09 يونيو 2017
جنوب السودان.. مأساة الانفصال كما الشراكة
لم يكن جنوب السودان راضيا عن شراكته مع السودان، ظل يشعر بالتبعية والتهميش، وهيمنت عليه مشاعر الاستقلال، واختار أهله بنسبة 99 في المائة الاستقلال في استفتاء العام 2011، لكنه دخل في حروبٍ أهليةٍ طاحنةٍ أسوأ بكثير من قبل، ويواجه اليوم أكثر من مليون جنوب سوداني (ثُمن السكان) خطر الموت جوعا، ويحتاج حوالي خمسة ملايين إلى مساعداتٍ غذائيةٍ وإغاثيةٍ عاجلة. لم يجد السودانيون الجنوبيون المساواة والرضا والانتماء مع الشماليين العرب، كانوا يعتقدون أنهم محتلون، وأنهم يعاملون كأنهم غرباء، أو مواطنون من الدرجة الثانية، لكنهم دخلوا بعد الاستقلال في حربٍ أهليةٍ أشد فظاعة من الحرب مع الشمال الذي كان العداء معه يوحدهم، وأظهر الاستقلال تناقضات بينهم أكثر مما هم متناقضون مع الشمال.
واليوم، يعاني جنوب السودان، البلد الغني بالماء والثروات الطبيعية والنفط، من المجاعة واللجوء والحروب الأهلية وغياب الأمان، ويتحول السكان من الزراعة إلى البداوة والصيد وجمع الثمار، للتكيّف مع الفوضى وعدم الاستقرار. وبسبب الحروب والفقر، تنتشر الأوبئة والأمراض الفتاكة، وحالات سوء التغذية والوفاة المبكرة، وتتعرّض النساء للإساءات، ويصادر الجيش ممتلكات المدنيين من المواشي والأغذية، لتمويل عملياته العسكرية، وتستهدف المليشيات المدنيين على أساس عرقي وقبلي، ويتعرّضون لتدمير منهجي وحرمان شامل من الخدمات الأساسية، وفرص كسب الرزق، كما تواجه المنظمات الدولية صعوباتٍ كبيرةً في العمل
وإيصال المساعدات إلى المستحقين، وتعرّضت المحاصيل الزراعية والقرى والبيوت للتدمير والهجران، وارتفعت الأسعار ومعدلات التضخم بنسب هائلة (أكثر من 800%) وانهارت الأسواق. ولجأت أعداد كبيرة من السكان إلى شمال السودان (يا للمفارقة!). وتقول الأمم المتحدة إنه يتدفق إلى الشمال منذ منتصف العام 2016 حوالي 63 ألف لاجئ، ليتجاوز عدد اللاجئين من جنوب السودان الثلاثة ملايين؛ معظمهم من الأطفال الذين يعيشون حالةً حرجة من المرض وسوء التغذية. ونشأت عصابات مسلحة للنهب والعنف، امتدت أعمالها من جنوب السودان إلى دول الجوار، وتقوم بالنهب والخطف والقتل في كل المناطق التي تصل إليها، مستفيدة من الفوضى والتضاريس والظروف الجغرافية والمناخية الصعبة.
والحال أن الأزمة لم تكن، في منشئها، انفصالية تماما، العكس فقد كان الضابط الجنوبي في الجيش السوداني، جون قرنق، يقود تمردا، وإن كان يغلب عليه الطابع الجنوبي، يهدف إلى سودان موحد، على أساسٍ من المساواة والفيدرالية، لكن الصراع تحوّل، مع الزمان، إلى جنوبي شمالي، وظل قرنق، حتى وفاته، متمسكا بالوحدة. لكن، يبدو أن الانفصال كان يلاقي قبولا عاطفيا وجماهيريا لدى الجنوبيين، وكانت الدول المعادية للسودان والداعمة للتمرد تسعى إلى الانفصال، وتؤيد الانفصاليين، وربما يكون مقتل قرنق في العام 2005 في هذا السياق.
يبدو الصراع، بالنظر إليه من بعيد، غير مفهوم، فقرنق كان نائبا للرئيس السوداني عمر البشير، وريك مشار كان نائبا لرئيس جنوب السودان سلفا كير، لكنهم يخوضون، في الوقت نفسه، صراعا مسلحا ضد بعضهم بعضا، فما معنى أن يكون نائبا للرئيس خصمه الذي يقاتله بالسلاح، ومؤكّد أن ذلك يؤشر إلى الدور الخارجي، سواء في المصالحة أو في الصراع؛ ما يعني أن ما يجري، صراعا كان أو اتفاقا، يعبّر عن أدوار وتفاهمات خارجية إقليمية ودولية، يمثل السودانيون جزءا غير حاسم فيها، ما يجعلهم عاجزين عن بناء قواعد طبيعية وتاريخية للصراع والتوازن بين المصالح والطبقات.
