واستأنف البيت الأبيض العزف على روايته الأولى، بأن هناك اتهاماً يقابله نفيٌ من جانب المتهم، وبالتالي لا بد من انتظار نتائج التحقيق للبت بالسمؤولية، لأنه لا يجوز "اعتبار المتهم مذنباً حتى تثبت إدانته"، كما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو التكتيك ذاته الذي اعتمده مع الجمهوريين، لضمان موافقة مجلس الشيوخ على تعيين القاضي بريت كافانو في المحكمة العليا: الضحية تُتهم، والمتهم ينكر، وبالنهاية أحيلت القضية على التحقيق الذي جرى بصورة ضبابية، والذي انتهى إلى نتيجة بأن "الأدلة القاطعة" لثبوت التهمة مفقودة.
السيناريو ذاته يتكرر اليوم. قصد بومبيو الرياض في مهمة عاجلة لانتزاع اعترافها بصيغة "القاتل المارق" التي روّج لها ترامب، بعدما ترددت على لسان مسؤولين سعوديين. لكن يبدو أن هذا المخرج رفضته الرياض، لأنه يستجر أسئلة وتترتب عليه أكلاف كبيرة.
وتبين أيضاً أن الوزير الأميركي نأى عن طرح الموضوع بصورة ضاغطة، بل وصفت لقاءاته مع القيادة السعودية بأنها كانت "رخوة"، وبغرض التشاور، وليس لتوصيل رسالة، تؤكد على ضرورة الاعتراف بما حصل، وبمن أصدر أمر التصفية.
وأبعد ما ذهب إليه بومبيو أنه فاتح المسؤولين السعوديين بضرورة تفسير تقديم "مقبول" لمقتل خاشقجي، من باب أن الجريمة حصلت في القنصلية، ولا فرار من التسليم بها كواقعة، وهذا ما قصده في تصريحه عندما قال إنه "أكد على ضرورة المضي بالتحقيقات" حتى النهاية. فالرئيس ترامب لا يزال يوفر الغطاء لحكام الرياض، لكنه يحتاج إلى إقرار سعودي ما بالجريمة للاستناد إليه كغطاء، ولو كان واهياً، لموقفه، بما أن ترامب شبه محاصر في تغطيته للقيادة السعودية، ويواجه "مشكلة غير مجهّز للتعامل معها"، كما قال مارتن انديك، الدبلوماسي السابق، ضمن مطالعته التي قدمها الأربعاء خلال المؤتمر السنوي لـ"منبر الخليج الدولي" في واشنطن.
وسيطر اغتيال خاشقجي على معظم ندوات المؤتمر، خاصة تلك التي كانت مخصصة للإعلام ودوره والأخطار المحدقة به. حتى الجمهوريين في الكونغرس، وخاصةً في مجلس الشيوخ، افترقوا عن موقف ترامب. السيناتور ليندسي غراهام ذهب إلى حد المطالبة بتغيير القيادة السعودية الجديدة. السيناتور بوب كوركر قال إن معلوماته الاستخباراتية السابقة تجعله "على قناعة بأن عملية من هذا النوع لا يمكن أن تحصل من دون موافقة ولي العهد". السيناتور جون نيلي كينيدي (جمهوري)، يصوب أصبع الاتهام في الاتجاه ذاته. وكثيرون غيرهم في الكونغرس يتحدثون باللغة ذاتها، سواء بالتلميح أو بالتصريح، هذا بالإضافة إلى شلال التغطية الإعلامية التي تحولت إلى عملية فضحٍ متواصل لخيوط الجريمة وصاحب قرارها.
ترامب يستقوي بورقة العلاقات مع السعودية، وبالحرص الواسع في واشنطن على عدم التفريط بها، لأسباب مختلفة تجارية وتاريخية وجيوسياسية وأمنية ونفطية، مع وجود اختلافات بشأن كيفية الحفاظ عليها، و"الحاجة إلى إعادة تقويمها". يسانده في ذلك فريق بدأ في الأيام الأخيرة العمل" على تقزيم العملية وتفريغها من مدلولاتها وأبعادها، لتصويرها بحجم حادثة راح ضحيتها فرد، في حين سقط أكثر من عشرة آلاف مدني في حرب اليمن، ولم تحصل مثل هذه الضجة، كما يزعم الكاتب والسياسي المحافظ باتريك بيوكانن.
لكن مع ذلك لم يقو ترامب على وقف المطاردة، خصوصاً أن الشبهة تتعزز مع كل يوم يمرّ. وإذ تأمل الإدارة صدور "التفسير" عن الرياض مع نهاية هذا الأسبوع، إلا أن الاعتقاد الراجح يستبعد ذلك، لأن الرياض لا تأمن لتداعيات اعترافها مهما كان ملتبساً، ذلك أن أي اعتراف يستتبع السؤال عن صاحب الأمر المعروف في نظام مركزي صارم كالنظام السعودي.