14 نوفمبر 2024
جمال اللبنانيات مهمة وطنية
لبنان شبيه العراق في الطائفية والمحاصصة، لكنه يختلف عنه في نقطة جوهرية: النساء في العراق مطلوبٌ منهن إخفاء جمالهن. وإذا تجرأت الواحدة منهن على اختراق هذا القانون، فتصدّرت صورها المجلات والمواقع بصفتها جميلة، أو صانعة للجمال، فمآلها الموت قتلاً. هذا ما حصل أخيرا في أربع جرائم، كانت ضحيتها تلك الفئة من النساء العراقيات. أما في لبنان، فالعكس تماماً. جمال اللبنانيات مورد رمزي ومادي بامتياز. الانتخاب الأخير لملكة جمال لبنان، قبل أيام، بلغ ذروة هذه الرياضة الوطنية اللبنانية. كان حدثا رسميا وشعبيا مدوّياً: تفاخر به اللبنانيون في الواقع وفي الافتراض، وحضره وزراء ونواب وممثلون لرئاستي الجمهورية والوزراء، وغطته الوكالات المحلية العربية الأجنبية. قناة أم تي في، المنظِّمة للحدث، سخّرت من أجله كل التقنيات، عالية التكلفة، للإبهار البصري، ولإضفاء الصفة "العالمية" عليه. استعانت المحطة بالجامعة اللبنانية الأميركية، لتنظم دورات تدريبية وورش عمل مكثفة للمتباريات، وقد بلغ عددهن الثلاثين: وكان في دروس "الذكاء" هذه، مواد مثل "مهارات القيادة" و"فنون التواصل"، و”التنمية المستدامَة" و"مناصرة قضايا المرأة وحقوقها". وذلك كله تجنباً لـ"فضائح" الأعوام الماضية، حيث كان "الغباء والجهل" يهيمنان على إجابات الجميلات.. بل إن أنصار الحزبَين المسيحيَين الأقوى، القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، اللذين يتنافسان على البترون، مسقط رأس الملكة، صادروا هذه الأخيرة، منذ اللحظة الأولى، لتوليها العرش، فقالوا ما يردِّدونه بحق كل غنيمةٍ عائدةٍ إلى "المجتمع المسيحي"، بأنها، أي الملكة، خاصتهم هم، فعلقوا في سجالٍ، لمن تكون الملكة، "تيار" أو "قوات"، وربما ما زالوا. ولكن الأهم من هذا كله، وبالتلازم معه، كان إجماع التحكيم والألف مدعو إلى المبارة، فضلا عن رواد "السوشال ميديا"، على مرشحة واحدة فقط، خلافاً للمباراة السابقة، وخلافاً أصلاً للعقلية اللبنانية التي لا تحب شيئاً في الدنيا قدر الاختلاف على خيار أو قرار. كلهم كانت
عيونهم شاخصةً على مايا رعيدي، كلهم أجمعوا عليها ويا للعجب.. طبعاً لأنها جميلة، ولكن الأهم لأنها "شبيهة" ملكة جمال لبنان لعام 1970 جورجينا رزق، والتي تُوّجت ملكة جمال الكون في العام الذي تلاه. والملكة نفسها عبّرت صراحةً عن أمنيتها "بإعادة المجد للقب ملكة جمال لبنان"؛ أي أن تتوّج، كما نظيرتها قبل 47 عاماً، على عرش "الجمال" الكوني.
حسناً، نحن هنا أمام حالة حنينٍ جارف إلى السبعينات. ومن غير مقوِّم واحد من مقومات تلك السبعينات، غير "جمال اللبنانيات"، فثمّة فرق بين الآن وسبعينات القرن الماضي، قد يحتاج إلى التذكير: أن لبنان السبعينات هذا كانت له موارد أخرى: كان لبنان موطناً للمصايف، والأنهر والينابيع، والمستشفيات، والجامعات ومراكز الأبحاث والمقاهي والمسارح، عاصمة عربية لحرية التعبير، مقرّاً للصحافة ودور النشر العربيَين، وجمال نسائه نعمةٌ من نَعماته. كانت مباراة الجمال تراثاً "استقلالياً"، انطلقت أولى حفلاتها في العام نفسه الذي انتزع فيه اللبنانيون استقلالهم من الانتداب الفرنسي، أي عام 1943. وقد تسرّبت طبائع محبي الجمال اللبناني إلى العرب الباقين، فانتخبت غلاديس أبو جودة، المعروفة بـ"حبيبة" لاحقاً، "مليحة العرب" عام 1966، فغزت حبيبة السينما المصرية، وكانت مواهبها فيها تتجلّى بأدوار الإغراء.