وبعد هروبه من جوبا، يفاوض مشار، المقيم اليوم في جنوب أفريقيا، لأجل العودة إلى بلده
ومنصبه. وهكذا، ليست حكومة الوحدة الوطنية، كما تسمى في جنوب السودان، سوى تجمّع من الأعداء الذين يحاربون بعضهم بعضا، فبعد فترةٍ وجيزةٍ من تشكيل الحكومة، تقاتلت فيما بينها القوات المفترض أنها جميعا قوات جنوب سودانية، لكنها في الحقيقة مستمدة من انتماءات وتشكيلات إثنية وقبلية فرعية، هي أقوى وأعمق من الرابطة الوطنية، واندلع قتالٌ شاملٌ بعد أقل من عام على توقيع اتفاق سلام، ينص على تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووقف الحرب الأهلية.
ولا حاجة، بالطبع، للسؤال أيهما أفضل للسودانيين الجنوبيين: الاستقلال أم الوحدة مع الشمال؟ لكن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يواجه به العرب أنفسهم: لماذا يعجزون عن إقناع شركائهم في التاريخ والجغرافيا بالمشاركة معهم؟ فحال السودانيين الجنوبيين يشبه حال الكرد في العراق وسورية والأمازيغ في شمال أفريقيا والزنوج في السودان وموريتانيا واليهود في العراق ومصر وسورية والمغرب. لماذا يفضل غير العرب الانفصال عن العرب، بما في ذلك من مغامرة وخسائر؟
واليوم، يعاني جنوب السودان، البلد الغني بالماء والثروات الطبيعية والنفط، من المجاعة واللجوء والحروب الأهلية وغياب الأمان، ويتحول السكان من الزراعة إلى البداوة والصيد وجمع الثمار، للتكيّف مع الفوضى وعدم الاستقرار. وبسبب الحروب والفقر، تنتشر الأوبئة والأمراض الفتاكة، وحالات سوء التغذية والوفاة المبكرة، وتتعرّض النساء للإساءات، ويصادر الجيش ممتلكات المدنيين من المواشي والأغذية، لتمويل عملياته العسكرية، وتستهدف المليشيات المدنيين على أساس عرقي وقبلي، ويتعرّضون لتدمير منهجي وحرمان شامل من الخدمات الأساسية، وفرص كسب الرزق، كما تواجه المنظمات الدولية صعوباتٍ كبيرةً في العمل
والحال أن الأزمة لم تكن، في منشئها، انفصالية تماما، العكس فقد كان الضابط الجنوبي في الجيش السوداني، جون قرنق، يقود تمردا، وإن كان يغلب عليه الطابع الجنوبي، يهدف إلى سودان موحد، على أساسٍ من المساواة والفيدرالية، لكن الصراع تحوّل، مع الزمان، إلى جنوبي شمالي، وظل قرنق، حتى وفاته، متمسكا بالوحدة. لكن، يبدو أن الانفصال كان يلاقي قبولا عاطفيا وجماهيريا لدى الجنوبيين، وكانت الدول المعادية للسودان والداعمة للتمرد تسعى إلى الانفصال، وتؤيد الانفصاليين، وربما يكون مقتل قرنق في العام 2005 في هذا السياق.
يبدو الصراع، بالنظر إليه من بعيد، غير مفهوم، فقرنق كان نائبا للرئيس السوداني عمر البشير، وريك مشار كان نائبا لرئيس جنوب السودان سلفا كير، لكنهم يخوضون، في الوقت نفسه، صراعا مسلحا ضد بعضهم بعضا، فما معنى أن يكون نائبا للرئيس خصمه الذي يقاتله بالسلاح، ومؤكّد أن ذلك يؤشر إلى الدور الخارجي، سواء في المصالحة أو في الصراع؛ ما يعني أن ما يجري، صراعا كان أو اتفاقا، يعبّر عن أدوار وتفاهمات خارجية إقليمية ودولية، يمثل السودانيون جزءا غير حاسم فيها، ما يجعلهم عاجزين عن بناء قواعد طبيعية وتاريخية للصراع والتوازن بين المصالح والطبقات.
وبعد هروبه من جوبا، يفاوض مشار، المقيم اليوم في جنوب أفريقيا، لأجل العودة إلى بلده
ولا حاجة، بالطبع، للسؤال أيهما أفضل للسودانيين الجنوبيين: الاستقلال أم الوحدة مع الشمال؟ لكن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يواجه به العرب أنفسهم: لماذا يعجزون عن إقناع شركائهم في التاريخ والجغرافيا بالمشاركة معهم؟ فحال السودانيين الجنوبيين يشبه حال الكرد في العراق وسورية والأمازيغ في شمال أفريقيا والزنوج في السودان وموريتانيا واليهود في العراق ومصر وسورية والمغرب. لماذا يفضل غير العرب الانفصال عن العرب، بما في ذلك من مغامرة وخسائر؟