بدأت الحكومة التركية، على ما يبدو، وبعد تحرير رهائنها، بالاستجابة للضغوط الكبيرة التي تمارسها الإدارة الأميركية عليها لأخذ دور أكثر فاعلية في التحالف الذي تتزعمه الأخيرة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). المؤشرات على ذلك عديدة، منها تأكيد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال زيارته نيويورك، على إمكانية تقديم دعم عسكري ولوجستي لقوات التحالف، قائلاً: "ستقوم تركيا بتقديم ما هو ضروري للتحالف ضد داعش"، وذلك بعد ساعات من بدء الضربات ضد أهداف تابعة للتنظيم في الأراضي السورية. وأضاف أن "هذا الدعم قد يكون عسكريا أو سياسيا".
أثارت هذه التصريحات الكثير من التساؤلات حول الدور التركي المرتقب والمهام التي ستوكل إليه في ضوء الاستراتيجية الأميركية التي يبدو أن الحكومة التركية تعاني من خلافات كبيرة مع واشنطن حول سبل تطبيقها.
لم تمضِ أكثر من ساعات على صدور هذا الكلام، حتى بدأت بعض الأمور تتضح مع تعليق نائب رئيس الوزراء، يالجين أكدوغان، أن "التعاون العسكري، مصطلح فضفاض، يمكن أن يشير إلى معان متعددة". وأضاف أنه "إن كانت تركيا ستطلق النار، هذا شيء، وإن كانت ستشارك في الحملة العسكرية، فهذا شيء آخر، فعسكرياً يمكن أن تكون المشاركة أيضاً عبر توفير المعلومات الاستخباراتية، كما نستطيع أن نشارك بالدعم اللوجستي، أي أن المشاركة بالحملة العسكرية يمكن أن تتم بطرق مختلفة".
التزمت تركيا بتشديد إجراءات الأمن على الحدود والمطارات لوقف تدفق المقاتلين الأجانب للانضمام إلى التنظيم، ووقف تهريب نفط التنظيم الذي يعتبر من أهم مصادر تمويله، لكن ما يزال الدور التركي الجديد حتى الآن غير واضح تماماً، إذ إن القرار النهائي سيتخذ، بحسب كلام أردوغان، بعد المناقشات التي سيجريها على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد مشاورات مع رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو، عقب عودته إلى البلاد. لكن تبقى قاعدة إنجرليك التابعة لحلف شمال الأطلسي في تركيا، في قلب النقاش حول الدور التركي المرتقب.
تقع قاعدة إنجرليك، التي تعتبر من أهم أربع قواعد للقوات الأميركية خارج الولايات المتحدة، بالقرب من مدينة أضنة التركية، أي على بعد لا يتجاوز 500 كيلومتر عن مدينة الرقة والتي تعتبر "عاصمة" التنظيم الإسلامي. من المتوقع أن تشهد القاعدة تحولا كبيرا في المهام الموكلة إليها من الدعم اللوجستي، لتصبح مقراً لانطلاق العمليات العسكرية التي كانت تنطلق حتى الآن من القواعد الأميركية في الخليج العربي.
لكن استخدام القاعدة للعمليات العسكرية سيجعل تركيا في حالة مواجهة مباشرة مع "داعش" الذي يسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية، مما يسهل عليه التسلل عبر الحدود التركية السورية المشتركة التي تمتد لأكثر من 900 كيلومتر لتنفيذ عمليات انتقامية في المدن التركية، مما يجعل أنقرة في مواجهة سيناريوهات تشبه تلك التي تعرضت لها باكستان بعد دعمها للغزو الأميركي لأفغانستان، ولا تزال تعاني من تبعاته حتى الآن، مما قد يدفع أنقرة لوضع تمرير مشروع المنطقة العازلة الذي ترغب في تنفيذه، على طول الحدود السورية، بالتزامن مع منطقة حظر طيران، على طاولة المفاوضات، في مقابل القيام بدور أكبر في التحالف، في محاولة منها لإنشاء حاجز في وجه تسلل مقاتلي التنظيم، وتحويلها لمنطقة آمنة تساهم في وقف تدفق اللاجئين السوريين، بما يحمله ذلك من خطر تسلل مقاتلين مع اللاجئين الذين من المتوقع ازدياد أعدادهم بعد اشتداد الضربات الجوية والمعارك لدحر "داعش"، بكل ما يحمله ذلك من أعباء أمنية واقتصادية.
من المؤكد أن تركيا كالولايات المتحدة، لن تدفع بأي قوات عسكرية للجبهات، إلا أن عملية تحرير جميع الرهائن الأتراك من يد "داعش" في الموصل، الأسبوع الماضي، بغض النظر عن التفاصيل، أثبتت العلاقات الواسعة والشبكات التي يديرها جهاز الاستخبارات التركية في الأراضي السورية والعراقية، مما يرشحه للقيام بدور استخباراتي هام.
رغم دعمها الكبير لمختلف كتائب المعارضة التي تقاتل النظام السوري منذ سنتين، لكن الكثير من التقارير ظلت تؤكد رفض تركيا استضافة أي معسكرات لتدريب الجيش السوري الحر على أراضيها. أمر شكك فيه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في مؤتمر جدة، ليغدو أمر تدريب وتسليح المقاتلين التابعين للجيش الحر، أهم المهام التي قد توكل لها لإدارة الفجوة التي قد يشكلها انسحاب "داعش" من المناطق الشمالية والشرقية السورية.
ويبقى أمر تسليح القوات الكردية السورية، خارج استراتيجية أنقرة والتحالف حتى الآن، إذ من المتوقع أن تحافظ الحكومة التركية على موقفها الرافض لتسليح مقاتلي "العمال" الكردستاني وجناحه السوري "الاتحاد الديمقراطي"، وذلك رغم الدعوات الكثيرة لتسليحهم، والتي كان آخرها تصريحات يشار ياكيش، أول وزير للخارجية في عهد "العدالة والتنمية"، وأحد مؤسسيه، التي أدلى بها لصحيفة "طرف" قبل أيام، وأشار فيها إلى ضرورة أن تسلِّح تركيا حزب "العمال الكردستاني" في حربه ضد "داعش".