حشد شعبيّ في العراق بتدخُّلٍ سياسيّ
أراز محمد أراش
تشكلت وحدات الحشد الشعبي في العراق سنة 2014، إثر فتوى من المرجع الديني الأعلى، علي السيستاني، ووعدت بصد تقدم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق (داعش). ولكن التنامي السريع لدور هذا التحالف العسكري، المتميز بمكونه الشيعي القوي (ما يقرنه بتدخل إيراني إضافي بشؤون العراق) ليس موضع إجماع، فبعد أن هزم تنظيم الدولة الإسلامية رسمياً في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أضحى مستقبل الحشد الشعبي موضوع جميع المناظرات. ما يفرض العودة إلى نشأة هذه القوة والعلاقات المعقدة بين مكوناتها والدولة العراقية والجوار الإيراني، سعياً إلى استشراف ملامح عراق الغد، خصوصاً بالنسبة إلى الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في مايو/ أيار المقبل.
تنظيم أرقط
بعد أن استُخدمت من كلّ من صدام حسين والإدارة الأميركية وإيران. قامت الطائفية بتهييج التوترات بين الجماعتين الأساسيتين في العراق، العرب السنة والشيعة، الذين وجدوا أنفسهم في لعبة الشرق الأوسط، حيث تتواجه القوى الإقليمية والعالمية. وأخذت المؤسسات العراقية تضعف، كلما ازداد هذا التوتر، وبلغ ذروته، حين قامت خلافة إسلامية على ما يزيد عن ثلث الأراضي العراقية. وفي هذا السياق، أصدر المرجع علي السيستاني فتواه، مع العلم أن تشكيل مليشيات عسكرية محظور في الدستور العراقي وفق المادة التاسعة، وأن رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، قدم مرسوماً يسمح بتشكيلها وأقرّه في البرلمان. وكانت الفتوى في 13 يونيو/ حزيران 2014. أي بعد بضعة أيام من سقوط الموصل في قبضة تنظيم داعش، وعشية وقوع مجزرة قاعدة سبايكر التي أعدم فيها جهاديون أكثر من 1600 شيعي. استجابت عدة مليشيات شيعية لهذا النداء سريعاً. وبالتوازي، انضمت أعداد غفيرة من المتطوعين إلى الفصائل المختلفة.
تعد منظمة بدر من الوحدات الأساسية في الحشد الشعبي، بالإضافة إلى عصائب أهل الحق، وسرايا الخرساني، وحركة حزب الله النجباء، وسرايا حزب الله. والأخيران يختلفان عن حزب الله في لبنان، على الرغم من التقارب الأيديولوجي. وتعتمد جميع هذه المليشيات، التي هي من أهم القوات العسكرية في الحشد الشعبي، على القوات العسكرية الإيرانية لتدريبها وتمويلها. ولجميعها أيديولوجية "خمينية"، بحكم لوائها للكيانات الدينية الإيرانية، ورغبتها المعلنة، أو شبه المعلنة، بتطبيق النظام السياسي الإيراني في العراق، أي ولاية الفقيه، المستوحى من فقه الشيعية الاثني عشرية. ويتجلى تأثير إيران بوضوح أكبر في شخص اللواء في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي يشرف، بشكل مباشر، على العمليات العسكرية لعدة مليشيات شيعية في العراق وسورية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
خلف هذه القوات، يأتي لواء العباس، ولواء علي الأكبر، وكلاهما تابعان لآية الله السيستاني، وممولان ومسلحان ومدربان من القوات العراقية. كما أنهما جماعتان متعددتا الطوائف، حيث تضم صفوفهما من 15% إلى 20% من السنة. تليها الوحدات القريبة من الزعيم الشيعي مقتضى الصدر، وفي مقدمتها سرايا السلام. يتسم التيار الصدري برؤية دينية شيعية قريبة من التصوف، وبرغبة في تعزيز القوة المركزية والمؤسسات العراقية عن طريق ضم المكونات الأخرى في البلد. ويعطي هذا الطيف فكرة عن الاختلافات الأيديولوجية بين الجماعات المؤلفة للحشد الشعبي، فبين التيارين، الموالي لإيران والصدري، تتقابل رؤى متناقضة، ويصل الأمر أحياناً إلى المواجهات المباشرة.
رهان الوحدة الوطنية
كانت السلطات العراقية واعية أن قوات الحشد الشعبي لم تكن تمثل مكونات العراق الأخرى بشكل كافٍ، لذا حثّت عدة مليشيات غير شيعية على الانضمام إلى التحالف. ومن بينها المليشيا المسيحية حركة بابليون، ووحدات حماية سهل نينوى وكتائب صلاح الدين والحشد القبلي وثلاثتها من السنة. وهناك فصائل تمثل أصغر الأقليات، كاليزيديين (وحدات مقاومة سنجار) والشبك (لواء الشبك). وفي المجمل، ما زال الحشد الشعبي يضم في صفوفه قرابة التسعين ألف مقاتل حالياً، موزعين على الوحدات المختلفة، بحسب ما قاله لكاتبي هذه الورقة، نائب قائد وحدات الحشد الشعبي على جبهة شمال العراق.
على الرغم من الاتهامات العديدة الموجهة إلى الحشد الشعبي بانتهاك حقوق الإنسان، وحتى جرائم الحرب، فإن فعاليته العالية دفعت التحالف الدولي (قوة المهام المشتركة) الذي تقوده الولايات المتحدة، ويلتزم محاربة "الدولة الإسلامية"، إلى تدريب عدة مليشيات، وتسليحها وتمويلها، بالتوازي مع إعادة هيكلة الجيش العراقي. وبسبب الفراغ السياسي العسكري الذي تركته السلطة المركزية، سرعان ما أصبحت قوات الحشد الشعبي قوة الضرب العسكرية الأولى على الأرض ضد الجهاديين، وإن دفع هذا إلى التساؤل جديا بشأن علاقتها مع الدولة. في الواقع، وفق تعريف ماكس فيبر للدولة، فإن عليها أن تستأثر باستخدام القوة. وبالتالي، فإن تنظيماً شبه حربي، مكوناً من فصائل لدى بعضها طموحات عابرة للقومية، قد تهدّد بشكل فعلي وحدة الدولة العراقية وتلاحمها، بعد أن أضعفهما الغزو الأميركي سابقاً. كما أن طائفية بعض المجموعات وعلاقتها الغامضة بإيران أقلقت مراقبين عديدين.
على الرغم من ذلك، سمح انتخاب حيدر العبادي، الذي تولى منصب رئيس الوزراء في سبتمبر/ أيلول 2014، بتعزيز مؤسسات البلد، ودحض التوقعات بتفجر الوضع في العراق، لا بل حتى بإعادة رسم حدود الشرق الأوسط. وكان إصدار مرسوم بضم وحدات الحشد الشعبي إلى الجيش العراقي رغبة واضحة من العبادي في استعادة السيطرة عسكرياً، وفي جعل الحملة ضد "الدولة الإسلامية" حملةً عسكريةً وطنيةً، لا حرباً بين الطوائف، إلا أن هذا الولاء على الواجهة لا يمنع بعض الوحدات، وخصوصاً التي تتعاون مع إيران، من انتهاز جميع الفرص لإثبات استقلالها، وأن تحاول التحرّر من وصاية الحكومة بشتى السبل.
