لعلّ سيرة الكاتب الفلسطيني اللاجئ في لبنان، حسين لوباني، من أبرز الشهادات حول النكبة، من وجهة نظر الناس العاديين، منذ لحظاتها الأولى حتى أزمنة الشتات التي طالت، ولم يعد المهجّرون إلى أرضهم
حسين لوباني، الذي ولد في بلدة الدامون، في عكا، بفلسطين عام 1939، لعائلة فلاحية، وصار لاجئاً في لبنان، يقول: "اليوم بتّ متأكداً أنّي سأموت في لبنان، وصرت محتاراً بين الدفن في مخيم البداوي أو مخيم نهر البارد، أي فوق أمي أو فوق أبي".
يروي لوباني لـ"العربي الجديد" سيرة حياته: "ولدت في 15 فبراير/ شباط سنة 1939، في الدامون، جنوب شرقي عكا، وأذكر أننا كنا عندما نستقل الباص من الدامون إلى عكا نحتاج إلى 11 كلم للوصول. بلدتنا قريبة من البحر. ما يميز بلدة الدامون عن غيرها من البلدات الفلسطينية، هي انتفاضتها أو حركتها الاستقلالية في وجه العثمانيين، بالتعاون مع آخرين، وصارت ثورة عامة على العثمانيين (1721)، بقيادة الشيخ ظاهر عمر الزيداني". يضيف: "بلدتنا مشهورة بالزراعة، خصوصاً البطيخ والشمام، وكذلك الذرة والسمسم اللذين ما زلت أذكر كيف كان إنتاجهما يحمل على الجمال ويُحضر إلى البلد، وقد ألفت كتابا يتكلم عن بلدتي، سميته: الدامون... قرية فلسطينية بالبال".
يتابع: "أنا أكبر إخوتي. عندما بدأت أتفتح على الحياة، وجدت أبي يملك 100 رأس ماعز، كما كان لدينا أرانب، ودجاج، وحمام. أمام بيتنا فسحة كبيرة، كانت في آخرها زريبة، فيها ماعز وبعض الغنم، ومعها كلب اسمه عرنوس، وكان ابن عمي الذي كان مراهقاً هو الذي يهتم بها". يواصل حديثه: "عام 1945، دخلت إلى المدرسة. كنت أحب الكتب كثيراً، وكانت المدرسة لا تستقبل إلا من بلغوا السابعة ليكونوا في الصف الأول الأساسي، وكنت ألعب مع ابن الجيران الذي يكبرني بعام واحد، وذهب إلى المدرسة، فصدمت وذهبت مسرعاً إلى أمي، أبكي وأقول لها إنّي أريد الذهاب إلى المدرسة، فأخبرتني بأنّي ما زلت صغيراً، فقلت لها إنّ رفيقي ذهب إلى المدرسة، فأخبرتني أنّه أكبر مني، فقلت لها أنا أكبر، إذ كنت أحسب الكبر بالطول وقد كنت أطول منه فعلاً. أصررت، وللمصادفة فقد كان مدير المدرسة الذي ما زلت أذكر اسمه، وهو شفيق، ينام في بيت المختار الذي هو زوج خالة أمي، كون المدير لم يكن من بلدتنا، فذهبت أمي إلى خالتها وأخبرتها بالأمر، وقال المختار بأنّي صغير، فأدخلوني مستمعاً في الصف الأول، لكن تفوقت على أترابي، وكان اسم معلمي خليل البيطار. في النهاية، خرجت من فلسطين وقد أنهيت الصف الثالث الأساسي".
اقــرأ أيضاً
يروي لوباني عن النكبة: "كانت العصابات الصهيونية تستهدف قريتنا، وكنا نسمع أصوات الرصاص من حيفا، وبعدها بيسان، ومن ثم عكا، لكنّ عكا قاومت، واستمرت بالمقاومة، ومن ثم امتد عدوان الصهاينة إلى القرى المجاورة لتلك المدينة.
