منذ شهر يوليو/ تموز الماضي، وإعلان "الكردستاني" الحرب على أنقرة، التي ردت بالمثل وبإنهاء عملية السلام، بدا واضحاً أن الطرفين كانا يعلمان أنه لا بد أن تندلع الاشتباكات مرة أخرى، لأي سبب. نجح "العمال الكردستاني" خلال سنوات التهدئة الثلاث في التمدّد في جنوب شرقي الأناضول، بعد سيطرة جناحه السياسي على بلدياتها، وصولاً إلى إقامة مقابر لقتلى الحزب والمحاكم المحلية وفرض الضرائب على المواطنين والتجنيد الإجباري بما يشبه تشكيل دولة ضمن دولة. حتى أنه استغل التردّد التركي في الانضمام إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، ليتهم أنقرة بالتعاون مع التنظيم بعد التفجير الانتحاري الذي قام به "داعش" في بلدة سوروج، وذلك للقيام بعمليات اغتيال لمدنيين أتراك في إسطنبول وأزمير يتهمهم بالعمل مع "داعش"، ليكون اغتيال الشرطيين في ولاية أورفة الحادث الذي دفع الحكومة التركية لتستخدم انضمامها للتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن غطاءً لتوجيه ضربات قوية لـ"الكردستاني". وبدت هذه الحرب في صالح الطرفين، اللذين كانا مرعوبين تماماً من صعود حزب "الشعوب الديمقراطي" (ذي الغالبية الكردية)، إثر نتائج انتخابات يونيو/ حزيران الماضي؛ "الكردستاني" الذي وجد نفسه فجأة أمام حزب يساري قوي بقيادات استطاعت لأول مرة منذ الثمانينات تجاوز قيادات جبل قنديل (مقر حزب العمال الكردستاني)، حيث إنها لم تعد جناحه السياسي، بل بات "الشعوب" حزباً يسارياً تركياً يعمل على حل القضية الكردية كإحدى القضايا العالقة في الجمهورية التركية.
نجح "الكردستاني" في بداية الاشتباكات بتوجيه ضربات قوية للجيش معتمداً على تكتيكاته القديمة، ممثلة بعبوات التفجير البدائية التي كان قد زرعها خلال التهدئة، والعمليات الانتحارية، لكنها لم تعد تجدي في وقت لاحق، إذ ظهر الجيش التركي مختلفاً هذه المرة سواء من ناحية الاستخبارات أو التدريبات والمعدات العسكرية المتطورة والقمر الصناعي الاستخباري الذي بات يمتلكه. فتلقى "الكردستاني" ضربات قوية سواء في الريف التركي أو في جبال قنديل في كردستان العراق، مع قدرة عالية أبداها الجيش التركي حتى الآن لتحييد المواطنين الأكراد عن الصراع، فلم تحصل اعتقالات تعسفية أو عمليات اغتيال، سوى تلك القضايا التي رفعها على قيادات الجناح السياسي لـ"العمال الكردستاني" ممثلاً بحزب "الأقاليم الديمقراطية"، وبعض الحوادث التي لم تكن ذات تأثير كبير.
لكن "الكردستاني" غيّر استراتيجيته وكثّف عملياته، بعد التدخّل الروسي في سورية وما تلاه من صدام بين أنقرة وموسكو، اشتعل بعد قيام سلاح الجو التركي بإسقاط طائرة روسية، وما تبعه من تأسيس غرفة عمليات مشتركة في مدينة القامشلي، بين الروس و"الاتحاد الديمقراطي"، الذي تقود قواته العسكرية حتى الآن كوادر تابعة لـ"الكردستاني" جاءت من جبل قنديل. وعلمت "العربي الجديد" أن موسكو قدّمت حوالي 105 أطنان من المساعدات العسكرية لـ"الاتحاد الديمقراطي" في القامشلي، منذ أيام، وتعمل على تحويل مطار القامشلي الدولي الذي يسيطر عليه النظام السوري إلى قاعدة عسكرية لها.
