06 سبتمبر 2022
حدث في مجلس الشعب السوري
حين رشَّحني الحزب الشيوعي السوري لأمثله في مجلس الشعب، بحسب التقاليد البعثية، والجبهة الوطنية التقدمية، وجاءتني التهانئ بثقة القيادة السياسية قبل إجراء الانتخابات، لم يكن محمد قبنض حينئذ قد اعتلى "وجه السحارة" في ذلك المجلس، وقايض منكوبي أبناء غوطة دمشق جرعة الماء بهتاف للأسد. لكنَّ المجلس ذاته كان موصوفاً شعبياً بـ "مسرح الشعب" أو مجلس "التصفيق والتهريج". ومع ذلك، أخذت المسألة على نحو جدِّي، إذ إنَّ صورة الانتخابات الفعلية للمجلس النيابي التي جرت في بلدي أيام حكم "الانفصال الرجعي" أواخر عام 1961، وحالة التنافس الحرّ، كانتا ماثلتين في ذهني، وتدفعاني أكثر إلى الاهتمام بهذا المنبر، إضافة إلى أنني عددت كلام لينين عن وجوب "دخول الشيوعيين إلى أشد البرلمانات رجعية" يشمل أيضاً "أكثرها مهزلةً وتهريجاً". وهكذا، أخذت أتابع كلَّ صغيرة وكبيرة في ذلك المجلس، بعد المرسوم الجمهوري الذي أعلن فوزي بالانتخابات.
وصرت ألتقط من المجلس كل الهفوات أو المفارقات التي تحدث، وأعمد إلى تدوينها ونشرها في زاويتي الصحفية "للحكومة فقط" على صفحة المحليات من صحيفة النور التي لم تكن قد فقدت بريقها بعد مرور سنتين أو ثلاث على إصدارها. وكم كانت تلك الهفوات تعجب رئيس مجلس الشعب، محمود الأبرش، خصوصاً أنها تتناول ما يقع فيه أعضاء المجلس من أخطاء ومواقف لا يحسدون عليها. وذات يوم، وكنا نتحادث معاً عن تلك الزاوية، وإمكانية جمعها وطباعتها في كتاب، عَرَض الأبرش أن يتبنى موضوع نشرها، فسررت للأمر، وجمعتها له، وقدمتها، كما طلب، إلى مكتبه الصحفي، وتمت الموافقة. لكنَّ حدثاً جللاً جاء على نحو عرضي، فألغاها على نحو فجٍّ، قاطعاً حبل الود بيني وبين رئيس المجلس. وهو أننا في
المجلس استطعنا، بعد جهودٍ مضنيةٍ، أن ننتزع قراراً من المجلس، يستعيد حقاً من حقوق عضو المجلس، نصَّ عليه الدستور السوري، والنظام الداخلي لمجلس الشعب. ويقضي القرار المنتزع بتخصيص صفحة حرة لأعضاء مجلس الشعب في إحدى الصحف الرسمية، يناقش من خلالها الأعضاء مشكلاتٍ تهم الشعب. وبالفعل، خصصت صحيفة الثورة صفحة أسبوعية لمجلس الشعب. ولكن لم يمرَّ أسبوعان أو ثلاثة، على ما أذكر، حتى وقعت الواقعة.. وتشاء المصادفة وحدها أن يكون موعد مقالة أو حديث لي في الأسبوع الذي وقع فيه ذلك الحادث الجلل.
كانت لدينا جلسة صباحية، فما إن وصلت إلى المجلس، حتى أخذت صحيفة الثورة، لأفتحها وأقلِّب صفحاتها باحثاً عمَّا يخصُّني، لكن المفاجأة كانت صارخةَ لا لأنني لم أجد مرادي، بل لأنني لم أعثر على صفحة المجلس كلِّها.. اتصلت، على الفور، بالصحفية المسؤولة مستفسراً، فأجابتني بنوع من العتب والتهكم، قائلة: اسأل رئيسك. قلت: رئيس المجلس؟ قالت: ومن غيره، هو الذي أبلغ وزير الإعلام بإلغاء الصفحة.