جيش الإنقاذ أتى لنجدتنا، لكن لم نكن نملك السلاح المتطور، ولم نكن قد تدربنا على القتال، فالصهاينة معهم أسلحة متطورة، وهم كانوا قد شاركوا بالحرب العالمية الثانية، ولديهم خبرة. بدأت المعارك، وعرف الناس أن البروة سقطت، والبروة أعلى من بلدتنا جغرافياً، وعندها عرفوا أنّ الدور جاء علينا. ظلّ الشبان والرجال يحاربون، وطلبوا منا نحن الأطفال والشيوخ والنساء الخروج من البلدة".
يتابع: "خرجنا من البلدة، وتوجهنا نحو خِلّة الشريف، على مسافة بعيدة، لكنّ القصف اشتد والأوضاع ساءت، فتركنا المكان، وتوجهنا إلى معيار، وهي تقع على تلة عالية، فمكثنا في بستان زيتون وكنا في يوليو/ تموز 1948. في ذلك الوقت، اتفقت النسوة على أن يذهبن إلى البلدة لإحضار بعض الطعام، والملابس إذ لم يكن معنا شيء. ذهبت مع أمي وأول ما فعلته كان إفراغ جرة الماء في وعاء للطيور، كما نثرت حبوب القمح والذرة ليأكل الحمام والدجاج، كما أمنت طعاماً للأرانب، وبينما كانت أمي تحضر أغراضاً بدأ القصف، وخرجنا ركضاً، ولم نعد منذ ذلك اليوم إلى بيتنا. توجهنا نحو سخنين، ونمنا هناك تحت أشجار اللوز والزيتون، ورأينا الملاحف البيضاء منتشرة فوق البيوت دليلاً على الاستسلام، وما إن جاء الصباح حتى طلب منا أهل البلدة الخروج منها، وفعلاً خرجنا ونسيت كيس كتبي معلقاً بشجرة اللوز، وكان فيه المصحف، وكتابا القراءة العربية، والحساب، وصرت أبكي لأنّني نسيته، وأردت العودة لأحضره، لكن كنا قد صرنا بخراج سخنين، ووصلنا إلى نهر سلمة القريب من صفد، وهناك مكثنا فترة، وحاولنا معرفة أخبار البلدة. بقينا في المكان حتى 30 أغسطس/ آب".
يضيف: "عند نهر سلامة، وجدت بعض الفرح، فكنت أخرج مع رفاقي، للبحث عن طعام، وما كنت أجده أعطيه لأمي وأشقائي، وكانت أمي قد وضعت أختي وسمّتها سلمى على اسم نهر سلمة. بعد ذلك طلب منا أهالي سخنين الخروج من خراج بلدتهم حتى، فاجتمع في نقطة معينة جميع أهالي بلدة الدامون، وكان الطقس حينها حاراً جداً، وليس معنا مياه ولا طعام، وقطعنا سيراً على الأقدام جبلاً، فتوجهنا نحو البقيعة، وسكنّا فيها من 31 أغسطس/ آب حتى 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1948، وتلك البلدة فيها دروز ومسيحيون".
يضيف: "لم يكن معنا مال، وليس لدينا طعام وشراب، فكنت يومياً أمشي إلى جيش الإنقاذ الذين كانوا يطبخون الطعام، وأنتظر عندهم حتى يعطوني ما تبقى لديهم، وأعود به لأطعم أشقائي وأمي. بقينا هناك إلى أن مرت طائرتان وبدأتا بالقصف، وشاهدنا جيش الإنقاذ وهو يسير بمحاذاة الطريق منسحباً، إلى أن وصلت الدبابات الصهيونية، وطلبوا عبر منادٍ أن يترك الغرباء عن البقيعة البلدة، وبالفعل تركناها في السادس من نوفمبر، وسمّيت تلك الرحلة برحلة العذاب، ففي أثناء سيرنا شاهدت كيف كانوا يقتلون الرجال على الطريق، ورأيت جثثهم ملقاة على أطراف الشوارع. وصلنا إلى سحماتا فوجدنا أغراض جيش الإنقاذ التي تركوها خلفهم".