كما نجح "الكردستاني" في إيجاد بديل للمعسكرات والمخازن التي دمرها الجيش التركي في جبل قنديل، فباتت مناطق سيطرة الحزب في سنجار وسورية أماكن بديلة لمخازن الأسلحة والمعسكرات، ما أدى إلى توتر كبير في العلاقة مع سلطات إقليم كردستان العراق ممثلة بالحزب "الديمقراطي الكردستاني" بقيادة مسعود البرزاني.
وتحوّل "العمال الكردستاني" إلى قتال المدن بمساعدة شبيبة الحزب، بما يشبه الاستنساخ لتجربة مدينة عين العرب السورية أثناء الهجوم الذي تعرضت له من قِبل تنظيم "داعش". وبينما بدا الحزب عاجزاً تماماً عن القيام بأي عمليات في مدن الغرب والوسط التركي، بعد تعرّض كوادره لحملة اعتقالات واسعة في كل من إسطنبول وأضنة وإزمير وبورصة وأنقرة وأورفة وعنتاب، اقتصر عمله هذه المرة على المدن والبلدات الحدودية المواجهة للحدود العراقية أو السورية، مثل بلدة سيلوبي في ولاية شرناق على الحدود العراقية، وكل من بلدة نصيبيبن وديريك في ولاية ماردين المواجهة لمحافظة الحسكة السورية التي يسيطر عليها جناحه السوري، أو في القلب الأثري لمدينة ديار بكر وبلدة سلوان في الولاية.
اقرأ أيضاً: أردوغان يتعهد بالاستمرار في الحرب على العمال الكردستاني
يؤكد أحد الضباط العاملين في الوحدات الخاصة التابعة لقوات الدرك التركي، في حوار مع "العربي الجديد"، أن العمليات ضد "التنظيم"، كما يُطلق على "الكردستاني" في تركيا، "كانت سهلة للغاية في الريف، ولكن في المدن تكون مربكة، لأسباب كثيرة، أهمها أن على قوات الأمن التركي أن تجري العملية مع التشديد على تجنب إيذاء المدنيين".
ويقول الضابط العائد حديثاً من المشاركة في حملة ضد "الكردستاني" في بلدة ديريك: "الوضع ليس كما يتخيّل البعض بأن مقاتلي التنظيم يأتون من الجبال ويدخلون إلى المدن بسهولة، لأن هذا أمر مستحيل، ولكن ما يحدث هو أنه من يدخل المدن منهم يرتدي لباساً مدنياً وغالباً ما لا تكون هناك مذكرة بحث أو اعتقال باسمه، وبذلك يستطيع التجوّل في كل مكان يريده"، مضيفاً: "في البداية نجحوا مرات عدة بالاستيلاء على معدات وآليات تابعة للبلدية بمساعدة الجناح السياسي التابع للتنظيم في مجالس البلديات، ولكن بعد ذلك، بدأنا نحصل على المعلومات الاستخباراتية منذ بداية دخولهم، ونجحنا في منعهم من السيطرة على آليات البلدية في ديريك، فلم ينجحوا بحفر الخنادق، واقتصرت تحصيناتهم على الدشم والحواجز".
ويشير إلى أن "عناصر التنظيم يعملون على التمركز في الأحياء التي تشهد كثافة سكانية كبيرة، ولذلك فإن قتل أو إلقاء القبض على أي عنصر منهم يحتاج منّا أحياناً عملاً واشتباكات لمدة تصل إلى 24 ساعة، إذ لا نستطيع استخدام الآليات الثقيلة على نطاق واسع، لأن هذا سيعني دمار الحي، حيث يكون هدفنا الرئيسي ألا يتضرر المدنيون، ولكن التنظيم لا يعنيه الأمر، بل يسعى إلى ذلك، للترويج بأن الدولة تعمل على ضرب المدنيين، لدفعهم إلى التمرد، الأمر الذي فشل به حتى الآن". ويلفت إلى أنه "عند حصول عناصر التنظيم على أوامر بالخروج، يقومون بارتداء ملابس مدنية وترك أسلحتهم، ولكننا نجحنا باعتقال عدد منهم، بعد توافر المعلومات الاستخباراتية عنهم من سكان المنطقة".
