الإسرائيلي وقائد الجيش ملطخين بالدماء.
كما تبادلوا شريط فيديو على نطاق واسع، يظهر تدريبات لوحدة كوماندوز بحرية في المياه، ومقاتل يركع تحت الماء، فيما تم السماح لصحافيين بتوثيق شهادات لمقاتلين فلسطينيين، تتعلق بتنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات الجيش البرية المتوغلة في غزة، وتجولوا في أنفاق هجومية ومرابض لإطلاق قذائف الهاون والصواريخ.
ولإنجاح أدائها الإعلامي، دأبت المقاومة على نشر قصص مثيرة لمقاتلين خاضوا معارك ضارية مع الجيش الإسرائيلي في مناطق مختلفة من غزة، في كل محاور الاشتباك من شمال القطاع إلى جنوبه، ونفذوا عمليات التفاف خلف القوات المتوغلة، والتصدي لآليات الاحتلال وجنوده بكل وسيلة، جزء منهم من وحدة الأنفاق، مهمتهم تجهيزها، وتهيئتها لاستخدام مقاتلي النخبة، وقد أخذوا مواقعهم قبل بدء الحرب البرية.
وشهدت حرب غزة إصدار بلاغات عسكرية حول عمليات التصدي وضربات المقاومين لآليات الجيش، في ظل التنسيق الكامل بين المقاومين في ميدان المواجهة والوحدات الإعلامية، حيث يتم إبلاغها، أولاً بأول، من المجموعات في الميدان عن ضرباتها للعدو، عن تفجير العبوات وإطلاق القذائف المضادة للدروع ونوع السلاح الذي يستخدمه المقاومون، وتحديد المكان والزمان.
وتباعاً، تصدر الوحدة الإعلامية البلاغات العسكرية حول ضربات المقاومين، ووصف طبيعة الخسائر التي تكبدها العدو التي يحاول المقاومون تحديدها قدر الإمكان، بناءً على مشاهداتهم، ومع الخبرة أصبح لديهم قدرة على تحديدها بدقة.
ظهرت المقاومة في حرب غزة بحلة إعلامية جديدة، استطاعت الارتقاء بخطابها الإعلامي، وأوقعت، في الوقت نفسه، الجيش الإسرائيلي في وحل من التضليل، لم يعتد عليه سابقاً، مما انعكس على تصريحاته وأدائه الميداني، وجرت العادة لدى المقاومة لاستخدام وسائل الإعلام في عرض صور الغنائم التي تحصل عليها في أعقاب كل عملية، خصوصاً حطام الآليات العسكرية، وأجزاء من الدبابات المعطوبة، وأشلاء جنود قتلى.
ولعل النجاح الواضح لإعلام المقاومة عاد إلى إدراك أن المعركة مع العدو ليست عسكرية بحتة، بل أمنية وإعلامية، تعتمد بدرجة كبيرة على صراع الأدمغة والعقول.
وانطلاقاً من هذا الفهم العميق، وإدراكاً لطبيعة المعركة مع العدو، اعتمدت المقاومة سياسة إعلامية تعتمد على تضليل العدو وإرباكه، وعدم تقديم أي معلومة يمكن أن يستفيد منها، خصوصاً أن المساحة الجغرافية التي تعمل عليها المقاومة في غزة ضيقة نسبياً، ويمكن للعدو أن يستخدم أي معلومة ورقة ضغط، أو حتى سيفاً مسلطاً تكون عواقبه وخيمة.
وأظهرت غزة تفوّقاً كبيراً في قدرات الخطاب الإعلامي لقيادات المقاومة وبياناتها، وإدارة الحرب النفسية عبر نشطاء "الإعلام الجديد"، وتفوق عدد من مغردي غزّة بصورة مثالية في لغة الإنسان والمقاومة معاً.
الحرب النفسية
مع بدء معركة غزة، استمرت المقاومة الفلسطينية في تصدير رسائلها الإعلامية المؤثرة التي تنوعت في أشكالها ومضمونها وأهدافها، بصورة شبه يومية، ما حدا بمعلقين وخبراء استراتيجيين عديدين إلى التأكيد على أن تل أبيب خسرت الحرب النفسية مبكراً لصالح المقاومة.
لم تأت قوة رسائل الحرب النفسية للمقاومة الفلسطينية من فراغ، بل تم إعدادها، وصوغ مضامينها من مختصين وخبراء في الحرب النفسية، ما يؤشر إلى مستوى التطور المهم الذي بلغته على مختلف الأصعدة والمجالات، وترك أوضح الأثر على طبيعة إدارة الطرف الإسرائيلي للمعركة التي شابها تخبط وإرباك كبيران، ومستوى الضعف الذي اعتور المجتمع الإسرائيلي وجبهته الداخلية.
