تتواصل المعارك العنيفة بين عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وقوات النظام السوري في محيط جبل الشاعر ومنطقة جحار، في ريف حمص الشرقي، منذ أسبوعٍ ونيّف، بسبب محاولات التنظيم استعادة السيطرة على حقلي الشاعر وجحار، وذلك بعد نحو أسبوعين من إحكام النظام سيطرته على الحقلين. وتعتبر هذه المرة الثالثة التي يحاول فيها التنظيم، السيطرة على تلك المنطقة الاستراتيجية في غضون أربعة أشهر، والتي تضمّ حقل الشاعر للغاز وعدداً من آبار النفط في الريف الشرقي لمدينة حمص.
ويستميت كل من النظام و"داعش" من أجل السيطرة على حقل الشاعر، الذي يتمتع بأهميّة استراتيجيّة كبرى، تجعل من فقدان النظام السيطرة عليه، ضربة موجعة له على أكثر من صعيد، حتى أنها قد تسهم في تغيير موازين القوى في سورية.
ويشكل حقل الشاعر لإنتاج الغاز الطبيعي، وما حوله من آبار نفط، المورد الوحيد للنفط والغاز للنظام، بعد أن فقد السيطرة على كل حقول النفط والغاز في المنطقة الشرقيّة. وما يزيد من أزمة النظام لناحية تأمين احتياجاته النفطيّة، الأنباء التي تتحدّث عن وقف إيران تقديم مساعداتها النفطيّة، فضلاً عن رفض روسيا منحه قرضاً بمليار دولار.
وستقود هذه العوامل مجتمعة، بشكل أو بآخر، إلى أزمة وقود خانقة قد تصيب النظام السوري، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى توقف آلياته العسكريّة وطائراته عن العمل، في حال تمكن التنظيم من استعادة السيطرة على الحقل. وبمعنى آخر، فإنّ استعادة التنظيم السيطرة على حقل الشاعر يمثّل ضربة للقوة العسكريّة للنظام، وبالتالي قلب موازين المعركة على الأرض على المدى الطويل.
من الناحية الجيواستراتيجيّة، يُعدّ جبل الشاعر منطقة حيويّة في ريف حمص الشرقي، ويبعد عن مركز المدينة نحو 120 كيلومتراً. وتكمن الأهمية الكبرى لهذه المنطقة، في احتوائها على أحد أكبر وأهم حقول الغاز بالنسبة إلى النظام في سورية، إذ يضم محطة تضخّ الغاز لحقل حيان في منطقة الفرقلس، الذي يغذّي بدوره منطقة الساحل والمنطقة الجنوبيّة، إضافة إلى احتوائه عدداً من آبار النفط أيضاً.
وانطلاقاً من أهميّة هذه المنطقة الحيويّة، أرسل النظام عقب استعادته السيطرة عليها في المرة السابقة، تعزيزات عسكريّة ضخمة من الجنود والعتاد، حوّلتها إلى ما يشبه ثكنة عسكريّة كبيرة، نتيجة خشيته من التفاف عناصر "داعش" من جديد ومحاولتها استعادة السيطرة على الحقل، وهو ما حصل بالفعل. وعلى الرغم من كل تلك التعزيزات والحشود العسكرية، استطاع التنظيم في هجوم مباغت، السيطرة مجدداً على الحقل لـ24 ساعة، فضلاً عن اقتحامه عدداً من الحواجز المحيطة بالحقل وتدمير رتل عسكري لقوات النظام، كان في طريقه لمساندة بقيّة الحواجز في المنطقة.
اقتصادياً، يمثل حقل الشاعر للغاز، مصدراً استراتيجياً للطاقة، وخصوصاً إنتاج الكهرباء، لا سيّما أنّ أكثر المناطق الموالية له في حمص وريفها واللاذقية وطرطوس والمنطقة الجنوبية، تعتمد بشكل مباشر على إمدادات هذا الحقل لتشغيل محطات الكهرباء في تلك المدن.
ويُقدّر إنتاج حقل الشاعر من الغاز الطبيعي بنحو ثلاثة ملايين متر مكعب يومياً، كما يوجد في الحقل مضخّة أو مصفاة أساسيّة للغاز، تضخّ يومياً نحو 205 ملايين متر مكعب من الغاز، ومضخّة أخرى احتياطيّة قادرة على ضخّ ما يقارب ستة ملايين متر مكعب من الغاز يومياً.