ويبدو أن المدنيين في المنطقة هم من يدفع الثمن الأكبر، إذ يؤكد حزب "الشعوب الديمقراطي" (ذو الغالبية الكردية) "أن الاشتباكات الأخيرة أدت إلى نزوح أكثر من 200 ألف مواطن من منازلهم في المنطقة، بسبب الاشتباكات وإعلان الدولة حظر التجوال".
ويقول محمد، أحد سكان بلدة جيزرة (جزيرة)، التي شهدت اشتباكات عنيفة، لـ"العربي الجديد"، إن "ما يحصل الآن في أحياء جيزرة هو أمر جديد للغاية ولم يشهده سكان المنطقة بعد أكثر من ثلاثين عاماً على اندلاع تمرد الكردستاني"، قائلاً: "فجأة رأينا جرافات الدولة وهي تعمل على حفر الخنادق في الشوارع والأحياء، ونصب الدشم والحواجز، ليظهر عناصر مسلحون وملثمون تابعون للتنظيم، ويضعون أعلام الحزب، ومن ثم أعلن الوالي حظر التجول"، مضيفاً: "لم نكن نفكر في الخروج في البداية، ولكن جاء الجيش والدرك، حاصروا المنطقة لتبدأ الاشتباكات بمساعدة المروحيات، وهكذا بدأ عناصر التنظيم بفتح ثغرات في جدران المنازل للتنقل بدل الشوارع، عندها فقط تذكرت الصور التي كنت أراها من عين العرب". ويتابع: "هرّبت ابني إلى اسطنبول، لأن التنظيم حاول اختطافه لتجنيده في الجبال. الكل يعلم بأن الدولة لن تترك التنظيم يسيطر على المدن، لا بد من العودة إلى المفاوضات".
أما حسين، أحد سكان مدينة نصيبين، فيقول إن "الحال لم يعد يطاق، عملي توقف، واضطررت لأنزح مع عائلتي إلى منزل أقاربنا في ديار بكر، وبعد شهر، عدنا إلى المدينة لتندلع الاشتباكات مرة أخرى، ولكن قدمت المصفحات هذه المرة، فذهبت إلى بيت أخي في ماردين". ويطالب الجميع بوقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن "الكردستاني كان قد أعلن ذلك، لكن الدولة رفضت، نحن من يدفع الثمن الآن، فلتسحب الدولة آلياتها المصفحة وقواتها. الجميع يعرف بأن هذه الحرب عبثية".
وعلى غير العادة، لا يبدو أن الحرب بين الطرفين ستتوقّف في الشتاء، فمن جهة، نشر الجيش التركي صوراً لوحداته وهي تقوم بعمليات ضد مغاور ومخازن للأسلحة يستخدمها "الكردستاني" في الجبال، في طقس بارد جداً، معلناً أن العمليات ضد "الإرهاب لن تتوقف". ومن جهة أخرى، فإن قتال المدن لن يتأثر بالأحوال الجوية كما في الجبال والريف، الأمر الذي أقلق رئيس اتحاد غرف الحرفيين في ديار بكر علي جان أبدين، الذي دعا إلى إعلان منطقة سور التي تشهد اشتباكات عنيفة منذ أيام، منطقة كوارث، قائلاً: "في التسعينات كانت الاشتباكات تحصل في الريف، فلم نكن نتأثر كثيراً بها في المدن، ولكن ما نعيشه الآن من الناحية الاقتصادية هو انهيار تاريخي، فلا توجد في ديار بكر صناعات ثقيلة، ويعتمد الاقتصاد على الحركة بين الحرفيين والتجار الصغار"، مضيفاً: "يتواجد في ديار بكر 65 ألف حرفي وتاجر صغير، منهم 10 آلاف في قلب ديار بكر، أي في حي سور، ومنذ اندلاع الاشتباكات، تم إغلاق أكثر من 300 شركة، وفقد أكثر من 5 آلاف عامل مصادر أرزاقهم، كما شهدت الأعمال التجارية خارج الحي في المدينة هبوطاً بأكثر من خمسين في المائة، ليبدو وكأن اقتصاد المدينة عالق بين ديون المصارف والحرب".
اقرأ أيضاً: العمال الكردستاني يرفض إخلاء مبان حكومية بسنجار العراقية