وقد جاء في رسالة مصورة، بثتها كتائب عز الدين القسام، مدة دقيقة موجهة للمستوطنين، وتظهر صور نتنياهو ويعلون وغانتس، وكتب تحتها باللغتين العبرية والعربية: "قادتكم قتلوا أطفالنا، قصفوا بيوتنا، وحكموا عليكم بالموت.. اهربوا قبل فوات الأوان"، ويظهر في خلفية الصورة عشرات الصواريخ تطلقها المقاومة دفعة واحدة، وصور لهروب مستوطنين وقادتهم.
وفور اندلاع المواجهة، نشرت المقاومة الفلسطينية رسائل إعلامية، أهمها شريط فيديو يصور صاروخاً من تصنيعها، ومجموعة صور استعراضية لمسلح يحمل صواريخ، ومن خلفه نيران تشتعل، وكتب أسفلها بالعربية والعبرية "كل المدن الإسرائيلية قريبة من غزة"، في إشارة إلى أنها في مرمى صواريخ المقاومة.
لكن الأيام الخمسين من حرب غزة أظهرت أن هناك فرقًا بين "حرب نفسية وشنّ حرب بطريقة نفسية"، لأن المقاومة الفلسطينية انخرطت في النوع الأول، وأرسلت رسائل نصية أنّ المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا تعرض لهجوم، فيما النوع الثاني في صميم حملتها، حيث الصواريخ التي لا يمكنها الانتصار على الإسرائيليين، يمكنها نشر الخوف بينهم.
وجاءت ذروة الحرب الدعائية في تحدي المقاومة الفلسطينية، بشكل علني وعلى الهواء مباشرة، بدعوتها وسائل الإعلام بتسليط كاميراتهم نحو سماء تل أبيب، الساعة التاسعة من مساء يوم 12 /7 /2014، وتحدت الطواقم الفنية العسكرية بإرسال بطاريات القبة الحديدية إلى محيط المدينة لمنع سقوط الصواريخ.
وهدفت المقاومة بإعلانها توجيه ضربة عسكرية صاروخية ضد تل أبيب، قبل ساعة من التنفيذ، إلى إثبات قوة الردع، وقدرتها على تنفيذ تهديداتها، على الرغم من قوة الجيش الإسرائيلي، والتحليق المكثف لطائرات الاستطلاع والمروحية والحربية في سماء غزة.
منح ذلك كله المقاومة فرصة أن تنجح في كسر هيبة الجيش "الذي كان لا يقهر"، والتسبب في صدمة نفسية عميقة للإسرائيليين، والتلاعب بأعصاب قيادتهم، وتسجيل نقطة لصالح الفلسطينيين في الحرب النفسية، حيث تم استخدام هذا "التكتيك الجديد" ليثبت قدرته على نقل المعركة من غزة إلى داخل الكيان الإسرائيلي.
وحين أعلنت المقاومة أنها ستقصف تل أبيب بصواريخ جديدة في التاسعة مساء، استخدمت جزءًاً من الحرب النفسية التي تعود الإسرائيليون طويلاً على استخدامها ضد الفلسطينيين. وهكذا استخدم الجانبان الحرب النفسية سلاحاً ثانياً على الجبهة، سعى كل طرف فيها إلى تثبيت صورة انتصار. ويوماً بعد يوم، ازداد التأثير النفسي لهذه الحرب التي بدت وسائل الإعلام جزءاً مهماً منها، إضافة إلى الشبكات الاجتماعية.
اقتنع الإسرائيليون بأن ما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية حرب نفسية، ونجحت فيها، لأن الشارع الإسرائيلي وقف بانتظار إن كانت ستنجح في تنفيذ إعلانها. وفي نهاية الأمر، حدث إطلاق الصواريخ في الموعد، وعند إطلاق صافرات الإنذار توجه الإسرائيليون إلى الملاجئ.
وفي وقت لاحق من الحرب، عمل مهندسو المقاومة وخبراؤها على بث رسالة المقاومة، ونقل الصورة الحقيقية للمعركة إلى الجمهور الإسرائيلي بشرائحه كافة.