تسريح ومصالحة
تدرك حكومة العبادي والهيئات الدينية الشيعية (المتابعة من عدة أطراف فاعلة مثل مقتضى الصدر) مخاطر بقاء المليشيات، بعد انتهاء فترة انتدابها، والتي حددت بالانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية. ولهذا أصرّت على تسليم جميع المليشيات أسلحتها بمجرد دحر الجهاديين... لكن من دون نتائج حاسمة إلى حد اللحظة. ولم يخفف النصر الذي أعلن في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي من رغبة المليشيات من العمل بحرية على الأراضي العراقية، بحجة وجود خلايا نائمة، وظهور تنظيمات إرهابية جديدة. وأكد للكاتبين نائب قائد جبهة الشمال العراقي في الحشد الشعبي، مصطفى إمامي، أن لا شيء يلزم المليشيات بحل أنفسها سوى فتوى جديدة من المرجع الديني الأعلى. غير أن هذا الرأي لا يحظى بإجماع ضمن الحشد الشعبي. فقد قال علي الناطق الرسمي باسم الحشد في طوزخورماتو، سيد على هاشمي، لنا إن تقرير مصير الحشد بيد البرلمان العراقي. مع أن كلا الناطقين الرسميين من المليشيا نفسها، منظمة بدر. كما أن لديهما آراء متعارضة جداً حول الخطر الذي يمثله تنظيم "الرايات البيض"، حيث يرى الأول أنه من أهم التهديدات، ويعتبره الثاني غير خطر. وقد ظهر هذا التنظيم في نواحي طوزخورماتو بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وتتضارب الآراء حول التهديد الذي يمثله.
عدا عن ذلك، تريد عدة مليشيات، قبل أن تسلم تجهيزاتها للحكومة، أن تضمن إمكانية إدماج رجالها في القوات النظامية، أو الحصول على معاشات للمقاتلين السابقين إذا قرروا العودة إلى الحياة المدنية. من المؤكد أن تأمين تعويضات وانتهاج سياسة إدماجٍ جدية مسألتان ضروريتان، لتجنب سيناريو كارثيّ كالذي أدى إلى الحرب الأهلية بعد الغزو الأميركي في 2003. إنَّ نزع سلاحِ رجال المليشيات وتسريحِهم وإعادة إدماجهم رهانات جوهرية في انتظار عراق الغد، وعليها أن تترافق مع سياسةٍ مُصالحةٍ وطنيةٍ، وبآليات قضائية في حال خروق واضحة لحقوق الإنسان. فقد أدى فشل عملية كهذه، بين عامي 2004 و2005 إلى مواجهاتٍ داميةٍ، وسَمَت العراق خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية.
السياسة استمرار للحرب
ما زالت بعض المليشيات (مدعومة من أحزاب سياسة نافذة) تحاول التدخل في السياسة الداخلية للبلاد لتضمن بقاءها، وهي الاستراتيجية نفسها التي اتبعتها عام 2014 عن طريق تعيين وزير داخلية يخدم مصالحها. ويتطلع الحشد الشعبي منذ الآن إلى الانتخابات البرلمانية المقرَّر إجراؤها في 12 مايو/ أيار المقبل. من وجهة نظر قانونية، لا يحق للمليشيات تقديم مرشحين، ولهذا استقال عديدون من قادتهم ممن لديهم طموحات سياسية ليتمكنوا من المشاركة في الانتخابات، مشكلين، في الوقت نفسه، تحالفاً سياسياً كبيراً من "المجاهدين" بحسب وصفهم، لديه حظوظ كبيرة في أن يكون له وزن في البرلمان. "ينتظر الحشد الشعبي أن يعرف في أي اتجاه ستهب الرياح، ليتحالفوا مع المرشح الذي يملك الحظ الأكبر لتمثيلهم في البرلمان".. هذا ما شرحه لنا الخبير والباحث في معهد الاستجابة للشؤون الإنسانية والصراعات، ديلان أودريسكول.
وبالفعل، هناك محاولات حثيثة من بعض الأطراف للتدخل في سياسة تعزيز المؤسسات المركزية التي تبنّاها رئيس الوزراء، حيدر العبادي. حتى ضمن حزبه حركة الدعوة، فرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي (يعتبره كثيرون مسؤولاً عن تفاقم التوترات الطائفية الذي أدى إلى كارثة 2014) يحظى بدعم مليشيا عصائب الحق في مواجهة خصمه. يتكئ المالكي أيضاً على شبكة محسوبياتٍ واسعة، تتميز بفسادها وطائفيتها. وفي أثناء هذا، يطالب السنة الذين تشتتوا بسبب المعارك التي دارت في مناطقهم، بتأجيل الانتخابات ليتاح للنازحين المشاركة فيها. كما يرجو بعض ممثليهم أن يقوم العبادي بتقسيم حزب الدعوة إلى حزبين، لينضما إليه في حزبٍ متعدّد الطوائف حقاً.