يتابع: "أمي كانت تحمل أختي، وكان عمرها شهرين، وكدنا نموت من العطش. على الطريق، رأيت صهيونياً فطلبت منه الماء لأشرب، ركلني، وقال لي: خلِّ الحاج أمين الحسيني يسقيك في لبنان... وفي أثناء سيرنا وصلنا إلى منطقة دير القاسي وأردنا دخولها، لكنّها كانت فارغة من أهلها، فتابعنا سيرنا، لنصل إلى الحدود الواقعة مع لبنان، فتوجهنا إليها ونحن نبكي. وصلنا إلى بلدة رميش اللبنانية، وكدنا نموت من العطش. أطلت علينا ختيارة (امرأة عجوز) فطلبنا منها الماء، لكنّها دلّتنا على بركة نتنة وقالت: اشربوا منها. الأمر نفسه صادفنا في بنت جبيل، إذ صادفنا حاجّة تتشح بالسواد، وطلبت منها المياه، فرفضت تقديمه لي، لكن ما إن سمعت أبي يناديني باسمي: حسين، حتى نادتني، وقدمت لي الماء، وزادته بعدما عرفت أنّ اسم أبي علي".
يستفيض لوباني في سرد ذكرياته: "في بنت جبيل (جنوب) كانت سيارات الشحن بانتظارنا، فركبناها ووصلنا إلى مكان رملي فيه شوادر اتضح لاحقاً أنّها ضواحي مدينة صور (جنوب). ومن هناك ركبنا القطار، باعتبارنا نحظى بأقارب في حلب السورية، فوصلنا إلى مدينة طرابلس (شمال)، لكن رفض السوريون استقبالنا إذ لم يعد باستطاعتهم استقبال المزيد من اللاجئين، صرنا ننام في القطار، والرجال تحته، إلى أن تدخل الصليب الأحمر وبعض الجمعيات الإسلامية، التي قدمت لنا أماكن ننام فيها. وهناك أخبروني أنّ في المكان مدرسة، فذهبت إليها لكنّي اكتشفت أنّها تصل إلى الصف الثالث فقط، وأنا كنت قد أنهيت هذا الصف، فصرت أذهب إلى البحر، لأساعد صياداً بسحب الشختورة (المركب)، فيعطيني بعض السردين، وأركض به لأمي تنظفه وتقليه. كنا نجمع الأعواد ونشعلها لنقلي السردين".
اقــرأ أيضاً
يتابع: "دخلت إلى مدينة طرابلس مع رفاقي، فعملت في فرن، وكنت أحضر يومياً لأبي ربع ليرة مع ربطة خبز، وبقيت في العمل حتى 1950، إلى أن جرى نقلنا إلى مخيم نهر البارد، وعلمت أنّ المدرسة ستفتح أبوابها، فأردت الالتحاق بها، لكنّ والدي ضربني لأنّني سأترك العمل، فأصررت على ذلك، وتابعت تعليمي، إلى أن تخرجت من جامعة بيروت العربية متخصصاً باللغة العربية. لم يكن مجالي في التعليم، لكنّي لم أجد مجالاً مهنياً غيره، وتفوقت فيه. عملت في مدارس وكالة الأونروا في مخيم نهر البارد من عام 1960 حتى 1970، ثم انتقلت إلى الحدث (بالقرب من بيروت) فمكثت هناك حتى بداية الحرب الأهلية، بعدها إلى مخيم مار الياس في بيروت الغربية، حيث شهدت الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982".
في خصوص التأليف، يقول: "بدأت تأليف الكتب في وقت متأخر، عام 1990، مدفوعاً بحبّ التراث الفلسطيني. أول كتاب صدر لي هو الأمثال الفلسطينية، إذ إنّ أهلنا لم يتنبهوا لأهمية أن نجمع التراث الفلسطيني، لكن لم يتبن عملية الطبع أيّ من الفصائل الفلسطينية. ألّفت بعده 22 مجلداً عن التراث، ووصل عدد مجمل أعمالي إلى 46 كتاباً من بينها ترجمات".
