حديث عابر عن اللغة العربية والأندلس

25 ديسمبر 2017

لوركا مجسّما في وسط مدريد (18/8/2016/Getty)

+ الخط -
قبل أيام، كنت أقرأ قصائد مترجمة لشاعر إسبانيا الكبير لوركا. لم تكن الترجمة جيدة. لن أسمي المترجم. لكننا لم نقرأ، في العربية، ترجمةً شعرية، فعلاً، للوركا، الإسباني – الأندلسي، ذي الجذور الضاربة، عميقاً، في التربة الأندلسية/ في المعجم الأندلسي/ في المجازات الأندلسية التي لها رنينٌ عربي. ليس هذا مجال التفصيل في أمر هذا "التأثير". لكن لا بدَّ أن هذا حصل (وكان سيحصل) من خلال المكان الأندلسي الذي لا يمكن تفادي أطياف العرب والمسلمين فيه. لا يمكن. لأنه أوضح من شمس غرناطة وإشبيلية وقرطبة. لأن النظرة الواحدة كافيةٌ لترجِّع أزمنة لا تزال حاضرة في المعمار/ الوجوه/ الكلمات/ التفرّد في الشخصية الإسبانية عن سائر القارة الأوروبية. ليس حديثي عن لوركا وتأثرات جيله الشهير بـ "جيل 27"، نقدياً. إنه بلا مراجع، ولا بحث، فهو والحال حديث مرسل أطلقته قراءة لوركا، ولو عبر ترجمةٍ لا ترقى، في حال، إلى غنائية شعره الدرامية الهادرة/ أو الشفيفة كماء جدول يتسرّب من "الرابية الحمراء". هذه القراءة ذكّرتني بشاعر إسباني ودبلوماسي (لا بدَّ أنه أصبح الآن في عداد الراحلين) يدعى هوغو غويترس فيغا. ففي أحد صباحات المهرجان الشعرية الغربية (المختلطة الألسن) تعرّفت به إلى طاولة إفطار. بادرني، عندما عرف أني عربي، بالقول: السلام عليكم. ثم انتقل، بعد قليل وتلعثم، إلى الإنكليزية.
لا بدَّ للعربية أن تحضر عندما يجتمع عربي وإسباني، أو أبناء اللسان الإسباني، حتى لو كانوا من المكسيك. كأن لا شيء يعرِّفنا اليوم، على نحو منصفٍ بعض الشيء، سوى تلك اللحظة الذهبية الغابرة من ماضي الأندلس. قال لي الشاعر العجوز، ذو الشَعر الفضي المصفّف بعناية فائقة، إن تأثيرات العربية، لغة وثقافة في اللغة والثقافة الإسبانيتين أكبر من أن تحصى. ثم أضاف: للأسف، هناك إنكار وتجاهل متعمدان لهذه المؤثرات العميقة الجميلة التي جعلت الإسبانية لغةً مميزة بين اللغات الأوروبية، فهناك كثير من النظرات والمفاهيم في الثقافة الإسبانية عربية الأصل، فضلاً عن وجود عدد من الكلمات قد لا يحصى في اللغة الإسبانية المتداولة الآن. وبينما كان فيغا يتحدّث، خطر لي أنني رأيت هذا الشخص، أو صورته من قبل، ولما اقترب حديثه أكثر من الحياة العربية الراهنة، بدا على معرفةٍ طازجةٍ بالأحوال التي عليها عرب اليوم.
لم أستطع أن أقطع أين وكيف رأيت هذا الشاعر، فسألته: عفواً، ولكن كيف تسنَّت لك معرفة الحياة العربية الراهنة بهذه الدقة؟ فقال لي: كنت سفيراً للمكسيك في بيروت. عندها تذكّرت انني رأيت صوره في الصحافة اللبنانية، فقد كان الرجل نشطا إلى حد كبير، وبسببه أقيمت أنشطة عربية ـ إسبانية عدة، على الرغم من قصر المدة التي قضاها هناك. علاقة فيغا بالعربية لا تعود إلى فترة سفارته في بيروت أواخر الثمانينيات، بل إلى زمن أبعد بكثير. حدث ذلك عندما اطلع باكراً على كتاب المستعرب إلاسباني الكبير الراحل إميليو غارسيا غوميز "قصـائد عربية أندلسية" الـذي قـدّم فـي الإسبـانية، لأول مـرة، ترجمة حديثة لعدد من قصائد الشعراء العرب الأندلسيين أمثال ابن عبد ربه، ابن حزم، إبن خفاجة، ابن شهيد، ابن زيدون، ابن سراج، أبو القاسم ابن السقاط، المعتمد بن عباد... إلخ.
في تلك الترجمات حفَّز غوميز الاهتمام الحديث بالشعر العربي في إسبانيا، كما أنها أحدثت، كما يقول فيغا، تأثيراً واضحاً على "جيل 27" الإسباني، وخصوصاً لوركا، فقد كان غوميز نفسه من أبناء ذلك الجيل، وصديقا لرفائيل البرتي ولوركا. ويبدو، حسب فيغا، أن بعضاً من شعر لوركا كتب تحت التأثير الملهم لترجمة غوميز، خصوصاً في ديوان التماريت (EL Divan del Tamarit) وغيره من القصائد، كتبها لوركا بتأثير مباشر من القصائد الأندلسية التي ترجمها غوميز. يذهب فيغا إلى حد القول إن لوركا هو، بمعنىً من المعاني، "شاعر عربي". الطريف في الأمر أن الشاعر المفضل لفيغا، على الإطلاق، هو المتنبي. لهذا الشاعر المكسيكي ديوان بعنوان "قصائد الى ديوان المتنبي"، وهو يعتبر أبا الطيب من أعظم شعراء العالم في كل العصور، كما أنه يكنُّ إعجاباً خاصاً للشريف الرضي.
أشجتني، من دون شك، مدائحه للغة والشعر العربيين. إنه الطرب، الذي يشعر به، على ما يبدو، أبناء الأمم المهزومة، يرفع معنوياتهم إلى حين، عندما يتذكّرون ماضيهم التليد. كانت نشوتي بالإرث العربي ـ الإسلامي معادلة، تماماً، لقنوطي من اللحظة العربية الراهنة، ومعادلة، تماماً، ليقيني الواضح من استحالة استئنافه من النقطة التي توقّف عندها. ألا يفسر هذا الطرب، هذه النشوة، لماذا يعيش العرب، من دون سائر الأمم، في الماضي؟ أجسادهم في الحاضر وعقولهم في الماضي. الماضي ماثلٌ في حياتهم أكثر من حاضرهم، لكنه ليس حضور النقد والتساؤل والتفكيك، بل حضور التصنيم والعبادة.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن