أما النائب العمالي اليساري، وآخر الملتحقين بسباق التنافس على زعامة الحزب، جيريمي كوربين، فيعتبر أن أسباب الهزيمة أعمق من ذلك. من وجهة نظره، فإن الحزب الذي تأسس منذ ما يزيد عن قرن لتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية في المجتمع ودعم قيم السلام، قد انحرف عن هذه المبادئ، بعد أن تم قمع "اليسار" في حزب العمال الجديد. وهو ما أدى إلى تقلص شعبيته، بعد أن شعرت الشرائح الاجتماعية الفقيرة، التي تشكل القاعدة الأوسع للحزب، أن "العمال" بات أكثر يمينية، وأكثر ميلاً إلى تبني مصالح الطبقة الغنية.
وعلى الرغم من أنّ الزعيم الأسبق للحزب، توني بلير، يتفق مع هارمان على أن "اختيار زعيم جديد للحزب هو أمر مهم، كما يتفق مع كوربين على أن "الأهم هو تحديد اتجاه واضح للحزب"، فإن بلير يعتبر، وعلى خلاف كوربين، أن السبب الرئيسي لخسارة العمال في انتخابات مايو/ أيار الماضي يكمن في تراجع الحزب عن "الطريق الثالث"، وتخليه عن "العمال الجديد" الذي وضع أساسه بلير في العام 1997.
اقرأ أيضاً: "العمال" البريطاني: الهزيمة وصراع القيادة
أما المراقبون من خارج الحزب، فيعتقدون أن حزب العمال يحتاج الى ما هو أكثر من رئيس تقليدي. كما يحتاج الى إستراتيجية جديدة وواضحة تحدد خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعيد تعريف هوية الحزب وموقعه على الخارطة الحزبية في بريطانيا، ولا سيما أنّ الحزب فقد في السنوات الأخيرة هويته. وتمزقت هويته بين قوى الشد والجذب المتنافرة داخل قياداته، بين من يدعم حزب "العمال الجديد" بتوجهاته "البليرية"، وبين من يشد الحزب الى أصوله اليسارية التقليدية المدعومة من النقابات المهنية.
أما في ما يتعلق بالخيارات الأيديولوجية للحزب، فيدعو جيريمي كوربين للنضال من أجل إعادة بناء الحزب على أساس الأهداف التي تأسس من أجلها. فمعضلة العمال الحقيقية هي أنه فقد هويته وابتعد عن جذوره، ليصبح حزباً في الوسط بلا أي ميول واضحة. وبدلاً من التمسك بهويته المدافعة عن حقوق الطبقة العاملة من المجتمع، تحول الحزب من اليسار إلى الوسط بشكل متذبذب ومن داعمٍ للعمال والفقراء إلى داعمٍ للشركات الكبرى ورجال الأعمال.
في المقابل، يصرّ بلير، صاحب نظرية "الطريق الثالث" على أنّ خروج حزب العمال من الهزيمة الأخيرة لا يمكن أن يتحقق بدون الرجوع إلى وسط السياسة البريطانية. وقال بلير، في مقال نشره في صحيفة "اوبزرفر"، إن "الطريق إلى القمة لا يكون إلا بالعودة الى الوسط"، حيث يُمكن الاحتفال بنجاحات رأس المال بالتوازي مع إصلاح قطاعات الخدمات العامة، ومحاربة الظلم، وحيث يُمكن تشجيع المثابرين واحترام تطلعاتهم وتقدير دورهم ومساهمتهم في دفع عجلات الاقتصاد والتنمية، بالتوازي مع بناء دولة "الرحمة والرعاية" للأفراد الأقل حظاً.
ويتجلى هذا النقاش النظري بين التيارين الأبرزين في الحزب بشكل عملي، في التنافس على موقع زعامة الحزب في الانتخابات المقررة في سبتمبر/ أيلول المقبل. فبينما يدعم "لوبي" رجال الأعمال والمتبرعين الماليين وزيرة الصحة في حكومة الظل السابقة، ليز كيندال، كممثلة لجناح "الطريق الثالث" أو "البليرية"، التي ستعيد الحزب نحو "يسار الوسط" والتخلص من هيمنة النقابات المهنية التي طالما تحكمت بالحزب وسياساته، تدعم النقابات المهنية التي تشكل الداعم المالي والقاعدة الجماهيرية الأوسع للحزب، وزير الصحة في حكومة غوردن براون، آندي بيرنهام الذي يمثل جناح "اليسار التقليدي" الذي يسعى الى إعادة الحزب الى جذوره الأولى التي تأسس عليها منذ ما يزيد عن مائة عام. وبين المرشحين الاثنين الأبرزين، كيندال وبيرنهام، هناك ثلاثة مرشحين آخرين هم الوزيرة السابقة ايفيت كوبر الأقرب إلى تيار "البليرية"، وجيرمي كوربين اليساري العتيد الأقرب إلى النقابات المهنية، والوزيرة السابقة ماري كريه.
ومهما يكن من أمر عمق أو بعد الخلافات بين التيارين الأبرزين داخل الحزب، فإن الجميع، داخل الحزب وخارجه، يتوافقون على حاجة حزب العمال إلى إجراء مراجعة غير تجميلية أو ترقيعية، بل جراحية تراجع سياسات الحزب وخياراته وترسم هويته بشكل واضح، كما يقول مسؤول العلاقات الإعلامية في الحزب إبان حكم توني بلير، أليستر كامبل. ووفقاً للكاتب اوين جونز في صحيفة "الغارديان"، فإن نكران الواقع والتغاضي عن حقيقة الأزمة التي يواجهها الحزب سيكون كارثياً على مستقبل الحزب.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تنكفئ نحو الداخل... و"تستقيل" من الدبلوماسية الفاعلة