يختم حديثه مع "العربي الجديد": "بعد هذه المسيرة الطويلة بتّ على يقين من أنّي سأموت في لبنان، واليوم أوصي زوجتي باختيار مدفني فوق أبي أو فوق أمي".
يروي لوباني لـ"العربي الجديد" سيرة حياته: "ولدت في 15 فبراير/ شباط سنة 1939، في الدامون، جنوب شرقي عكا، وأذكر أننا كنا عندما نستقل الباص من الدامون إلى عكا نحتاج إلى 11 كلم للوصول. بلدتنا قريبة من البحر. ما يميز بلدة الدامون عن غيرها من البلدات الفلسطينية، هي انتفاضتها أو حركتها الاستقلالية في وجه العثمانيين، بالتعاون مع آخرين، وصارت ثورة عامة على العثمانيين (1721)، بقيادة الشيخ ظاهر عمر الزيداني". يضيف: "بلدتنا مشهورة بالزراعة، خصوصاً البطيخ والشمام، وكذلك الذرة والسمسم اللذين ما زلت أذكر كيف كان إنتاجهما يحمل على الجمال ويُحضر إلى البلد، وقد ألفت كتابا يتكلم عن بلدتي، سميته: الدامون... قرية فلسطينية بالبال".
يتابع: "أنا أكبر إخوتي. عندما بدأت أتفتح على الحياة، وجدت أبي يملك 100 رأس ماعز، كما كان لدينا أرانب، ودجاج، وحمام. أمام بيتنا فسحة كبيرة، كانت في آخرها زريبة، فيها ماعز وبعض الغنم، ومعها كلب اسمه عرنوس، وكان ابن عمي الذي كان مراهقاً هو الذي يهتم بها". يواصل حديثه: "عام 1945، دخلت إلى المدرسة. كنت أحب الكتب كثيراً، وكانت المدرسة لا تستقبل إلا من بلغوا السابعة ليكونوا في الصف الأول الأساسي، وكنت ألعب مع ابن الجيران الذي يكبرني بعام واحد، وذهب إلى المدرسة، فصدمت وذهبت مسرعاً إلى أمي، أبكي وأقول لها إنّي أريد الذهاب إلى المدرسة، فأخبرتني بأنّي ما زلت صغيراً، فقلت لها إنّ رفيقي ذهب إلى المدرسة، فأخبرتني أنّه أكبر مني، فقلت لها أنا أكبر، إذ كنت أحسب الكبر بالطول وقد كنت أطول منه فعلاً. أصررت، وللمصادفة فقد كان مدير المدرسة الذي ما زلت أذكر اسمه، وهو شفيق، ينام في بيت المختار الذي هو زوج خالة أمي، كون المدير لم يكن من بلدتنا، فذهبت أمي إلى خالتها وأخبرتها بالأمر، وقال المختار بأنّي صغير، فأدخلوني مستمعاً في الصف الأول، لكن تفوقت على أترابي، وكان اسم معلمي خليل البيطار. في النهاية، خرجت من فلسطين وقد أنهيت الصف الثالث الأساسي".
يروي لوباني عن النكبة: "كانت العصابات الصهيونية تستهدف قريتنا، وكنا نسمع أصوات الرصاص من حيفا، وبعدها بيسان، ومن ثم عكا، لكنّ عكا قاومت، واستمرت بالمقاومة، ومن ثم امتد عدوان الصهاينة إلى القرى المجاورة لتلك المدينة.
جيش الإنقاذ أتى لنجدتنا، لكن لم نكن نملك السلاح المتطور، ولم نكن قد تدربنا على القتال، فالصهاينة معهم أسلحة متطورة، وهم كانوا قد شاركوا بالحرب العالمية الثانية، ولديهم خبرة. بدأت المعارك، وعرف الناس أن البروة سقطت، والبروة أعلى من بلدتنا جغرافياً، وعندها عرفوا أنّ الدور جاء علينا. ظلّ الشبان والرجال يحاربون، وطلبوا منا نحن الأطفال والشيوخ والنساء الخروج من البلدة".
