"الحكيم اللي ما بيوصف مصل، هيدا حكيم بلا أصل"، هكذا كانت جدتي "الحاجّة نسب"، رحمها الله، تحكم على كلّ طبيب تقصده ولا يصف لها المصل كدواء لأيّ وجع أو لمرض تشتكي منه.
كانت جدتي دائمة القلق على وضعها الصحي، لا تفوّت فرصة "تتوفّق" خلالها بطبيب لتنهال عليه بالأسئلة طلباً لشرح عن كلّ تفصيل متعلّق بصحّتها، لتستطرد بعدها في الحديث عن أمورها البيتية وأخبار العائلة، وصولاً إلى خبريات الجيران والضيعة.
لم أرها مذ عرفتها إلا ومعها كيسها الخاصّ: كيس كبير فيه أدوية لكلّ الأمراض. هو صيدلية متنقّلة بحدّ ذاته. أدوية انتهت صلاحيتها، وأدوية لا تتناولها أصلاً، إضافة إلى أدوية للسعال والالتهاب، ومسكّن للأوجاع (كانت تسميه مسكّتاً للأوجاع). وتجد في هذا الكيس مراهم وعقاقير، بخّاخات للربو، لا لزوم لمعظمها، ومع ذلك تحتفظ بها، فهي مصدر طمأنينتها.
علاقتها بالأطباء والأدوية جعلتها لا تتوانى عن إعطاء رأيها الطبّي حين تدعوها الحاجة. فصارت تقدّم النصائح والإرشادات الصحية لكلّ متوعّك، وغالباً ما ترفق رأيها بدواء من الكيس.
تتوزّع بيوت قريتنا جرجوع على جنبات تلّة عالية من تلال الجنوب اللبناني في أعالي إقليم التفّاح. تطلّ من جهة الغرب على قرى الزهراني وشرق صيدا، ومن الجهة الشرقية تطلّ على سلسلة من تلال تمركزت على قممها قواعد للعدو الإسرائيلي حتّى العام 2000.
كان ذلك بين ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي، ما جعل الحيّ الشرقي في البلدة خالياً تقريباً من السكّان نظراً لخطورته، وتعرّضه الدائم للقصف والقنص.
بيت جدّي يقع في الحارة الشرقية، الحارة الأخطر، ومع ذلك لم يترك جدي وجدتي بيتهما في تلك الفترة إلا في الحالات التي تشتدّ خلالها الخطورة كثيراً. ولعلّ بيتهما هو الوحيد الذي بقي مأهولاً طوال فترة الحرب والاحتلال.
كان يتردّد أسبوعياً على بلدتنا جرجوع وقتها مستوصف نقّال للصليب الأحمر اللبناني، وقبل وصوله بساعات تكون قد تجمّعت في ساحة البلدة كلّ عجائز البلدة، يتسابقون من الصباح الباكر علّهم يحجزون أماكنهم على مصطبة ومقعد حيث تركن سيارة الصليب الأحمر، العيادة المتنقّلة، حتّى يتمّ فحصهم من قبل طبيب المستوصف قبل غيرهم.
أذكر أنّ فريق المستوصف كان يحفظهم بالاسم واحداً وواحدة، يعرف كلّ قصصهم، ومشاكلهم الصحيّة وغير الصحيّة، بكلّ تفاصيلها، لينتهي بعدها إلى إعطائهم أدوية، بما يجده مناسباً، صحيّاً أو لمجرد إرضاء بعضهم، ومن بينهم بالتأكيد جدّتي.
دخلت جدتي ذات مرة العيادة، وأفرغت أمام الطبيب ما بجعبتها من أوجاع وأوهام، وراحت تسرد له بعضاً من مشاكلها وهمومها، الصحيّة والنفسية. سمعها وفحصها، ووصف لها دواء، وخرجت راضية.. مبدئياً.
دخلت بعدها الحاجة أم حسن، وبقيت جدّتي تنتظرها في الخارج. دقائق وخرجت الحاجة أم حسن ومعها ثلاثة أدوية. الأمر الذي أغضب جدتي كثيراً، وثارت على الجميع من حولها. بدأت جدّتي ثورتها بالقول: "هذا ليس عدلاً، أنا أسكن في الحارة الشرقية، أمام مدافع الاحتلال، تحت القصف، أعطاني دواءً واحداً، وأم حسن بيتها في الحارة الغربية، في الحيّ الغربي، الآمن، أعطاها ثلاثة أدوية، ما هذا الظلم؟".
لم يعجب أم حسن كلام جدّتي، لفّت أدويتها تحت إبطها وتوارت من أمامها بسرعة وغضب.
سمع الطبيب الصراخ، فتدارك الأمر فوراً، إذ طلب من مساعديه إعادة إدخال الحاجة نسب من جديد. اعتذر لها عن فعلته الطائشة، وأعاد النظر بكمية الأدوية، ثم أضاف إليها أدوية جديدة، عرفنا لاحقاً انّها بعض المسكّنات ليس إلا... هكذا هدأت جدّتي، وشعرت أنّها استعادت حقّها.
هكذا تسلّحت جدّتي بمرضها، وكان الدواء بالنسبة إليها سحراً يزيل كلّ قلق. فقد خيّب القدر ظنّها، والمرض كان أملها المجهول، فوضعت ثقتها بحبّات صغيرة، تريح بالها.