لم يكن جلال حسني أبو حية يتوقّع في يوم أن تُتاح له استعادة هواية المراهقة. كذلك لم يتخيّل أنّه سوف يضطر إلى الجلوس على كرسي متحرّك بعد استهدافه برصاص قوات الاحتلال
في ورشة صغيرة في بلدة بني سهيلا الواقعة إلى شرق مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، يتنقّل جلال أبو حية البالغ من العمر أربعين عاماً على كرسيه المتحرك بمساعدة أحد أبنائه. هنا يصنع سيوفاً وخناجر عربيّة وأنواعاً أخرى من المنتجات المعدنية، بعدما تغيّرت حياته في عام 2018 إثر إصابة في ظهره على أيدي الاحتلال الإسرائيلي سبّبت له شللاً نصفياً.
لم يشأ أبو حية ملازمة بيته على الرغم من إصابته، فانخرط من جديد في سوق العمل من خلال هواية جذبته مذ كان مراهقاً، ألا وهي صناعة السيوف والخناجر. بالنسبة إليه "هذه هي المهنة الأنسب لحالتي في الوقت الراهن". لكنّه يعمل بحسب جدول التغذية بالكهرباء في منطقته، ففي يوم منذ ساعات الصباح الأولى حتى العصر وفي اليوم التالي من العصر حتى الليل.
وأبو حية كان قد بدأ يعمل في الثانية عشرة من عمره في مجال القصارة (طلاء الجدران بالإسمنت) مع والده، قبل أن ينضم إلى جهاز الأمن الوطني التابع للسلطة الفلسطينية في عام 2003. وإثر أحداث الانقسام الفلسطينية في عام 2007، التزم بقرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتوقّف عن العمل بسبب سيطرة حركة حماس. لكنّه رفض البقاء بلا حركة وتقاضي راتب في كلّ الأحوال، وانخرط في جهاز الدفاع المدني في غزة كمنقذ في عام 2014. نتيجة عمله مع حكومة غزة قُطع راتبه من قبل السلطة الفلسطينية، لكنّه استمرّ في نشاطه إلى جانب العمل في بعض الأيام في القصارة بهدف توفير حياة كريمة لأبنائه. وأبو حيّة أب لأربعة أبناء وبنت واحدة، هم محمد (18 عاماً) وأسامة (15 عاماً)، وحسني (12 عاماً) ونزار (10 أعوام) ورنا (ثمانية أعوام). يُذكر أنّ منزل عائلة أبو حية دُمّر بالكامل نتيجة القصف الإسرائيلي المباشر الذي استهدف منطقة السوق في بلدة بني سهيلا في خلال عدوان عام 2014.
وفي 14 مايو/ أيار من عام 2018، انقلبت حياة أبو حية. هو كان قد التحق بعمله منذ الصباح، علماً أنّ فلسطينيين كثراً تجمّعوا في ذلك اليوم على الحدود الشرقية للقطاع المحاصر بهدف إحياء الذكرى السبعين لنكبة فلسطين بالتزامن مع مسيرات العودة. وفي خلال قيامه بإنقاذ أحد المصابين، وهو يرتدي زيّ الدفاع المدني، أصيب برصاص الاحتلال الذي تسبّب في شلله النصفي. ويخبر: "تلقّيت طلقاً نارياً متفجراً في الظهر، فيما كنت أنقل حمّالة لإسعاف أحد المصابين. والحمّالة نفسها وُضعت عليها لينقلني المتظاهرون من المكان". يضيف: "خضعت إلى عدد من العمليات الجراحية، تمكّن في خلالها الأطباء من استخراج الرصاصة، غير أنّ بعض البقايا ظلّت في جسدي. فإزالتها، بحسب ما أوضحوا لي، كانت سوف تتسبّب في أضرار إضافية. وبدأت رحلة المعاناة".
حاول أبو حية السفر إلى مصر للخضوع إلى كشوفات الطبية وربّما إلى عمليات قد تكون مفيدة، لكنّ الأمن المصري رفض السماح له بالدخول لأسباب أمنية. في المقابل، هو غير قادر على السفر إلى الضفة الغربية المحتلة عبر معبر بيت حانون في شمال قطاع غزة، لأنّ الاحتلال الإسرائيلي يرفض مرور مصابي مسيرات العودة، خصوصاً العاملين في حكومة غزة. بعد الرفض المتكرّر في أكثر من جهة، شعر أبو حية بالإحباط، إذ وجد نفسه مضطراً إلى ملازمة بيته وهو أمر لم يعتد عليه. ثمّ حسم أمره وقرّر عدم الاستسلام على الرغم من إعاقته المستجدّة. تذكّر هوايته، صناعة السيوف والخناجر، عندما كان مراهقاً، وبدأ يصمّم ماكينات كهربائية لذلك تلائم وضع إصابته وطريقة تحرّكه. وهكذا انطلق في مشروعه.
في البداية، صمّم ماكينة تتوافق مع واقع أنّه على كرسي متحرّك، وهي ماكينة سنّ المعادن للسيوف تعلّم تصميمها من خلال تسجيلات على موقع "يوتيوب"، ثمّ صمّم أخرى لنشر المعادن واشترى ثالثة لخرقها. وراح يصنع السيوف والخناجر، ويبيعها بواسطة أصدقائه وأشقائه ومعارف له في شرق خان يونس. كذلك أنشأ صفحة على موقع "فيسبوك" يروّج من خلالها لمنتجاته، وبالفعل بدأ بعض هواة السيوف بالاستفسار عن منتجاته. من جهة أخرى، استطاع إقناع أصحاب محلات تجارية تهتمّ بإكسسوارات الشباب بعرض بعض منتجاته. هكذا استقطب زبائن له.
ويصنع أبو حية أنواعاً مختلفة من السيوف، منها العربية ومنها الخاصة بالساموراي، بالإضافة إلى السواطير الكبيرة والسيوف الفارسية. كذلك، يرسل له أشخاص عبر صفحته على موقع "فيسبوك" صور خناجر وسيوف معيّنة يرغبون فيها فيعمل هو على تنفيذها. ويحظى عمله بالإقبال، إذ إنّه يتقن ما يقوم به. ويأمل أن يتمكّن في خلال الأيام المقبلة من إنشاء محلّ في شارع عام من جهة، ومن جهة الخضوع إلى جراحة تخفّف من حدّة إعاقته.