ومنذ أشهر، تتشكل التحالفات السياسية وتتفكك بشكل دوري، وتنتج عن هذا أوضاع لم تكن بالحسبان: يتواجه قائدان من الحزب نفسه بقائمتين مختلفتين، وتتحالف حركات شيعية محافظة مع شيوعيين.. ومن المفارقات أن ائتلاف حيدر العبادي، الذي تنادي حملته الانتخابية بتمثيل جميع أطياف المجتمع العراقي وبالسيادة والسعي إلى تحقيق العدالة ومحاربة الفساد، حظي أخيرا بدعم الائتلاف الرئيسي للمجاهدين، ما أثار كدر مقتضى الصدر. ولكن هذا التحالف لم يدم أكثر من ثلاثة أيام، وأظهر حدود شعبية العبادي. وبالنظر إلى هذه المعطيات، يبقى السؤال عمّا إذا كان اقتران مجموعات ضغط الميلشيات بالسياسيين، سيكون في صالح إدماجهم في المؤسسات العراقية، العسكرية خصوصاً، أم على العكس، سيسفر عن جعل هذه المؤسسات أداةً بيد أطرافٍ تعمل تحت تأثير الخارج.
الحشد الشعبي هو الآن قطعة مركزية على الرقعة السياسية العراقية، وهو أكثر مركزيةً حتى في صراع القوى بين الأطراف السياسية الشيعية، فالمنتصر في هذه المكاسرة سيتمكن من رسم مسار تطور عراق ما بعد "الدولة الإسلامية"، أي سيحدّد ما إن كان هذا البلد الذي أنهكته الضربات سيبقي على الانقسامات الطائفية التي يتسم بها اليوم. أم أنه، على العكس، سينجح في حلّ مليشياته الطائفية، وتعزيز مؤسساته، بحيث تضم الجميع. ويبدو واضحاً أن الوقوف في وجه التدخلات الخارجية هو الخطوة الأولى نحو خاتمةٍ كهذه.
ترجمة مي رستم
تنظيم أرقط
بعد أن استُخدمت من كلّ من صدام حسين والإدارة الأميركية وإيران. قامت الطائفية بتهييج التوترات بين الجماعتين الأساسيتين في العراق، العرب السنة والشيعة، الذين وجدوا أنفسهم في لعبة الشرق الأوسط، حيث تتواجه القوى الإقليمية والعالمية. وأخذت المؤسسات العراقية تضعف، كلما ازداد هذا التوتر، وبلغ ذروته، حين قامت خلافة إسلامية على ما يزيد عن ثلث الأراضي العراقية. وفي هذا السياق، أصدر المرجع علي السيستاني فتواه، مع العلم أن تشكيل مليشيات عسكرية محظور في الدستور العراقي وفق المادة التاسعة، وأن رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، قدم مرسوماً يسمح بتشكيلها وأقرّه في البرلمان. وكانت الفتوى في 13 يونيو/ حزيران 2014. أي بعد بضعة أيام من سقوط الموصل في قبضة تنظيم داعش، وعشية وقوع مجزرة قاعدة سبايكر التي أعدم فيها جهاديون أكثر من 1600 شيعي. استجابت عدة مليشيات شيعية لهذا النداء سريعاً. وبالتوازي، انضمت أعداد غفيرة من المتطوعين إلى الفصائل المختلفة.