يتابع: "خرجنا من البلدة، وتوجهنا نحو خِلّة الشريف، على مسافة بعيدة، لكنّ القصف اشتد والأوضاع ساءت، فتركنا المكان، وتوجهنا إلى معيار، وهي تقع على تلة عالية، فمكثنا في بستان زيتون وكنا في يوليو/ تموز 1948. في ذلك الوقت، اتفقت النسوة على أن يذهبن إلى البلدة لإحضار بعض الطعام، والملابس إذ لم يكن معنا شيء. ذهبت مع أمي وأول ما فعلته كان إفراغ جرة الماء في وعاء للطيور، كما نثرت حبوب القمح والذرة ليأكل الحمام والدجاج، كما أمنت طعاماً للأرانب، وبينما كانت أمي تحضر أغراضاً بدأ القصف، وخرجنا ركضاً، ولم نعد منذ ذلك اليوم إلى بيتنا. توجهنا نحو سخنين، ونمنا هناك تحت أشجار اللوز والزيتون، ورأينا الملاحف البيضاء منتشرة فوق البيوت دليلاً على الاستسلام، وما إن جاء الصباح حتى طلب منا أهل البلدة الخروج منها، وفعلاً خرجنا ونسيت كيس كتبي معلقاً بشجرة اللوز، وكان فيه المصحف، وكتابا القراءة العربية، والحساب، وصرت أبكي لأنّني نسيته، وأردت العودة لأحضره، لكن كنا قد صرنا بخراج سخنين، ووصلنا إلى نهر سلمة القريب من صفد، وهناك مكثنا فترة، وحاولنا معرفة أخبار البلدة. بقينا في المكان حتى 30 أغسطس/ آب".
يضيف: "عند نهر سلامة، وجدت بعض الفرح، فكنت أخرج مع رفاقي، للبحث عن طعام، وما كنت أجده أعطيه لأمي وأشقائي، وكانت أمي قد وضعت أختي وسمّتها سلمى على اسم نهر سلمة. بعد ذلك طلب منا أهالي سخنين الخروج من خراج بلدتهم حتى، فاجتمع في نقطة معينة جميع أهالي بلدة الدامون، وكان الطقس حينها حاراً جداً، وليس معنا مياه ولا طعام، وقطعنا سيراً على الأقدام جبلاً، فتوجهنا نحو البقيعة، وسكنّا فيها من 31 أغسطس/ آب حتى 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1948، وتلك البلدة فيها دروز ومسيحيون".
يضيف: "لم يكن معنا مال، وليس لدينا طعام وشراب، فكنت يومياً أمشي إلى جيش الإنقاذ الذين كانوا يطبخون الطعام، وأنتظر عندهم حتى يعطوني ما تبقى لديهم، وأعود به لأطعم أشقائي وأمي. بقينا هناك إلى أن مرت طائرتان وبدأتا بالقصف، وشاهدنا جيش الإنقاذ وهو يسير بمحاذاة الطريق منسحباً، إلى أن وصلت الدبابات الصهيونية، وطلبوا عبر منادٍ أن يترك الغرباء عن البقيعة البلدة، وبالفعل تركناها في السادس من نوفمبر، وسمّيت تلك الرحلة برحلة العذاب، ففي أثناء سيرنا شاهدت كيف كانوا يقتلون الرجال على الطريق، ورأيت جثثهم ملقاة على أطراف الشوارع. وصلنا إلى سحماتا فوجدنا أغراض جيش الإنقاذ التي تركوها خلفهم".
