حاول ضباط في وزارة الداخلية اللبنانية التخفيف من حجم تظاهرة 29 أغسطس/آب التي نظّمتها الحملات المدنية والتجمّعات السياسية الرافضة للسلطة السياسية مجتمعة ولفشل الحكومة. أشاع عدد من هؤلاء الضباط أنه تم تقدير حجم الحشد بين 7500 و10 آلاف مشارك، في حين كان واضحاً من خلال الصور الجويّة أنّ عدد المتظاهرين فاق العشرين ألفاً. بعيداً عن هذا النقاش، لا بد من القول إنّ هذا الحراك تمكّن، بغض النظر عن حجمه، من فرض نفسه على الطبقة السياسية والتأسيس لحالة سياسية وشعبية جديدة لم يكن لها دور أو حساب بين ساحتي 8 آذار و14 آذار. ويأتي نجاح هذا الحراك على الرغم من غياب الكثير من العوامل الأساسية والمؤثرة في مشاريع مماثلة، وأهمها كون المنظمين والمشاركين لا ينتمون إلى حزب واحد أو عقيدة واحدة، وغير منطلقين من شعارات طائفية أو مذهبية تشكّل عادةً عصب هذه التحركات، بالإضافة إلى أنّ الحراك يعمل بلا أي دعم مالي على عكس كل التظاهرات السياسية الواسعة التي شهدها لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. كما أنّ السلطة مجتمعة حاولت إفشال التحرك عبر إطلاق الشائعات السياسية حوله والتخويف بأنه سيكون تحركاً دامياً.
اقرأ أيضاً: آلاف اللبنانيين يواجهون الحكومة.. والمشنوق يعلن نتائج التحقيق الأربعاء
غابت هذه الغطاءات السياسية والطائفية والمالية، لكن الحراك مستمرّ وأخضع السلطة لاختبار جديد بفعل مهلة 72 ساعة التي أعطاها القيّمون عليه لتنفيذ مطالبهم وهي الآتية: استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، محاسبة وزير الداخلية نهاد المشنوق وكل من أصدر الأوامر للقوى الأمنية باستخدام العنف ضد المعتصمين وقمعهم، وإعادة ملف النفايات إلى البلديات كونها المسؤولة قانوناً عنه، وإجراء انتخابات نيابية كمدخل لحلّ أزمة الفراغ الرئاسي الذي يعيشه البلد منذ مايو/أيار 2014. وسارع وزير الداخلية، نهاد المشنوق، إلى تحدي هذه المطالب، فأكد بعد أقل من ساعة على رفع هذه المطالب بأنّ تحقيقات الوزارة حول العنف ستعلن نتائجها يوم الأربعاء المقبل، أي بعد يوم واحد من انقضاء المهلة التي حدّدها الحراك. بدوره، أكد وزير البيئة محمد المشنوق على أنه متمسك بمنصبه الوزاري وقال: "لست في وارد التخلي عن المسؤولية في هذه المرحلة الحساسة ولست المسؤول الوحيد عن أزمة النفايات بل هناك مسؤوليات مشتركة". مع العلم أنّ مصادر نيابية في تيار المستقبل، أكدت لـ"العربي الجديد"، أنه تم الاقتراح على زعيم المستقبل الرئيس السابق سعد الحريري، إمكانية سحب وزارة البيئة من محمد المشنوق ووضعها بتصرّف رئيس الحكومة تمام سلام. أي محاولة لاستيعاب مطالب الحراك من جهة، بينما من جهة أخرى يجري التعويل على تقديم المشنوق كـ"كبش محرقة" ينقذ الحكومة من خلال تحميله وحيداً مسؤولية أزمة النفايات التي كانت شرارة تحرّك حملة "طلعت ريحتكم".
اقرأ أيضاً: لبنان: السلطة مرعوبة من الشارع وضغوط دبلوماسية لمنع "الفراغ"
يوضح هذا الواقع أنّ السلطة السياسية لن ترضخ بسهولة إلى مطالب الحراك وهي مستمرة بالتمسك بموقعها وحكومتها على الرغم من الأزمات الجدية التي تعيشها على المستويات كافة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً. وبالتالي فإنّ "حراك بيروت" أمام معركة متجدّدة وطويلة مع فريقي 8 آذار و14 آذار وما بينهما من فريق وسطي حاكم. ويرى مراقبون أن معركة مماثلة باتت تستدعي عمل المسؤولين عن هذا الحراك على فتح أبواب مواجهة جديدة مع السلطة، قد يكون أبرزها التنسيق مع القطاعات العمالية التي كان لها تأثير قوي على الشارع بين أعوام 2012 و2014، بفعل حركة هيئة التنسيق النقابية بقيادتها اليسارية. بالإضافة إلى إدراك الحملات المدنية وجوب توسيع رقعة المعركة إلى المناطق اللبنانية وليس في بيروت فحسب.