تعد منظمة بدر من الوحدات الأساسية في الحشد الشعبي، بالإضافة إلى عصائب أهل الحق، وسرايا الخرساني، وحركة حزب الله النجباء، وسرايا حزب الله. والأخيران يختلفان عن حزب الله في لبنان، على الرغم من التقارب الأيديولوجي. وتعتمد جميع هذه المليشيات، التي هي من أهم القوات العسكرية في الحشد الشعبي، على القوات العسكرية الإيرانية لتدريبها وتمويلها. ولجميعها أيديولوجية "خمينية"، بحكم لوائها للكيانات الدينية الإيرانية، ورغبتها المعلنة، أو شبه المعلنة، بتطبيق النظام السياسي الإيراني في العراق، أي ولاية الفقيه، المستوحى من فقه الشيعية الاثني عشرية. ويتجلى تأثير إيران بوضوح أكبر في شخص اللواء في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي يشرف، بشكل مباشر، على العمليات العسكرية لعدة مليشيات شيعية في العراق وسورية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
خلف هذه القوات، يأتي لواء العباس، ولواء علي الأكبر، وكلاهما تابعان لآية الله السيستاني، وممولان ومسلحان ومدربان من القوات العراقية. كما أنهما جماعتان متعددتا الطوائف، حيث تضم صفوفهما من 15% إلى 20% من السنة. تليها الوحدات القريبة من الزعيم الشيعي مقتضى الصدر، وفي مقدمتها سرايا السلام. يتسم التيار الصدري برؤية دينية شيعية قريبة من التصوف، وبرغبة في تعزيز القوة المركزية والمؤسسات العراقية عن طريق ضم المكونات الأخرى في البلد. ويعطي هذا الطيف فكرة عن الاختلافات الأيديولوجية بين الجماعات المؤلفة للحشد الشعبي، فبين التيارين، الموالي لإيران والصدري، تتقابل رؤى متناقضة، ويصل الأمر أحياناً إلى المواجهات المباشرة.
رهان الوحدة الوطنية
كانت السلطات العراقية واعية أن قوات الحشد الشعبي لم تكن تمثل مكونات العراق الأخرى بشكل كافٍ، لذا حثّت عدة مليشيات غير شيعية على الانضمام إلى التحالف. ومن بينها المليشيا المسيحية حركة بابليون، ووحدات حماية سهل نينوى وكتائب صلاح الدين والحشد القبلي وثلاثتها من السنة. وهناك فصائل تمثل أصغر الأقليات، كاليزيديين (وحدات مقاومة سنجار) والشبك (لواء الشبك). وفي المجمل، ما زال الحشد الشعبي يضم في صفوفه قرابة التسعين ألف مقاتل حالياً، موزعين على الوحدات المختلفة، بحسب ما قاله لكاتبي هذه الورقة، نائب قائد وحدات الحشد الشعبي على جبهة شمال العراق.
على الرغم من الاتهامات العديدة الموجهة إلى الحشد الشعبي بانتهاك حقوق الإنسان، وحتى جرائم الحرب، فإن فعاليته العالية دفعت التحالف الدولي (قوة المهام المشتركة) الذي تقوده الولايات المتحدة، ويلتزم محاربة "الدولة الإسلامية"، إلى تدريب عدة مليشيات، وتسليحها وتمويلها، بالتوازي مع إعادة هيكلة الجيش العراقي. وبسبب الفراغ السياسي العسكري الذي تركته السلطة المركزية، سرعان ما أصبحت قوات الحشد الشعبي قوة الضرب العسكرية الأولى على الأرض ضد الجهاديين، وإن دفع هذا إلى التساؤل جديا بشأن علاقتها مع الدولة. في الواقع، وفق تعريف ماكس فيبر للدولة، فإن عليها أن تستأثر باستخدام القوة. وبالتالي، فإن تنظيماً شبه حربي، مكوناً من فصائل لدى بعضها طموحات عابرة للقومية، قد تهدّد بشكل فعلي وحدة الدولة العراقية وتلاحمها، بعد أن أضعفهما الغزو الأميركي سابقاً. كما أن طائفية بعض المجموعات وعلاقتها الغامضة بإيران أقلقت مراقبين عديدين.