الجمهور المستهدف
تمثل هذا الجهد بداية في اختراق بث القناة العبرية الثانية، وهي من أهم القنوات واسعة الانتشار، وبث رسالة لمدة دقيقتين للجمهور الإسرائيلي، مذكرة إياه بغباء قيادته وتهورها، وصولاً إلى اختراق البريد الإلكتروني لمليون إسرائيلي، ووضع إشارة المقاومة، وبث بيان بالصور لهم، عبر سيطرتها على نظام الرسائل الخاص بمجلس المستوطنات، وإرسال رسائل التهديد للإسرائيليين، مروراً باختراق هواتف عدد كبير من الجنود على حدود غزة، وإرسال رسائل نصية، وأخرى صوتية، لهواتفهم الشخصية، تخاطب كل فئة منهم حول المعركة الدائرة.
كما تلقى مئات الإسرائيليين رسائل تهديد، موقعة باسم المقاومة الفلسطينية، خلال أيام الحرب على غزة، حيث أرسلت مئات الرسائل النصية (SMS) على هواتفهم المحمولة، تتعهد فيها بمواصلة القتال والتصدي للعملية العسكرية، واستمرار إطلاق الصواريخ باتجاه البلدات الإسرائيلية، وطالبتهم بالهروب من مدينة حيفا، بعد قصفها مصانع البتروكيماويات، ما يهدد حياتهم، في محاولة للمس بمعنويات الإسرائيليين في هذه المعركة.
ثم أرسلت المقاومة رسالة نصية لشركات الطيران التي تسيّر رحلاتها إلى الكيان الإسرائيلي، وتحديدًا مطار اللد (بن غوريون)، حذرتها من خطر الإقلاع والهبوط والسفر عبره، لأنه من بنك أهداف المقاومة، وتطالبها بوقفها، بسبب وجود مخاطر محدقة بكل المطارات نتيجة للحرب.
فيما أصدر جهاز الشاباك الأمني تحذيرًا للإسرائيليين من القراصنة الفلسطينيين، الذين اخترقوا مواقع رسميّة وإعلاميّة، وأرسلوا رسائل نصية، ما زاد من حالة القلق في أوساط المخابرات، بسبب تصاعد احتمالات تعرّض الشبكات لهجمات إلكترونية واسعة من "هاكرز" داعمين للفلسطينيين.
كما اخترق فلسطينيون موقع شركة "دومنيز بيتسا" على الإنترنت، ونشروا كلاما باللغات العربية والعبرية والإنجليزية يقولون فيه: "اليوم سنضرب أعماق إسرائيل.. تل أبيب، القدس، حيفا، عسقلان، أسدود، بأكثر من 2000 صاروخ".
وبدأت تتصاعد حملات القراصنة الفلسطينيين ضد الإسرائيليين، بصورة تدريجية منذ بدء حرب غزة، لأنها استهدفت حسابات لشخصيات عسكرية وسياسية إسرائيلية بارزة، وأرفقت صورا تظهر اختراقها، وأرسلت عبر تلك الحسابات رسائل تشمل صور مسلحين فلسطينيين، وشعار "الهاكرز" الخاص بهم، وطلبت من الإسرائيليين الرحيل عن فلسطين.
ودشنت المقاومة الفلسطينية بعض مواقعها الإلكترونية الناطق باللغة العبرية لأول مرة، واتخذت الخطوة لمخاطبة الجمهور الإسرائيلي، بالتزامن مع تواصل العدوان على غزة. واحتوت المواقع على عدة أقسام، تتناول عرض صور ومقاطع فيديو وأخبار المقاومة، فيما لم تتوقف قنوات فلسطينية، لا سيما تلفزيون الأقصى، عن بث رسائل متواصلة بالعبرية للجنود الإسرائيليين، تتوعدهم بالموت في غزة، إذا دخلوها براً، وتخبرهم بأن قادتهم ورّطوهم في حربٍ لا قبل لهم بها، وعليهم انتظار الصواريخ.
وشعر الفلسطينيون، أيام الحرب، خصوصاً في أثناء بث التلفزيونات الإسرائيلية برامجها، أن فضائية الأقصى تحولت إلى مخاطبة الإسرائيليين أيضاً، وليس الفلسطينيين فقط، لأن تلك القنوات تترجم ما يقولون على "الأقصى" أولاً بأول، فيما نجحت المقاومة في اختراق قنوات إسرائيلية عدة ثوان، وأظهرت مقاتلا بسلاحه وسط البحر. وبثت قنوات تلفزيونية فلسطينية صورا منتظمة لمقاتلين ملثمين يحملون قناصات وصواريخ، وصورا أخرى لراجمات الصواريخ تعمل، في تحد مباشر للجيش الإسرائيلي.