شكرتها، وأغلقت الهاتف ممتعضاً، وكان أن حان موعد الجلسة، فدخلت مع الداخلين وحين افتتحت الجلسة، رفعت يدي طالباً الحديث، وكانت الدقائق العشر الأولى من كل جلسة مخصصة للأعضاء لطرح ما يرغبون به خارج إطار جدول العمل. ولما أعطيت الإذن، تساءلت مستنكراً، ومتجاهلاً، في الوقت نفسه، المعلومات التي أفادتني بها الصحفية: "من الذي عمل على إلغاء قرار اتخذه هذا المجلس الموقَّر؟ بل من يتجرَّأ على السلطة التشريعية، وعلى قرار يتوافق مع دستور البلاد، ودور عضو مجلس الشعب، وحصانته فيما يخصُّ حرية الكلام والكتابة ومناقشة قضايا الشعب الذي يمثله على نحو علني..؟". وقلت كلاماً آخر كثيراً في السياق نفسه؟ فنظر إليَّ رئيس المجلس بدهشة وبشيء من اللوم، واللؤم وتمتم: سنرى ذلك. ولما انتهت الجلسة، تصادف أن تقابلت، في الردهة، مع رئيس المجلس، فبادرني يقول: ماذا فعلتَ يا زميل محمود؟ قلت: وماذا فعلت؟ قال: ألا تعلم أنني من أبلغ الوزير بإلغاء الصفحة؟ فنفيت ذلك، لكنني أردفت بالجدية كلها: إنَّ قرار الإلغاء خاطئ، فما كان منه إلا أن صاح منفعلاً، وبنوع من التشفّي: "إي، روح ما في طباعة كتاب..". كتمت ضحكتي، وتركته لأذهب وأروي ما حدث لأول زميل ألتقيه. والآن وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على الحادثة، أخمِّن، بل أقول عن قناعة تامة إن أجهزة الأمن التي تضع السلطات كلها في جيبها الصغير هي التي كانت وراء إلغاء الصفحة.
حادثة أخرى لكنَّها بطعم آخر، إذ جاءت بعد حادثة الصحيفة والكتاب بفترة قصيرة. كنا نناقش الموازنة العامة لمجالس المدن والمحافظات، وكانت جلسات مناقشة الموازنة من أهم الجلسات. ولفت انتباهي أن حجم موازنة مدينة حلب التي أمثلها يقترب كثيراً من موازنة محافظات صغيرة لا تعادل، في أبعد تقدير لها، ربع مدينة حلب مساحة وسكاناً وإنتاجاً أيضاً، إذ تشكل حلب مع دمشق نصف سكان سورية. ولمَّا أعطيت الحديث أخذت أشرح وضع مدينة حلب
مساحة وعدد سكان وحاجات خدمية متزايدة، مشيراً إلى نسب الموازنات المتفاوت بين المحافظات على أسس مبهمة، وإذ برئيس المجلس يقاطعني، قائلاً بلهجة حادة تنطوي على نوع من الاتهام: "لوين بدك تصل زميل محمود؟".
نبهني سؤاله الملَّغم إلى أنني دخلت في المحرّمات، وشعرت بأنَّ مَكْرَ رئيس المجلس قد وجد ثغرةً ما، فأراد الدخول منها والبناء عليها، فاللاذقية وطرطوس من المحافظات الصغيرة كالسويداء ودرعا وإدلب والرقة، على الرغم من أنني لم أسمِّ أية محافظة غير حلب. هممت بالردِّ، وأنا أحرِّض ذهني على دفعٍ مناسبٍ للتهمة التي يريد أن يلبسني إياها، فيلحقني برياض سيف ومأمون الحمصي اللذين وقفا في دورة سابقة ضد إعطاء مشروع شركة الخلوي إلى رامي مخلوف (قريب الرئيس بشار الأسد)، بل أراداه للدولة. فلم أجد غير أنْ أرفع صورة الأسد في وجهه (وكان الأسد قد زار حلب قبل فترة واجتمع بكبار موظفيها) فقلت: أريد أن أصل إلى أنَّ حلب عاصمة الشمال التي زارها "السيد الرئيس" قبل شهر، ووجه مسؤوليها إلى الارتقاء بها، وتجاوز حالات التخلف فيها، لا تكفيها مثل هذه الموازنة الضئيلة.. فأسقط عندئذ بيده، وصمت على مضض.