على الرغم من ذلك، سمح انتخاب حيدر العبادي، الذي تولى منصب رئيس الوزراء في سبتمبر/ أيلول 2014، بتعزيز مؤسسات البلد، ودحض التوقعات بتفجر الوضع في العراق، لا بل حتى بإعادة رسم حدود الشرق الأوسط. وكان إصدار مرسوم بضم وحدات الحشد الشعبي إلى الجيش العراقي رغبة واضحة من العبادي في استعادة السيطرة عسكرياً، وفي جعل الحملة ضد "الدولة الإسلامية" حملةً عسكريةً وطنيةً، لا حرباً بين الطوائف، إلا أن هذا الولاء على الواجهة لا يمنع بعض الوحدات، وخصوصاً التي تتعاون مع إيران، من انتهاز جميع الفرص لإثبات استقلالها، وأن تحاول التحرّر من وصاية الحكومة بشتى السبل.
تسريح ومصالحة
تدرك حكومة العبادي والهيئات الدينية الشيعية (المتابعة من عدة أطراف فاعلة مثل مقتضى الصدر) مخاطر بقاء المليشيات، بعد انتهاء فترة انتدابها، والتي حددت بالانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية. ولهذا أصرّت على تسليم جميع المليشيات أسلحتها بمجرد دحر الجهاديين... لكن من دون نتائج حاسمة إلى حد اللحظة. ولم يخفف النصر الذي أعلن في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي من رغبة المليشيات من العمل بحرية على الأراضي العراقية، بحجة وجود خلايا نائمة، وظهور تنظيمات إرهابية جديدة. وأكد للكاتبين نائب قائد جبهة الشمال العراقي في الحشد الشعبي، مصطفى إمامي، أن لا شيء يلزم المليشيات بحل أنفسها سوى فتوى جديدة من المرجع الديني الأعلى. غير أن هذا الرأي لا يحظى بإجماع ضمن الحشد الشعبي. فقد قال علي الناطق الرسمي باسم الحشد في طوزخورماتو، سيد على هاشمي، لنا إن تقرير مصير الحشد بيد البرلمان العراقي. مع أن كلا الناطقين الرسميين من المليشيا نفسها، منظمة بدر. كما أن لديهما آراء متعارضة جداً حول الخطر الذي يمثله تنظيم "الرايات البيض"، حيث يرى الأول أنه من أهم التهديدات، ويعتبره الثاني غير خطر. وقد ظهر هذا التنظيم في نواحي طوزخورماتو بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وتتضارب الآراء حول التهديد الذي يمثله.
عدا عن ذلك، تريد عدة مليشيات، قبل أن تسلم تجهيزاتها للحكومة، أن تضمن إمكانية إدماج رجالها في القوات النظامية، أو الحصول على معاشات للمقاتلين السابقين إذا قرروا العودة إلى الحياة المدنية. من المؤكد أن تأمين تعويضات وانتهاج سياسة إدماجٍ جدية مسألتان ضروريتان، لتجنب سيناريو كارثيّ كالذي أدى إلى الحرب الأهلية بعد الغزو الأميركي في 2003. إنَّ نزع سلاحِ رجال المليشيات وتسريحِهم وإعادة إدماجهم رهانات جوهرية في انتظار عراق الغد، وعليها أن تترافق مع سياسةٍ مُصالحةٍ وطنيةٍ، وبآليات قضائية في حال خروق واضحة لحقوق الإنسان. فقد أدى فشل عملية كهذه، بين عامي 2004 و2005 إلى مواجهاتٍ داميةٍ، وسَمَت العراق خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية.