وأنتج الفلسطينيون أغنية بالعبرية بثت مئات المرات، تقول ترجمتها: "سنزلزل أمن إسرائيل"، وتقول كلماتها: "اهجم نفذ عمليات، هز كيانهم، واجعله يضطرب، اقتل كل الصهاينة، زلزل أمن إسرائيل، تقدم واحرق معسكراتهم، زلزل أمن إسرائيل، وأشعل فيه بركانا"، ويظهر في فيديو الأغنية مقاتلون فلسطينيون يتدرّبون على إطلاق الصواريخ، حيث انتشرت الأغنية بشكل كبير جدا على "يوتيوب"، وبعدة أشكال وفيديوهات مختلفة، في نسبة مشاهدات وصلت مئات الآلاف.
شبكات التواصل
لم تقتصر الحرب النفسية التي شنتها المقاومة ضد الإسرائيليين على الإعلام الرسمي وناطقيه، بل دخل الأفراد والمدونون على الخط، وأخذوا يبادرون بالنشر بواسطة الشبكات الاجتماعية. ونشر الفلسطينيون أفلاماً على الشبكات الاجتماعية، لتهديد الإسرائيليين، وكيف يجري انتشال أطفال من تحت بيوت يدّعي الجيش أنها أهداف، ونشروا كذلك صورا لرئيس الوزراء الإسرائيلي وقائد الجيش ملطخين بالدماء.
كما تبادلوا شريط فيديو على نطاق واسع، يظهر تدريبات لوحدة كوماندوز بحرية في المياه، ومقاتل يركع تحت الماء، فيما تم السماح لصحافيين بتوثيق شهادات لمقاتلين فلسطينيين، تتعلق بتنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات الجيش البرية المتوغلة في غزة، وتجولوا في أنفاق هجومية ومرابض لإطلاق قذائف الهاون والصواريخ.
ولإنجاح أدائها الإعلامي، دأبت المقاومة على نشر قصص مثيرة لمقاتلين خاضوا معارك ضارية مع الجيش الإسرائيلي في مناطق مختلفة من غزة، في كل محاور الاشتباك من شمال القطاع إلى جنوبه، ونفذوا عمليات التفاف خلف القوات المتوغلة، والتصدي لآليات الاحتلال وجنوده بكل وسيلة، جزء منهم من وحدة الأنفاق، مهمتهم تجهيزها، وتهيئتها لاستخدام مقاتلي النخبة، وقد أخذوا مواقعهم قبل بدء الحرب البرية.
وشهدت حرب غزة إصدار بلاغات عسكرية حول عمليات التصدي وضربات المقاومين لآليات الجيش، في ظل التنسيق الكامل بين المقاومين في ميدان المواجهة والوحدات الإعلامية، حيث يتم إبلاغها، أولاً بأول، من المجموعات في الميدان عن ضرباتها للعدو، عن تفجير العبوات وإطلاق القذائف المضادة للدروع ونوع السلاح الذي يستخدمه المقاومون، وتحديد المكان والزمان.
وتباعاً، تصدر الوحدة الإعلامية البلاغات العسكرية حول ضربات المقاومين، ووصف طبيعة الخسائر التي تكبدها العدو التي يحاول المقاومون تحديدها قدر الإمكان، بناءً على مشاهداتهم، ومع الخبرة أصبح لديهم قدرة على تحديدها بدقة.
ظهرت المقاومة في حرب غزة بحلة إعلامية جديدة، استطاعت الارتقاء بخطابها الإعلامي، وأوقعت، في الوقت نفسه، الجيش الإسرائيلي في وحل من التضليل، لم يعتد عليه سابقاً، مما انعكس على تصريحاته وأدائه الميداني، وجرت العادة لدى المقاومة لاستخدام وسائل الإعلام في عرض صور الغنائم التي تحصل عليها في أعقاب كل عملية، خصوصاً حطام الآليات العسكرية، وأجزاء من الدبابات المعطوبة، وأشلاء جنود قتلى.
ولعل النجاح الواضح لإعلام المقاومة عاد إلى إدراك أن المعركة مع العدو ليست عسكرية بحتة، بل أمنية وإعلامية، تعتمد بدرجة كبيرة على صراع الأدمغة والعقول.
وانطلاقاً من هذا الفهم العميق، وإدراكاً لطبيعة المعركة مع العدو، اعتمدت المقاومة سياسة إعلامية تعتمد على تضليل العدو وإرباكه، وعدم تقديم أي معلومة يمكن أن يستفيد منها، خصوصاً أن المساحة الجغرافية التي تعمل عليها المقاومة في غزة ضيقة نسبياً، ويمكن للعدو أن يستخدم أي معلومة ورقة ضغط، أو حتى سيفاً مسلطاً تكون عواقبه وخيمة.