يتابع: "أمي كانت تحمل أختي، وكان عمرها شهرين، وكدنا نموت من العطش. على الطريق، رأيت صهيونياً فطلبت منه الماء لأشرب، ركلني، وقال لي: خلِّ الحاج أمين الحسيني يسقيك في لبنان... وفي أثناء سيرنا وصلنا إلى منطقة دير القاسي وأردنا دخولها، لكنّها كانت فارغة من أهلها، فتابعنا سيرنا، لنصل إلى الحدود الواقعة مع لبنان، فتوجهنا إليها ونحن نبكي. وصلنا إلى بلدة رميش اللبنانية، وكدنا نموت من العطش. أطلت علينا ختيارة (امرأة عجوز) فطلبنا منها الماء، لكنّها دلّتنا على بركة نتنة وقالت: اشربوا منها. الأمر نفسه صادفنا في بنت جبيل، إذ صادفنا حاجّة تتشح بالسواد، وطلبت منها المياه، فرفضت تقديمه لي، لكن ما إن سمعت أبي يناديني باسمي: حسين، حتى نادتني، وقدمت لي الماء، وزادته بعدما عرفت أنّ اسم أبي علي".
يستفيض لوباني في سرد ذكرياته: "في بنت جبيل (جنوب) كانت سيارات الشحن بانتظارنا، فركبناها ووصلنا إلى مكان رملي فيه شوادر اتضح لاحقاً أنّها ضواحي مدينة صور (جنوب). ومن هناك ركبنا القطار، باعتبارنا نحظى بأقارب في حلب السورية، فوصلنا إلى مدينة طرابلس (شمال)، لكن رفض السوريون استقبالنا إذ لم يعد باستطاعتهم استقبال المزيد من اللاجئين، صرنا ننام في القطار، والرجال تحته، إلى أن تدخل الصليب الأحمر وبعض الجمعيات الإسلامية، التي قدمت لنا أماكن ننام فيها. وهناك أخبروني أنّ في المكان مدرسة، فذهبت إليها لكنّي اكتشفت أنّها تصل إلى الصف الثالث فقط، وأنا كنت قد أنهيت هذا الصف، فصرت أذهب إلى البحر، لأساعد صياداً بسحب الشختورة (المركب)، فيعطيني بعض السردين، وأركض به لأمي تنظفه وتقليه. كنا نجمع الأعواد ونشعلها لنقلي السردين".
يتابع: "دخلت إلى مدينة طرابلس مع رفاقي، فعملت في فرن، وكنت أحضر يومياً لأبي ربع ليرة مع ربطة خبز، وبقيت في العمل حتى 1950، إلى أن جرى نقلنا إلى مخيم نهر البارد، وعلمت أنّ المدرسة ستفتح أبوابها، فأردت الالتحاق بها، لكنّ والدي ضربني لأنّني سأترك العمل، فأصررت على ذلك، وتابعت تعليمي، إلى أن تخرجت من جامعة بيروت العربية متخصصاً باللغة العربية. لم يكن مجالي في التعليم، لكنّي لم أجد مجالاً مهنياً غيره، وتفوقت فيه. عملت في مدارس وكالة الأونروا في مخيم نهر البارد من عام 1960 حتى 1970، ثم انتقلت إلى الحدث (بالقرب من بيروت) فمكثت هناك حتى بداية الحرب الأهلية، بعدها إلى مخيم مار الياس في بيروت الغربية، حيث شهدت الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982".
في خصوص التأليف، يقول: "بدأت تأليف الكتب في وقت متأخر، عام 1990، مدفوعاً بحبّ التراث الفلسطيني. أول كتاب صدر لي هو الأمثال الفلسطينية، إذ إنّ أهلنا لم يتنبهوا لأهمية أن نجمع التراث الفلسطيني، لكن لم يتبن عملية الطبع أيّ من الفصائل الفلسطينية. ألّفت بعده 22 مجلداً عن التراث، ووصل عدد مجمل أعمالي إلى 46 كتاباً من بينها ترجمات".
يختم حديثه مع "العربي الجديد": "بعد هذه المسيرة الطويلة بتّ على يقين من أنّي سأموت في لبنان، واليوم أوصي زوجتي باختيار مدفني فوق أبي أو فوق أمي".