باتت الخلافات الحدودية أكثر وضوحاً في أوروبا، عقب سلسلة من السلوكيات القومية التي برزت بشكل فاضح في السنوات الأخيرة، خصوصاً في ظلّ نمو التيارات اليمينية سياسياً في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا وغيرها، وبروز النزعات الانفصالية الاستقلالية في كتالونيا واسكتلندا وغيرهما. بالتالي لم تعد المشكلة الحدودية بين كرواتيا وسلوفينيا مجرّد خبر عابر، خصوصاً لانتمائهما التاريخي والجغرافي لإحدى أكثر مناطق أوروبا توتراً عبر التاريخ، وهي البلقان. كما أن "كاثوليكية" البلدين، نقلت الصراع إلى مستوى آخر، بسبب اعتياد البلقان عموماً، ويوغوسلافيا السابقة خصوصاً، على الخلافات المسيحية ـ الإسلامية، أو الكاثوليكية ـ الأرثوذكسية، رغم أن معظم العرقيات والقوميات في البلقان انضوت تحت الحكم اليوغوسلافي الشيوعي، بين عامي 1945 و1992، لكنها لم تتمكن من الذوبان في الاتحاد، لأسباب عدة، ومنها غياب من كان قادراً على خلافة رجل يوغوسلافيا السابق، جوزيب بروز تيتو، المولود لأب كرواتي وأم سلوفينية.
المشكلة الحدودية بين سلوفينيا وكرواتيا بدأت غداة انفصال البلدين معاً عن يوغوسلافيا في 25 يونيو/حزيران 1991، وتحرير أرضهما من الجيش اليوغوسلافي، الذي كان تابعاً بمعظمه للصرب. تتمحور المشكلة حول خليج بيران، الذي يتقاسمه البلدان. لكل من زغرب وليوبليانا وجهة نظر. تعتبر كرواتيا أن "طول الحدود بين البلدين يبلغ 668 كيلومتراً"، أما سلوفينيا فتعتبر بأن "طول الحدود يبلغ 670 كيلومتراً". فارق الكيلومترين شكّل الخلاف الأبرز بينهما، وأدى، بفعل "الفيتو" السلوفيني، إلى تأجيل انضمام كرواتيا للحلف الأطلسي، أكثر من 5 سنوات من عام 2004 إلى عام 2009، وتأجيل انضمامها أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي من عام 2004 إلى عام 2013.
وحاول الجانبان تسهيل المشكلة عام 2001، باتفاق رئيسي وزراء البلدين، السلوفيني يانيز درنوفسك والكرواتي إيفيكا راكان، على حق كرواتيا بثلثي خليج بيران، في مقابل حصول سلوفينيا على معبر بحري (كوريدور) إلى المياه الدولية عبر المياه البحرية الكرواتية. مع ذلك لم تصطلح الأمور، إلى الحدّ الذي اتفق فيه البلدان على تحويل الملف إلى محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي الهولندية في عام 2009، والتي قررت في 29 يونيو/حزيران الماضي: "أحقية سلوفينيا في الوصول إلى البحر الأدرياتيكي من دون أية عوائق"، أي من دون الأخذ بعين الاعتبار أي اتفاق ثنائي بين زغرب وليوبليانا. رفضت كرواتيا الاتفاق، معلّلة السبب بـ"انسحابها من المحكمة في عام 2015".
من شأن الخلاف المتجدّد، أن يشرّع الأبواب أمام استمرارية الخلافات الحدودية بين البلدين، واحتمال بروز اصطفاف أوروبي حوله. وفي هذا الإطار، تبدو سلوفينيا، الحلقة الأضعف في حرب النفوذ، لأسباب اقتصادية ـ ديمغرافية. تبلغ مساحة سلوفينيا نحو 20273 كيلومتراً مربّعاً، مع عدد سكان يبلغ نحو 2.1 مليون. أما كرواتيا، فمساحتها 56594 كيلومتراً مربّعاً، مع عدد سكان يبلغ نحو 4.2 ملايين. سلوفينيا محاطة بكرواتيا والمجر والنمسا وإيطاليا، ودورها ثانوي في هذا الصدد. أما كرواتيا، فمحاطة بسلوفينيا وإيطاليا بحراً والبوسنة والهرسك وصربيا والمجر. الدور الكرواتي أساسي في أي صراع نفوذ غربي في مواجهة صربيا الموالية لروسيا، تحديداً في المرحلة الحالية، التي تتصاعد فيها الخلافات بين المعسكر الموالي لروسيا في البلقان والمعسكر المناصر للأطلسي، على خلفية انضمام مونتينيغرو في 5 يونيو الماضي إلى الأطلسي، والمناورات العسكرية الروسية ـ البيلاروسية الأخيرة.
غير أن لألمانيا دوراً بارزاً بين البلدين، في حال احتدم الصراع. تنطلق الاعتبارات الألمانية من كونها الشريك الأساسي لكرواتيا وسلوفينيا. فألمانيا تحتلّ المركز الأول لدى سلوفينيا، إذ تُصدّر ليوبليانا 19.1 في المائة من بضائعها لبرلين وتستورد منها 16.5 في المائة من البضائع، علماً أن كرواتيا تحتل المركز الرابع في التصدير لسلوفينيا (6.8 في المائة) والخامس في الاستيراد (5.1 في المائة). أما كرواتيا، فإن ألمانيا تحتل المركز الثالث في التصدير (11.4 في المائة) والأول في الاستيراد (15.5 في المائة) وسلوفينيا، تحتل المركز الثاني تصديراً لكرواتيا والثالث في الاستيراد. ويقوم اقتصاد كرواتيا وسلوفينيا على الخدمات أولاً، والصناعة ثانياً، والزراعة ثالثاً.
لكن المشكلة لا تقتصر على ذلك، بل تتشابك معها مسألة الهجرة إلى أوروبا، والخلافات الناتجة عنها، وردّ الفعل السلبي للمجر في فتح الحدود أمام المهاجرين، خصوصاً أن حصة كرواتيا من توزيع اللاجئين في أوروبا عام 2015، بلغت نحو 1064 شخصاً في مقابل 631 لسلوفينيا. مع ذلك، فإن إعلان الاتحاد الأوروبي وقف العمل بنظام توزيع المهاجرين على الدول الأعضاء بعد سنتين من اعتماده، في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، جاء عقب إعادة توطين نحو 29 ألف طالب لجوء، في الوقت الذي كانت تتوقع فيه المفوضية إعادة توزيع 160 ألفاً بهدف تخفيف الضغط عن اليونان وإيطاليا.
المرحلة المقبلة تبدو محفوفة بالمخاطر غير المستحبة في البلقان، وقد تتوّرط فيها إيطاليا لقربها الحدودي من البلدين، بغية ضمان أمن واستقرار البحر الأدرياتيكي والاقتصاد السياحي فيه. فضلاً عن ذلك، فإن "اشتباك حليفين" أمر غير مرغوب فيه لدى الأطلسي وأوروبا، مع ما يعنيه ذلك من احتمال استغلال صربيا لأي خلاف بين البلدين. وفي ظلّ رفض كرواتيا قرار محكمة التحكيم الدائمة، فإن الأمور مرجّحة للتصعيد، في حال حاولت سلوفينيا تطبيق قرار المحكمة من جانب واحد، والعبور عبر "الممر البحري" إلى المياه الدولية، قبالة خليج بيران. مع ذلك، فإن الخلاف الحدودي بين زغرب وليوبليانا هو آخر هموم الاتحاد الأوروبي حالياً، في ظلّ قضية كتالونيا وتداعياتها، وقضية انضمام تركيا من عدمه إليه.