وحين آتي على ذكر تلك الحادثة اليوم، تخطر في بالي حكاية مشابهة بين عضوي قيادة الجبهة الوطنية في سورية، دانييل نعمة وصفوان قدسي، تفضح أسلوب المداهنة والمراءاة التي فرضتها ثقافة الاستبداد، لا على أخلاق المجتمع فحسب، بل على أخلاق النخبة الحاكمة. وقد امتاز بها، من دون أدنى ريب، صفوان قدسي (أحد أعلام مؤتمر سوتشي أخيرا)، بل كان "فارسها" الذي لا يجارى، ومن مداهناته أمام أعضاء في الجبهة أنَّه ألَّف أربعة كتب في التعريف بحافظ الأسد، فكان أن ردَّ عليه دانييل نعمة بسؤال مفتوح على تأويل متعدد: وهل يحتاج حافظ الأسد إلى أربعة كتب للتعريف به؟ وهكذا كانت الأمور تسير، ومع ذلك تراهم ببلاهة يتساءلون: ما الذي كان ينقص الشعب السوري ليقوم بانتفاضته العارمة؟
وصرت ألتقط من المجلس كل الهفوات أو المفارقات التي تحدث، وأعمد إلى تدوينها ونشرها في زاويتي الصحفية "للحكومة فقط" على صفحة المحليات من صحيفة النور التي لم تكن قد فقدت بريقها بعد مرور سنتين أو ثلاث على إصدارها. وكم كانت تلك الهفوات تعجب رئيس مجلس الشعب، محمود الأبرش، خصوصاً أنها تتناول ما يقع فيه أعضاء المجلس من أخطاء ومواقف لا يحسدون عليها. وذات يوم، وكنا نتحادث معاً عن تلك الزاوية، وإمكانية جمعها وطباعتها في كتاب، عَرَض الأبرش أن يتبنى موضوع نشرها، فسررت للأمر، وجمعتها له، وقدمتها، كما طلب، إلى مكتبه الصحفي، وتمت الموافقة. لكنَّ حدثاً جللاً جاء على نحو عرضي، فألغاها على نحو فجٍّ، قاطعاً حبل الود بيني وبين رئيس المجلس. وهو أننا في
كانت لدينا جلسة صباحية، فما إن وصلت إلى المجلس، حتى أخذت صحيفة الثورة، لأفتحها وأقلِّب صفحاتها باحثاً عمَّا يخصُّني، لكن المفاجأة كانت صارخةَ لا لأنني لم أجد مرادي، بل لأنني لم أعثر على صفحة المجلس كلِّها.. اتصلت، على الفور، بالصحفية المسؤولة مستفسراً، فأجابتني بنوع من العتب والتهكم، قائلة: اسأل رئيسك. قلت: رئيس المجلس؟ قالت: ومن غيره، هو الذي أبلغ وزير الإعلام بإلغاء الصفحة.
شكرتها، وأغلقت الهاتف ممتعضاً، وكان أن حان موعد الجلسة، فدخلت مع الداخلين وحين افتتحت الجلسة، رفعت يدي طالباً الحديث، وكانت الدقائق العشر الأولى من كل جلسة مخصصة للأعضاء لطرح ما يرغبون به خارج إطار جدول العمل. ولما أعطيت الإذن، تساءلت مستنكراً، ومتجاهلاً، في الوقت نفسه، المعلومات التي أفادتني بها الصحفية: "من الذي عمل على إلغاء قرار اتخذه هذا المجلس الموقَّر؟ بل من يتجرَّأ على السلطة التشريعية، وعلى قرار يتوافق مع دستور البلاد، ودور عضو مجلس الشعب، وحصانته فيما يخصُّ حرية الكلام والكتابة ومناقشة قضايا الشعب الذي يمثله على نحو علني..؟". وقلت كلاماً آخر كثيراً في السياق نفسه؟ فنظر إليَّ رئيس المجلس بدهشة وبشيء من اللوم، واللؤم وتمتم: سنرى ذلك. ولما انتهت الجلسة، تصادف أن تقابلت، في الردهة، مع رئيس المجلس، فبادرني يقول: ماذا فعلتَ يا زميل محمود؟ قلت: وماذا فعلت؟ قال: ألا تعلم أنني من أبلغ الوزير بإلغاء الصفحة؟ فنفيت ذلك، لكنني أردفت بالجدية كلها: إنَّ قرار الإلغاء خاطئ، فما كان منه إلا أن صاح منفعلاً، وبنوع من التشفّي: "إي، روح ما في طباعة كتاب..". كتمت ضحكتي، وتركته لأذهب وأروي ما حدث لأول زميل ألتقيه. والآن وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على الحادثة، أخمِّن، بل أقول عن قناعة تامة إن أجهزة الأمن التي تضع السلطات كلها في جيبها الصغير هي التي كانت وراء إلغاء الصفحة.
