جنينة الذي هزم نفسه

06 يونيو 2016

هشام جنينة.. تعفف عن مهاجمة السلطة فافترسته (Getty)

+ الخط -
توجد جوانب كثيرة غامضة في قضية المستشار هشام جنينة، المُقال من رئاسة جهاز المحاسبات المصري، مؤسسة الرقابة المالية الرئيسية على القطاعات الرسمية والحكومية. فالمستشار جنينة لم يكن يوماً معارضاً ولم يدع بطولة أو نضالاً ضد أي حاكم أو نظام حكم. وطوال سنوات عمله في رئاسة الجهاز، كان الرجل صامتاً يؤدي واجبه فقط دون دعاية وكان يتوجه بتقاريره ونتائج عمله إلى الجهات المعنية وليس إلى الرأي العام. أزمة جنينة لم تكن بسبب تقصير في عمله أو إهمال في مواجهة فساد. وإنما بسبب إعلانه أن قيمة الخسائر المالية غير المباشرة المترتبة على الفساد بأنواعه ودرجاته المتفاوتة، تصل إلى 600 مليار جنيه مصري. هذا ما اقترفه الرجل بحق الوطن، لم يسرق ولم يرتش ولم يتستر على فساد. لذا كان قرار عزل جنينة إجراء عقابياً غير مبرر بل غير مشروع وفقاً للقوانين المعمول بها والدستور الذي يفترض الاحتكام إليه. ولابد هنا من ذكر أن الرقم الذي أعلنه الرجل كان نتاج جهد جماعي لفريق عمل من الجهاز، اعتماداً على بيانات عدد من الوزارات والمؤسسات والجهات الحكومية.
أما سلوك جنينة نفسه وطريقة إدارته للأزمة فأقل ما توصف به أنها سذاجة سياسية من الرجل. وإن كانت تلك السذاجة تؤكد انه ليس سيئ النية وإلا لاستعد جيداً لتلك المعركة. ربما هذا التقييم في صالحه أخلاقياً لكن ينتقص منه سياسياً. فمن في منصبه ليس موظفاً تكنوقراطياً يؤدي عمله وينصرف، فهو موظف عمومي مجال عمله يتقاطع مباشرة مع أوضاع ومكتسبات أشخاص ومؤسسات وشبكات مصالح متجذرة ونافذة بالمجتمع. بعد ساعات فقط من إعلانه تقدير تكلفة الفساد في مصر بـ 600 مليار جنيه، تعرض هشام جنينة لحملة تشويه إعلامية شرسة ثم تم فرض نواب له من خارج الجهاز، كان واضحاً أن أحدهم هو الرئيس القادم له. ودون مبرر أو تفسير واضح، دخلت النيابة العامة على خط اﻷزمة. وكانت هذه أقوى إشارات الخطر التي كان على المستشار التقاطها وفهم مغزاها. غير أن الرجل التزم الصمت مكتفياً بايماءات مبهمة لا تكشف فساداً ولا تدين أحداً ولا تضمن له هو أي حماية. فتارة يعلن أن لا تعليق لديه وتارة أخرى يقول إنه يؤجل إعلان موقفه إلى توقيت مناسب كي لا يُساء تفسيره. وتارة ثالثة يلمح إلى عدم تعاون مؤسسات كبيرة في الدولة مع الجهاز.
بشكل عام، غلب على إدارة جنينة للأزمة التردّد والبطء والهروب من المواجهة ربما إيثاراً للسلامة. وكان على الرجل إدراك أن في تلك المعارك الصمت هزيمة، وفي هكذا مواقف إيثار السلامة هو عين الخطر، وتجنب المواجهة ليس سوى تعجيل بها بل وحسم مسبق لها. غير مفهوم وغير مبرر أن يتسرب رقم ضخم لكلفة الفساد، وتنتفض بعض الجهات تكذيباً له ثم لا يخرج هشام جنينة على الرأي العام ليعلن تفاصيل الرقم وحيثيات تقديره وأسماء الجهات التى تعاونت معه وتلك التي امتنعت.
كان على جنينة خوض المعركة من اللحظة الأولى، وإدارة الأزمة بعقلية هجومية وبأسلوب المبادأة، لكنه حرص على عدم التشهير بمؤسسات وهيئات رسمية ولو بمستندات ووثائق. فاتهم هو بالكذب وإثارة البلبلة وتكدير السلم. تعفف عن مهاجمتها فردت عليه بافتراسه وها هي تمضي في الإجهاز عليه. بعد أن أضاع فرصاً متعددة لتبرئة ساحته وتحسين موقفه. كان أهمها عندما صدر قرار بإقالته، فقد تردد جنينة في الطعن عليه، ثم قرر ذلك متأخراً بعد فوات الأوان. بالتأكيد صار موقف الرجل أصعب وهو قيد الحبس الاحترازي، لكن حبسه منحه فرصة جديدة، إذ أحيى قضيته وأعاد معركته للأذهان، وعليه استغلال تلك الفرصة، فهي ربما الأخيرة، لإثبات صحة موقفه أمام الرأي العام، قبل القضاء.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.