في السبعينات، كان الانتباه قليلا إلى هذه الثروة. والدولة والشعب في مكان آخر. وقتها، جورجينا رزق لم تُعرف حقاً إلا بعد نيلها لقب ملكة جمال الكون. وباستثناء المجلات الفنية المتخصصة والمقابلات مع الملكة وظهورها، هي الأخرى، في أفلامٍ مصرية، لم يكن الموضوع مهمّاً أبداً، بل كنا لا نبالي بهذه الأنشطة، نصفها بالتافهة والسطحية، ونسخر مما رسخ في أذهاننا عن قلّة حيلة المتباريات أمام أسئلة التحكيم بالغة السهولة. وفي كل الأحوال، كوكبنا اللبناني كان منشغلاً بأشياء أكثر أهمية، ولم نكن نعاني إلا من فرط الأمل بالتغيرات الجذرية، وسط بحبوحة ولذة في العيش.
أما الآن، فلبنان خسر كل موارده، بل أكثر من ذلك، أصبح موطن القبح، بلا منازع: ينابيعه
جفّت وكذلك آباره، وتيارات أنهاره تجرف النفايات، وكهرباؤه بيد عصابات، طرقاتُه بلا طريق ولا رصيف، هواء مشبع بالمازوت وروائح النفايات القديمة والجديدة، وجَلَبة وثرثرات بلا طحين، يضيعان الأذن، وشواطئ قذرة تغصَ بالبكتيريا والأبقار النافقة، وواجهات بحرية مغلقة على النظر وعلى متوسطي الحال، استولى على شواطئها ومياهها مقاولون متنفذون، لكل واحد منهم حامي حمى في الأحزاب الحاكمة؛ وجبال يأكلها مقاولون آخرون، متنفذّون أيضاً، وخَضار يزول ليحلّ محله الباطون الرمادي الهشّ والموحش. وتلوثُ ينال من العين، من الأذن، من الأنف... لبنان؟ البشاعة تسلّل إلى روحه ومعناه أيضاً، وأصلاً: كذب وجشع ومهاترات وفساد ينخر العظم، وابتزاز، وريبة، وتنافس على الغرائز، وتوسّع في البذاءة اللفظية والسلوكية، وكله على وتيرة رتيبة لا تنتهي.. وكله من أدوات تدمير روح لبنان بالبشاعة، وهو سلاح دمار شامل، لا يقلّ عن سميّته تمسّخاً وفظاعة.
في هذه الأرض المحروقة، والقابلة لمزيد من الاحتراق، وأزمات هويةٍ وتبعيةٍ وفشل دولة وفشل مجتمع، ما بعدهما فشل.. وسط هذه الخرابة، هذه القباحة، يأتي انتخاب ملكة جمال لبنان مثل واحةٍ مقطوعةٍ عن محيطها، يهبط عليها الرزق من السماء. بزخمٍ موصوف، وبزخم آخر موعود، آتٍ بلا ريب، بأن المورد الوحيد المتبقي هو جمال اللبنانيات الذي سينشّط السياحة وتوابعها ويخلق الوظائف، ويغذّي الخزينة المنهوبة والمديونة. ثم خطوة أو نصف خطوة، فترفع ملكة الجمال إلى مصافّ الممثل شبه الرسمي لبلادها. على الأقل، هذا ما تفهمه من رسالة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على "تويتر"، إلى الملكة، يدعوها فيها إلى العمل "من أجل السلام في لبنان"، ولضم "صوتها إلى أصوات من يطالبون بإبعاد صواريخ حزب الله عن الأماكن السكنية".
خسر لبنان كل موارده، أفلسَ بمعناه وبملْكه، ولم يبق في جعبته إلا "جمال" نسائه، فكانت المكانة العالمية التي احتلتها فنون الأناقة وتصفيف الشعر، الضرورية لحاجة اقتصاده إلى
"الجمال"، أو بالأحرى إلى الترفيه بالجمال. وما من ترفيهٍ أحلى للعيون العطشى لمنظر جميلاتٍ يعرضن ما مكّنه بهن الله، أو ما أضاف إليه الجراح التجميلي أو أنقَصَ. وهذه المسؤولية الوطنية الملقاة على أكتاف اللبنانيات دخلت في نسيج سلوكهن واهتمامهن، واكتسبت عمقاً مع تزايد الأزمة المعيشية. فمهما كان عمرها أو طبقتها أو ثقافتها، على اللبنانية أن "تبدو جميلة". هذه فكرةٌ غارزة في الوعي واللاوعي، تلمسها في التعبير الذي يعلو وجوه الجميلات اللواتي تصادفهن، تعبير نجمات الفن والغناء، وصاحبته لا تريد إلا جواباً على ما يطرحه جبينها، شفتاها، عيونها من سؤال: "ألستُ جميلة؟". وهذه مهمةٌ مقلقةٌ للمعنيات بالنظر، تلاحقهن حتى في تقدّم أعمارهن. إذ تكون الرياضة الملحقة بهذه المهمة هي الجراحات التجميلية ومحاليل وحقن بما ينفخ، أو يشفط.. إلخ. وبشرط أساسي، أن تكون قيمة "الجمال" بالمعايير نفسها التي يتم فيها اختيار ملكة الجمال: أي أن معدل "الجمال" أعلى من معدل الذكاء. هذا ولم نتكلم عن المعايير الجمالية نفسها، الثابتة، المؤطّرة، التي لا تحتمل أي زيح خارج عن المرسوم، واسمها "معايير عالمية"؛ أو هذا ما يفهمه المعنيون من صفة "العالمية" في الجمال.
