يعمل الواحد في حصاد الفجل والبندورة، على سطح البَرّ الفَلَمَاني، ويشكر بلجيكا "العميقة" على أنها "أتاحت له هذه الفرصة".
يعمل الواحد، وبعد أسبوعين، قُل ثلاثة، يتذكر الـ 22 عاماً التي صرَفَها، زمان، في حصاد الخبز المُرّ، هناك على سطح وباطن "البر الصهيوني".
هناك إذ كان يشتغل في مزارع العجول، في البناء، في مصانع الحلويات، في الزراعة البدائية والمتقدمة، في وفي .. ومع ذلك، لم يفكر مرة بشكرهم، كما كان يُطلبُ من أهله المُستضافين لثوان في الإذاعة إيّاها، لأنهم "أتاحوا له هذه الفرصة".
والخلاصة؟
الخلاصة من هذا البَرّ وذاك البَرّ وما بينهما من مشتبهات، هو أن كل أرباب العمل، في أربعة أركان الكوكب، قارئون على إله واحد، هو إله الربح (وهل ثمة من إلهٍ غيرُهُ هنا وهناك وهنالك؟).
زمان، كان الواحد ينام كالقتيل بعد انتهاء يوم العمل في يافا. واليوم، ها هو يكرر التجربة، في بروخِم، مع فارق استراتيجي:
لقد مرّت بين الزمنين مياه كثيرة تحت الجسر (أتكون طوفانات ونحن سادرون في الغفلة؟)، وتضاعف عدد سكان العالم، واستهلاك الطاقة، وتسيّدت الرواية العربية على سواها، وزالت إمبراطورية العمّال، بأمجادها الرفاقيّة، واختلّت جميع الموازين، إلخ.
والجسم كان، أثناء كل تلك التغيّرات (التي تفيض عن قدرة استيعاب كائن فرد)، لسبب ما، قد شَبّ ونضجَ واكتهلَ وشابَ.
وما كان يتحمله ذاك الجسم في أطواره المتعددة، لا يتحمله جسم الشيخ، الآن، إلا عناداً ومكابرة.
حتى لو كان هذا الشيخ ابن مستورين، في البدء والمنتهى، وينتسب إلى الجنس البشري، بدءاً ومنتهىً، لا محالة.
هذا الجنس المعروف، كما لا تعلم الثدييات الأخرى، بمرونته المورفولوجية والفسيولوجية والمعرفية الكبيرة، وبسببٍ من كل هذه المزايا الفارقة، فإنه، من بين جميع الكائنات الحيّة، يظل الكائن الأكثر تكيفاً ومقاومةً وخبثاً على وجه الأرض.
حتى لو كان.
ذلك أن علماء عصرنا الأشاوس: عصر ما وراء الإنسانية، عصر التلاعب الجيني، والرقميات، وحقوق الروبوت والذكاء الاصطناعي، لم يكتشفوا بعد تقنيات جديدة لمعالجة الشيخوخة وتحسين حياتها وإطالة عمرها، بحيث تكون قادرة يومياً على حصاد أطنان من الفجل الأبيض والأسود: فجل بلجيكا الغريب العجيب، والذي له مظهر قذائف الدبابات، بشكله الأسطواني، وبوزنه، البالغ أحياناً سبعة كيلوغرامات للفجلة.
والخلاصة؟
الخلاصة أن الواحد يأتي إلى أرض ليست له، ويظنها "أرض الألدورادو"، فإذا هي تتكشّف عن فجل عميم. يأتي، أعانه الله، وفي نيته إعادة بناء نفسه وإعالة آخرين. يكون متحمساً في البداية، لكنه بمرور الأيام والسنوات والعمر، يعرف في أبعد نقطة من نفسه ـ حتى لو كابر وتظاهر بغير ذلك ـ أنه لم ولن يستوعب حالته الجديدة أبداً.
حتى أن الواحد يعرف مغتربين، لم يكونوا يوماً لاجئين، ومع ذلك لم يبرحهم الشعور اليومي بالاقتلاع، رغم مرور نصف قرن على تواجدهم هنا. وعليه، يبقى اللاجئ معرضاً لموجات من الأسى إزاء عدم وجود وظيفة، ومواجهة تحيّزات محتملة وحتى مناخ مختلف.
اللهم يَسّر وأَعِن.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا