يعود اسم حزب "السعادة" التركي، الذي يُعتبر رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان زعيمه الروحي، بقوة إلى الساحة السياسية في البلاد بعد التحوّلات الكبيرة التي شهدتها، في ظل توقعات بأن يكون له دور مهم في الحياة السياسية في الفترة المقبلة، بل قد يكون بيضة القبان في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
وسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتفاهم مع "السعادة"، وذلك بعدما نجح حزبه "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، المنضويان في إطار التحالف الجمهوري، في توسيع التحالف بضم حزب "الوحدة الكبرى" (المنشق عن الحركة القومية) في سبيل تشكيل جبهة يمينية واسعة تمهيداً للانتخابات البرلمانية والرئاسية. وأجرى أردوغان لقاءين مع زعيم "السعادة" تمل كارامولا أوغلو، كما قامت لجنة من نواب "العدالة والتنمية" بزيارة الأخير في مقر الحزب في أنقرة. ولكن هذه الجهود فشلت في إقناع "السعادة" بالانضمام إلى هذه الجبهة، ليظهر أن الحزب اختار التحالف مع حزب "الشعب الجمهوري" (أكبر أحزاب المعارضة) والحزب "الجيد" (المنشق عن الحركة القومية)، من دون الإعلان عن ذلك رسمياً حتى الآن.
ويُعتبر حزب "السعادة" الوريث الشرعي لحركة "ميلي غروش" (الرؤية القومية) التي أسسها أربكان عام 1969، واستمر في قيادتها كحركة تمثّل "الإسلام السياسي التركي" ببنية صوفية ترى في الهوية الإسلامية الأساس في بنية الهوية التركية في مواجهة التغريب الرسمي الذي اتبعته الجمهورية الكمالية. كما كانت الحركة تعارض الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وكذلك تواجد تركيا في حلف شمال الأطلسي والوجود العسكري الأميركي على الأراضي التركية، وتمكّنت خلال عقود من العمل السياسي من دمج الطبقة التركية المتدينة من أبناء وسط الأناضول في الحياة السياسية والبرلمانية التركية عبر عدد من الأحزاب التي مثّلت الحركة، بدءاً بحزب "النظام القومي" مروراً بحزبي "السلامة القومي" و"الرفاه" وانتهاء بـ"السعادة".
وانشق حزب "السعادة" في بداية الألفية، بين "تقليديين" ملتزمين بمبادئ التأسيس لحركة "ميلي غروش" بقوا في إطار الحزب، وبين "إصلاحيين" قادهم أردوغان والرئيس السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق بولنت أرينج وعدد آخر من القيادات الذين قاموا بتأسيس حزب "العدالة والتنمية" على أنه حزب محافظ ليبرالي، تخلى عن العداء للاتحاد الأوروبي والغرب، وأكد إيمانه بالعلمانية، وتمكن من استقطاب أطياف واسعة من اليمين القومي التركي.
بعد الانشقاق في صفوف الحزب، لم يتمكن "السعادة" من القيام بأي دور سياسي مهم، بل إنه لم ينجح بدخول البرلمان منذ عام 2002، بسبب العتبة البرلمانية التي فشل في تجاوزها، إذ تراوحت أصوات الحزب بين 2,49 في المائة في الانتخابات العامة عام 2002، و0,68 في انتخابات 2015.
وبعيداً عن التصريحات السياسية لزعيم حزب "السعادة"، علمت "العربي الجديد" من مصدر مقرب من الأخير، أنه وإضافة إلى رفض "العدالة والتنمية" الخوض في عدد المقاعد البرلمانية التي سيخصصها لـ"السعادة" قبل الإعلان عن التحالف، فإن الخلافات بين الحزبين لها جوانب أعمق بكثير مما يتم تداوله على لسان الساسة. ففي الوقت الذي تلوح فيه فرصة لـ"السعادة" لاستعادة شعبيته، تبرز مخاوف من قبل قياداته من أن التحالف مع "العدالة والتنمية" لن يكون إلا وسيلة للأخير لابتلاع "السعادة" بشكل نهائي، كما فعل "العدالة والتنمية" مع معظم أحزاب يمين الوسط، بعد انضمام وزير الداخلية الحالي، الرئيس السابق للحزب "الديمقراطي"، سليمان سويلو، إلى "العدالة والتنمية" عام 2012 ومن ثم حل "الديمقراطي". وكذلك مع انضمام وزير الثقافة الحالي، نعمان قورتولموش، إلى "العدالة والتنمية" عام 2012، وحله حزب "صوت الشعب" الذي أسسه عام 2010 بعد الانشقاق عن "السعادة"، الأمر الذي قد يتكرر مع حزب "الوحدة الكبرى" بقيادة مصطفى ديستيجي.
وإضافة إلى ذلك، يشير مراقبون إلى أن رفض "السعادة" الانضمام إلى التحالف الجمهوري، يعود أيضاً إلى الخلافات العميقة، بل العداوة والقطيعة بينه وبين "الحركة القومية"، مستشهدين بعدم قيام "الحركة القومية" بتهنئة القيادة الجديدة لـ"السعادة" في مخالفة للأعراف السياسية، وكذلك عدم إرسال أي مندوبين من قبل "السعادة" لحضور مؤتمر الحركة.
ويبدو أن "السعادة" قد يتمكن من القيام بدور في كسر هيمنة التحالف الجمهوري على اليمين التركي، وذلك في ظل السيناريو الذي تتداوله الساحة السياسية التركية، حول إمكانية ترشح الرئيس التركي السابق، عبدالله غول، للرئاسة ضد أردوغان، عن جبهة معارضة مكوّنة من أحزاب "الشعب الجمهوري" و"الجيد" و"السعادة". ويقول المصدر المقرب من "السعادة" لـ"العربي الجديد"، إن أصوات الموالين لحركة "ميلي غروش" يمكن تقديرها بشكل عام بحوالي ثمانية إلى عشرة في المائة من عموم الأصوات في تركيا، ونجح "العدالة والتنمية" بجذب غالبية هذه الأصوات في معظم الانتخابات لسبب رئيسي يتمثل في أن أنصار "ميلي غروش" كانوا لا يرون أي حظوظ لحزب "السعادة" بتجاوز العتبة البرلمانية، فيصوتون لـ"العدالة والتنمية" كي لا تذهب أصواتهم سدى. ويضيف: "الوضع بدأ يختلف مع التغيير الذي سيتم إقراره قريباً في القانون الانتخابي، والذي سمح عملياً بمعاملة التحالفات الحزبية معاملة الحزب الواحد في ما يخص العتبة البرلمانية، وبالتالي فإن نجاح السعادة في تشكيل تحالف معارض سيجعل حظوظه بدخول البرلمان عالية، مما سيمكنه من استعادة جزء من أصوات حركة ميلي غروش من العدالة والتنمية، وتحديداً أصوات الفقراء المحافظين في أرياف وسط الأناضول ممن يشعرون بالظلم عند مقارنة أنفسهم بالمكاسب التي حققتها الطبقات التي استفادت من العدالة والتنمية في المدن. كما قد يتمكن الحزب من جذب أصوات المحافظين الأكراد الممتعضين من تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية". ولكنه يستدرك بالقول: "كل هذا في النهاية تحليل على الورق، والمدة المتبقية للانتخابات طويلة وقد يحدث الكثير من التغيرات، كما أن الأمر يعتمد بشكل أساسي على صياغة التحالف الذي ينشأ بين السعادة والحزب الجيد والشعب الجمهوري، والسؤال الأهم كيف ستكون ردة فعل أنصار ميلي غروش على التحالف مع العدو التاريخي ممثلاً بالكماليين".
يُذكر أن تركيا شهدت العام الماضي تعديلات دستورية سمحت بالتحول إلى النظام الرئاسي بدل البرلماني، وتلاها عمل دؤوب من قبل "العدالة والتنمية" الحاكم بالتعاون مع "الحركة القومية" (يميني قومي متطرف) لدفع البنية السياسية الداخلية نحو سياسة الكتل بدل سياسة الأحزاب، الأمر الذي تم من خلال توافق الطرفين على مجموعة من التعديلات سمحت بتكوين تحالفات انتخابية تحافظ على هوية الأحزاب المتحالفة، وبات الحزب الواحد يُعامل كالتحالف في ما يخص العتبة البرلمانية، إذ يجب على الحزب أن يحصل على عشرة في المائة من الأصوات لضمان دخول البرلمان.