هكذا، مرة أخرى، وبلغةٍ مستحبةٍ عزيزةٍ على قلب الجميع، يُكَتب تاريخ البلاد على جسد النساء. ليس بالقتل المباشر، ولا بالتشهير، ولا بالتجريح، ولا بالحرمان؛ وجميعهم لا ينقصون حضوراً بدورهم.. إنما، وفوق ذلك، بإرغام اللبنانيات على البقاء جميلاتٍ، بإبقاء شعلة "الأنا" الجمالية متّقدة، مسكونة بقلق وجودي على صورتها، أين منه ذاك الإصرار على التمرّغ في وحول الرثاثة؟
حسناً، نحن هنا أمام حالة حنينٍ جارف إلى السبعينات. ومن غير مقوِّم واحد من مقومات تلك السبعينات، غير "جمال اللبنانيات"، فثمّة فرق بين الآن وسبعينات القرن الماضي، قد يحتاج إلى التذكير: أن لبنان السبعينات هذا كانت له موارد أخرى: كان لبنان موطناً للمصايف، والأنهر والينابيع، والمستشفيات، والجامعات ومراكز الأبحاث والمقاهي والمسارح، عاصمة عربية لحرية التعبير، مقرّاً للصحافة ودور النشر العربيَين، وجمال نسائه نعمةٌ من نَعماته. كانت مباراة الجمال تراثاً "استقلالياً"، انطلقت أولى حفلاتها في العام نفسه الذي انتزع فيه اللبنانيون استقلالهم من الانتداب الفرنسي، أي عام 1943. وقد تسرّبت طبائع محبي الجمال اللبناني إلى العرب الباقين، فانتخبت غلاديس أبو جودة، المعروفة بـ"حبيبة" لاحقاً، "مليحة العرب" عام 1966، فغزت حبيبة السينما المصرية، وكانت مواهبها فيها تتجلّى بأدوار الإغراء.
في السبعينات، كان الانتباه قليلا إلى هذه الثروة. والدولة والشعب في مكان آخر. وقتها، جورجينا رزق لم تُعرف حقاً إلا بعد نيلها لقب ملكة جمال الكون. وباستثناء المجلات الفنية المتخصصة والمقابلات مع الملكة وظهورها، هي الأخرى، في أفلامٍ مصرية، لم يكن الموضوع مهمّاً أبداً، بل كنا لا نبالي بهذه الأنشطة، نصفها بالتافهة والسطحية، ونسخر مما رسخ في أذهاننا عن قلّة حيلة المتباريات أمام أسئلة التحكيم بالغة السهولة. وفي كل الأحوال، كوكبنا اللبناني كان منشغلاً بأشياء أكثر أهمية، ولم نكن نعاني إلا من فرط الأمل بالتغيرات الجذرية، وسط بحبوحة ولذة في العيش.
أما الآن، فلبنان خسر كل موارده، بل أكثر من ذلك، أصبح موطن القبح، بلا منازع: ينابيعه
في هذه الأرض المحروقة، والقابلة لمزيد من الاحتراق، وأزمات هويةٍ وتبعيةٍ وفشل دولة وفشل مجتمع، ما بعدهما فشل.. وسط هذه الخرابة، هذه القباحة، يأتي انتخاب ملكة جمال لبنان مثل واحةٍ مقطوعةٍ عن محيطها، يهبط عليها الرزق من السماء. بزخمٍ موصوف، وبزخم آخر موعود، آتٍ بلا ريب، بأن المورد الوحيد المتبقي هو جمال اللبنانيات الذي سينشّط السياحة وتوابعها ويخلق الوظائف، ويغذّي الخزينة المنهوبة والمديونة. ثم خطوة أو نصف خطوة، فترفع ملكة الجمال إلى مصافّ الممثل شبه الرسمي لبلادها. على الأقل، هذا ما تفهمه من رسالة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على "تويتر"، إلى الملكة، يدعوها فيها إلى العمل "من أجل السلام في لبنان"، ولضم "صوتها إلى أصوات من يطالبون بإبعاد صواريخ حزب الله عن الأماكن السكنية".
خسر لبنان كل موارده، أفلسَ بمعناه وبملْكه، ولم يبق في جعبته إلا "جمال" نسائه، فكانت المكانة العالمية التي احتلتها فنون الأناقة وتصفيف الشعر، الضرورية لحاجة اقتصاده إلى
هكذا، مرة أخرى، وبلغةٍ مستحبةٍ عزيزةٍ على قلب الجميع، يُكَتب تاريخ البلاد على جسد النساء. ليس بالقتل المباشر، ولا بالتشهير، ولا بالتجريح، ولا بالحرمان؛ وجميعهم لا ينقصون حضوراً بدورهم.. إنما، وفوق ذلك، بإرغام اللبنانيات على البقاء جميلاتٍ، بإبقاء شعلة "الأنا" الجمالية متّقدة، مسكونة بقلق وجودي على صورتها، أين منه ذاك الإصرار على التمرّغ في وحول الرثاثة؟