غداً الثالث عشر من أبريل/نيسان، ذكرى انطلاق الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. يستعيد كثيرون هذه الحرب. يعبّر كلّ واحد فيهم بكمّ هائل من السلبية، عن الخوف والرعب والهرب والالتجاء الذي عاشه صغيراً، أو روي له عنه. أو يصطنع تاريخاً له وذاكرة شخصية تسمح له بالتباهي بجرح وألم وحزن وفقر.
لكنّه كطفل ما دون العاشرة، كانت الحرب جميلة بالنسبة إليه. أصوات قذائفها ورصاصها تبهجه. وأضواء انفجاراتها ومقذوفاتها ليلاً تمتعه. حتى الصاروخ الذي ضرب أعلى منزل أهله ولم ينفجر، وحفر الرصاص مختلفة الأحجام تنقش الجدران الخارجية، وخريطة رسمها شقيقه الأكبر بين الثقوب للبنان بجنوبه المحتل المدموغ بالأسود، كلّها كانت في وقتها حلوة بطريقة غريبة.
فِراغات رصاص الحرب في الصباح الباكر بعد جمعها، وفرز الروسي من السوري فيها غريب، لكن جميل. فالروسي الأحمر الحديدي للعب الكلل، والسوري الأصفر النحاسي للجمع، وبيع الكيلو منه بألف ليرة عام 1990.
"الكوبرا" البعيدة جنوباً و"الأباتشي" الأقرب تذهلانه. والوقوف في طابور أمام الفرن للحصول على ربطة خبز رائع. ومثله انتظار ملء غالون الـ10 ليترات بالكاز أمام المحطة البعيدة بالقرب من مطار بيروت.
جمع الحطب من أجل الغسيل خلال انقطاع الكهرباء طوال عامين كان لعبة مسلية. والإعانة الغذائية من الأميركيين والإيرانيين والسعوديين في البيت والمدرسة مكافأة كبيرة وجميلة. حتى كعك الذرة الأصفر الأميركي الذي يكرهه شقيقه كان لذيذاً بطريقة غريبة. ومضحكة كانت تلك "الكلاسين" التي خاطتها الجارة لهما من قماش أكياس الطحين المقدم للإعانات.
حتى الملجأ نفسه، وهو يهرّب إليه "ديوك" المفرقعات و"حصائرها"، كان من أحلى الأوقات، فإزعاج الكبار وتخويفهم يبقى من أمتع الأشياء بالنسبة إلى طفل... مزعج.
الأروع من كلّ ذلك "طرده" مع باقي التلاميذ جميعاً من المدرسة في 14 مارس/آذار 1989، مع بداية انهمار قذائف "الجنرال" وصواريخه عليهم -هم الذين في الشق السوري من البلاد- وابتداء العطلة الصيفية المبكرة. الحرب نفسها كاد يُقتَل فيها ضحية زجاجة "كاتشاب" من دكان قريب، بصاروخ من عيار "حرية وسيادة واستقلال" سقط في حائط المدرسة المواجه.
تلك البهجة لا شكّ هي من آثار الحرب، وسرقة سنوات الطفولة. ربما كان ذلك الانسلاخ الحاد عن واقع الموت اليومي، والبحث عن الأمل في أسوأ الأشياء وأقذرها، نوعاً من علاج مباشر للبقاء. لكنّ البقاء نفسه كان أسوأ من الحرب أحياناً... فهي حروب متوالدة بأشكال عديدة، بينما يزول الأمل شيئاً فشيئاً ولا بارقة لاجتراحه هذه المرة.