ويضمّ حقل الشاعر الموجود على جبل الشاعر، الذي يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر 1279 متراً، أنبوباً لنقل الغاز، بطول 77 كيلومتراً، يغذّي الشبكة الوطنيّة للغاز، المسؤولة عن إنتاج الكهرباء في سورية. وسيحتّم هذا الأمر على النظام، العمل على المحافظة على الحقل والاستماتة من أجل عدم عودته إلى يد مقاتلي "داعش"، مهما كلّف الثمن، باعتباره يشكّل العمود الفقري وآخر مراكز إنتاج الطاقة في سورية.
ومن الناحية الجغرافيّة، تعني خسارة النظام لمنطقة جبل الشاعر خسارته أيضاً نقطة هامّة، تتوسّط عقدة مواصلات تشكل قلب سورية، حيث يبعد الجبل عن مدينة السلمية بريف حماه نحو 62 كيلومتراً، ويبعد عن حماه 95 كيلومتراً، وعن حمص 120 كيلومتراً وعن الرقّة 120 كيلومتراً.
يعقّد فقدان النظام سيطرته على حقل الشاعر الوضع الميداني على الأرض في سورية، لا سيّما بعد تقدّم قواته على أكثر من جبهة، وسط استغلاله انشغال العالم بالمعارك الدائرة في عين العرب، والاقتتال الحاصل بين فصائل المعارضة السوريّة في ريف إدلب. ومن المتوقّع أن يلجأ النظام إلى استقدام تعزيزات عسكريّة ضخمة، كي لا يفقد الحقل مرة ثالثة، على حساب مناطق وجبهات مشتعلة أخرى، كان يراهن على استعادة سيطرته عليها.
ومن شأن هذا التطوّر أن يضع قوات النظام أمام خيارات صعبة، إذ نجح "داعش" بمعاودة فتحه لهذه المعركة، ومن حيث لا يدري، بإرباك النظام وقواته، عبر كسر الروح المعنويّة من جهة، وفي تخفيف الضغط على باقي الجبهات، التي يحاول النظام التقدم من خلالها في حمص وريفي حماه وإدلب على وجه الخصوص، من جهة أخرى.
في المعركة الأولى، ذاقت قوات النظام ومليشيات "الدفاع الوطني" الأمرّين، من قبل مقاتلي "داعش"، الذين كبّدوهم خلال سيطرتهم الأولى على الحقل، أكثر من 600 قتيل، بينهم أكثر من 300 قتيل من الطائفة العلويّة.
ويتمثّل الأمر الذي بات يرهق كاهل النظام وقواته، في موقفه الضعيف وصعوبة قدرته على استعادة الحقل بسرعة في كل مرة، لأسباب عدّة، أبرزها حالة الإنهاك التي تعاني منها قواته، التي تحارب منذ أربع سنوات. وفرض ذلك على النظام تسليح العاملين في الحقل للدفاع عنه ضدّ هجمات التنظيم، من دون إرسال أي دعم عسكري. ويكمن السبب الثاني في أنّ استعادة الحقل عسكرياً في كل مرة، تعني سحب عدد كبير من عناصره من جبهات أخرى، ما سيؤدي إلى إفراغ تلك الجبهات وإضعافها، وبالتالي سقوطها.
وتُعدّ حالة الرعب التي باتت تسيطر على الموالين للنظام، ثالث هذه الأسباب، بعد أن شاهدوا ما فعله "داعش" في المرتين الأولى، والثانية من أعمال قتل بحقّ أولادهم. وكان مقاتلو التنظيم قد صوّروا قتل الجنود والتنكيل بهم، في رسالة موجعة. ويُعدّ هذا الأمر، أحد الأهداف غير المباشرة لسيطرة التنظيم مرّة أخرى على الحقل، إذ يسعى بذلك إلى كسر الروح المعنويّة لمقاتلي النظام ومليشياته، بعد أن استطاع السيطرة على الحقل ومحيطه في غضون 24 ساعة في المرة السابقة.
ومن جهة أخرى، يُعدّ حقل الشاعر، نقطة مهمّة بالنسبة إلى "داعش"، خصوصاً بعد إعلان "التحالف الدولي"، بقيادة الولايات المتحدة تجفيف منابع تمويله، وضربها لحقول النفط في البادية السورية التي يسيطر عليها، وتحديداً المنطقة الشرقيّة في ريف دير الزور. وهنا، يحاول التنظيم استغلال عدم قدرة كل من النظام والتحالف الدولي على قصف الحقل بشكل عنيف خوفاً من تدميره، باعتبار أنّ تدميره يشكّل خسارة كبيرة للنظام، عدا الخسارة الماديّة بملايين الدولارات.