السياسة استمرار للحرب
ما زالت بعض المليشيات (مدعومة من أحزاب سياسة نافذة) تحاول التدخل في السياسة الداخلية للبلاد لتضمن بقاءها، وهي الاستراتيجية نفسها التي اتبعتها عام 2014 عن طريق تعيين وزير داخلية يخدم مصالحها. ويتطلع الحشد الشعبي منذ الآن إلى الانتخابات البرلمانية المقرَّر إجراؤها في 12 مايو/ أيار المقبل. من وجهة نظر قانونية، لا يحق للمليشيات تقديم مرشحين، ولهذا استقال عديدون من قادتهم ممن لديهم طموحات سياسية ليتمكنوا من المشاركة في الانتخابات، مشكلين، في الوقت نفسه، تحالفاً سياسياً كبيراً من "المجاهدين" بحسب وصفهم، لديه حظوظ كبيرة في أن يكون له وزن في البرلمان. "ينتظر الحشد الشعبي أن يعرف في أي اتجاه ستهب الرياح، ليتحالفوا مع المرشح الذي يملك الحظ الأكبر لتمثيلهم في البرلمان".. هذا ما شرحه لنا الخبير والباحث في معهد الاستجابة للشؤون الإنسانية والصراعات، ديلان أودريسكول.
وبالفعل، هناك محاولات حثيثة من بعض الأطراف للتدخل في سياسة تعزيز المؤسسات المركزية التي تبنّاها رئيس الوزراء، حيدر العبادي. حتى ضمن حزبه حركة الدعوة، فرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي (يعتبره كثيرون مسؤولاً عن تفاقم التوترات الطائفية الذي أدى إلى كارثة 2014) يحظى بدعم مليشيا عصائب الحق في مواجهة خصمه. يتكئ المالكي أيضاً على شبكة محسوبياتٍ واسعة، تتميز بفسادها وطائفيتها. وفي أثناء هذا، يطالب السنة الذين تشتتوا بسبب المعارك التي دارت في مناطقهم، بتأجيل الانتخابات ليتاح للنازحين المشاركة فيها. كما يرجو بعض ممثليهم أن يقوم العبادي بتقسيم حزب الدعوة إلى حزبين، لينضما إليه في حزبٍ متعدّد الطوائف حقاً.
ومنذ أشهر، تتشكل التحالفات السياسية وتتفكك بشكل دوري، وتنتج عن هذا أوضاع لم تكن بالحسبان: يتواجه قائدان من الحزب نفسه بقائمتين مختلفتين، وتتحالف حركات شيعية محافظة مع شيوعيين.. ومن المفارقات أن ائتلاف حيدر العبادي، الذي تنادي حملته الانتخابية بتمثيل جميع أطياف المجتمع العراقي وبالسيادة والسعي إلى تحقيق العدالة ومحاربة الفساد، حظي أخيرا بدعم الائتلاف الرئيسي للمجاهدين، ما أثار كدر مقتضى الصدر. ولكن هذا التحالف لم يدم أكثر من ثلاثة أيام، وأظهر حدود شعبية العبادي. وبالنظر إلى هذه المعطيات، يبقى السؤال عمّا إذا كان اقتران مجموعات ضغط الميلشيات بالسياسيين، سيكون في صالح إدماجهم في المؤسسات العراقية، العسكرية خصوصاً، أم على العكس، سيسفر عن جعل هذه المؤسسات أداةً بيد أطرافٍ تعمل تحت تأثير الخارج.
الحشد الشعبي هو الآن قطعة مركزية على الرقعة السياسية العراقية، وهو أكثر مركزيةً حتى في صراع القوى بين الأطراف السياسية الشيعية، فالمنتصر في هذه المكاسرة سيتمكن من رسم مسار تطور عراق ما بعد "الدولة الإسلامية"، أي سيحدّد ما إن كان هذا البلد الذي أنهكته الضربات سيبقي على الانقسامات الطائفية التي يتسم بها اليوم. أم أنه، على العكس، سينجح في حلّ مليشياته الطائفية، وتعزيز مؤسساته، بحيث تضم الجميع. ويبدو واضحاً أن الوقوف في وجه التدخلات الخارجية هو الخطوة الأولى نحو خاتمةٍ كهذه.
ترجمة مي رستم
دلالات