وفي حال نجح هذا الحراك في المواظبة على حشد الناس والاستمرار في حركة الشارع، فإنه سيكون بعد أسبوعين على موعد مع قوّة دعم إضافية ستتمثّل بانطلاق العام الدراسي الجديد في جامعات لبنان ومدارسه، لواقع أنّ هذين القطاعين من أكثر القطاعات التي يمكن الحشد فيهما.
من جهة السلطة، يعيش رئيس مجلس النواب نبيه بري مرحلة ذهبية في العمل على جمع أركان السلطة وإعادة ترتيب الخلافات بين مكوّناتها. ونجح بري خلال الأيام الماضية في جمع معظم أفرقاء قوى 8 آذار و14 آذار على فكرة استعادة "الحوار الوطني" علّه يفيد في تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين ويصنع سلّة جديدة من الأولويات السياسية. وسبق لبري أن ترأس حواراً مماثلاً بين عامي 2005 و2006، انتهت مفاعيله على أرض الجنوب مع العدوان الذي شنّته إسرائيل على لبنان في يوليو/تموز. ثم عاد منطق الحوار نفسه مع انتخاب رئيس الجمهورية السابق، ميشال سليمان، الذي ترأس اجتماعات ما عُرف بـ"هيئة الحوار الوطني" بين أعوام 2008 و2014. وتحوّلت تلك الاجتماعات إلى جلسات شهرية تتخلّلها النقاشات والسجالات نفسها من دون أن يكون لها أي تأثير فعلي على عملية تسوية الخلافات اللبنانية الداخلية.
اقرأ أيضاً: إجهاض حراك بيروت... كل شيء مُباح لدى السلطة
وتشير أوساط رئيس الحكومة تمام سلام، لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "المطلوب من حوار مماثل نقل كل الخلافات والنقاشات السياسية من مجلس الوزراء إلى طاولة الحوار"، فتتحوّل بذلك جلسات الحكومة إلى "جلسات فاعلة ومنتجة بعيداً عن كل ما هو سياسي". لكن فريق 14 آذار، وسلام أيضاً، غير مقتنعين جدياً بإمكانية حصول هذا الأمر فطالبوا بري بـ"إيجاد ضمانات بحصول هذا الأمر"، خصوصاً أنّ هذا الفريق يعتبر أنّ هيئات حوارية مماثلة تبقى مؤسسات غير دستورية ولا قرارات لازمة تصدر عنها، في حين أنّ البحث لا يزال جارياً لتفعيل الحكومة وعملها.
وفي السياق نفسه، أطلق بري ومعه النائب وليد جنبلاط، مبادرة سياسية سريعة هادفة إلى إرضاء النائب ميشال عون من خلال تأمين مطالبه في ما يخص ملفّي التعيينات الأمنية وآلية اتخاذ القرار داخل الحكومة. يقترح بري إصدار بعض الترقيات لعدد من الضباط في الجيش اللبنانية، تشمل صهر عون العميد شامل روكز، بهدف المحافظة على حظوظه في تسلّم قيادة الجيش بعد انتهاء ولاية العماد جان قهوجي. حتى أنّ النقاش مع عون وصل إلى حد اقتراح تسمية رتب عسكرية جديدة، مثلاً في ترقية قهوجي إلى رتبة "عماد أول" (رتبة غير موجودة في لبنان) ومن ثم ترقية روكز إلى رتبة عماد فيخلفه في قيادة الجيش بعد أقل من عام. في حين يعمل بري أيضاً على اقتراح آخر بخصوص تعيين أعضاء المجلس العسكري (ثلاثة مقاعد شاغرة من أصل خمسة)، فتكون هذه التعيينات من حصة عون.
يبدو أنّ "حراك بيروت" قد أفرز ما يلزم من أجواء ووقائع اضطرت السلطة السياسية إلى أخذها في عين الاعتبار للتحاور لكن ليس مع الناشطين ومطالبهم، بل بين مكوّناتها وأطرافها المتصارعة.