حادثة أخرى لكنَّها بطعم آخر، إذ جاءت بعد حادثة الصحيفة والكتاب بفترة قصيرة. كنا نناقش الموازنة العامة لمجالس المدن والمحافظات، وكانت جلسات مناقشة الموازنة من أهم الجلسات. ولفت انتباهي أن حجم موازنة مدينة حلب التي أمثلها يقترب كثيراً من موازنة محافظات صغيرة لا تعادل، في أبعد تقدير لها، ربع مدينة حلب مساحة وسكاناً وإنتاجاً أيضاً، إذ تشكل حلب مع دمشق نصف سكان سورية. ولمَّا أعطيت الحديث أخذت أشرح وضع مدينة حلب
نبهني سؤاله الملَّغم إلى أنني دخلت في المحرّمات، وشعرت بأنَّ مَكْرَ رئيس المجلس قد وجد ثغرةً ما، فأراد الدخول منها والبناء عليها، فاللاذقية وطرطوس من المحافظات الصغيرة كالسويداء ودرعا وإدلب والرقة، على الرغم من أنني لم أسمِّ أية محافظة غير حلب. هممت بالردِّ، وأنا أحرِّض ذهني على دفعٍ مناسبٍ للتهمة التي يريد أن يلبسني إياها، فيلحقني برياض سيف ومأمون الحمصي اللذين وقفا في دورة سابقة ضد إعطاء مشروع شركة الخلوي إلى رامي مخلوف (قريب الرئيس بشار الأسد)، بل أراداه للدولة. فلم أجد غير أنْ أرفع صورة الأسد في وجهه (وكان الأسد قد زار حلب قبل فترة واجتمع بكبار موظفيها) فقلت: أريد أن أصل إلى أنَّ حلب عاصمة الشمال التي زارها "السيد الرئيس" قبل شهر، ووجه مسؤوليها إلى الارتقاء بها، وتجاوز حالات التخلف فيها، لا تكفيها مثل هذه الموازنة الضئيلة.. فأسقط عندئذ بيده، وصمت على مضض.
وحين آتي على ذكر تلك الحادثة اليوم، تخطر في بالي حكاية مشابهة بين عضوي قيادة الجبهة الوطنية في سورية، دانييل نعمة وصفوان قدسي، تفضح أسلوب المداهنة والمراءاة التي فرضتها ثقافة الاستبداد، لا على أخلاق المجتمع فحسب، بل على أخلاق النخبة الحاكمة. وقد امتاز بها، من دون أدنى ريب، صفوان قدسي (أحد أعلام مؤتمر سوتشي أخيرا)، بل كان "فارسها" الذي لا يجارى، ومن مداهناته أمام أعضاء في الجبهة أنَّه ألَّف أربعة كتب في التعريف بحافظ الأسد، فكان أن ردَّ عليه دانييل نعمة بسؤال مفتوح على تأويل متعدد: وهل يحتاج حافظ الأسد إلى أربعة كتب للتعريف به؟ وهكذا كانت الأمور تسير، ومع ذلك تراهم ببلاهة يتساءلون: ما الذي كان ينقص الشعب السوري ليقوم بانتفاضته العارمة؟