04 نوفمبر 2024
حقوق الفلسطينيين على الطريقة الإسلاموية
في مجتمعات مسكونة بالأيديولوجي، الديني والسياسي، على حساب المعرفي والثقافي، يتحول أي طرح مخالفٍ لما هو مستقر في الوعي الجمعي، وترفعه الأيديولوجيا الدينية إلى رتبة المقدس، إلى موضوع للإدانة والتحريض على التكفير، بالحد الأدنى. وليس مستغرباً، أن يثير ما طرحه، أخيراً، الباحث والروائي المصري، يوسف زيدان، جدلاً واسعاً واحتجاجاً عنيفاً.
يذهب زيدان إلى أن المقصود بالمسجد الأقصى، المذكور في القرآن الكريم "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..."، ليس المسجد الأقصى القائم حاليا في فلسطين، بل هو مسجد في طريق الطائف. ويقدم زيدان المبرّرات التي دفعته لتبني فرضية، وجدت فيها الأيديولوجيا الإسلاموية خطراً يتهدد الحق الإسلامي في المسجد الأقصى.
لا شك في أن تهافت زيدان على باب السلطان يشكل مأخذاً يصعب تجاهله، لكن كنا نأمل، مع ذلك، أن يناقش زيدان، كما هو مفترض، من موقع البحث العلمي الجاد والموضوعي، الذي وحده يخولنا قبول ما يقدمه أو تفنيده. أو على الأقل، التعامل معه من خلال القاعدة التي تركها لنا بعض السلف، وتقول" انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال".
لم يخالف زيدان نصاً قرآنياً صريحاً، بل اختلف مع اجتهاداتٍ بشريةٍ فسرت ذلك النص، مستنداً، في الوقت نفسه، إلى بعضها الآخر (الواقدي مثلاً). وكغيره من الباحثين، يلجأ زيدان عموماً، في دراسته التاريخ العربي الإسلامي ما قبل عصر التدوين (150 هـ)، إلى تطبيق منهجية لغوية ألسنية مقارنة على النصوص المتاحة، بما فيها النص القرآني، باتت ملاذاً أخيراً للباحثين في ظل انقطاعات تاريخية، نتجت عن ندرة المعطيات الأركيولوجية، مع استمرار تعذّر أعمال التنقيب في شبه الجزيرة العربية، لأسباب باتت مفهومة.
أما كتب التراث التي أرادت، منذ عصر التدوين الإسلامي، أن تُثبّت بدقّة (؟) ما حفظته الذاكرة الجمعية، من رواياتٍ ظلت متناقلة شفهياً، طوال حوالي قرنين، فإنها في مضمونها ومنهجيتها، تثير التساؤلات أكثر مما تقدم الإجابات. إذ حُكمت جهود المؤرخين، بعقيدة النظر إلى التاريخ بوصفه تحقيقاً للإرادة الإلهية في إدارة شؤون البشر، ولا سيما شؤون جماعة المؤمنين. ولم يؤرخ هؤلاء لماضيهم القصير نسبياً وحسب، بل ولماضي البشرية جمعاء، منذ لحظة خلق آدم، بما يتناسب وتصورات العقيدة الإسلامية، وبات من الصعب وضع خطوط فاصلة بين التفسير والتأريخ. وحين لم تفِ التقاليد المحلية الموروثة بالغرض، اضطر المؤلفون إلى استعمال التقاليد التاريخية الدينية، المسيحية، واليهودية الآرامية، التي لامست ما أشار إليه القرآن من مضامين تاريخية، في تصوراته حول خلق الكون والإنسان، وقصص الشعوب الماضية وأنبيائهم.
يقول ابن كثير في تفسيره: "والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما يوجد في صُحفهم، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ". فوهب بن منبه (34- 114هـ)، هو سليل أسرة يهودية يمنية، روى عنه مسلم والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي تفسيراً. أما كعب بن ماتع الحميري (كعب الأحبار)، وهو من أصول يهودية أيضاً، فكان مقرباً من كبار الصحابة، لاسيما عبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، فروى عنه أبو داود والترمذي والنسائي.
ويخبرنا الطبري، في تفسيره، عن حجم المكانة العلمية التي تمتع بها كعب الأحبار، حين ينقل "مناظرته" مع أم المؤمنين عائشة. فحين ذهب كعب إلى أن هارون أخا مريم ليس هارون أخا النبي موسى، كذّبته عائشة، فقال لها: "إذا كان النبي قال هذا فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة"، فسكتت أم المؤمنين.
لكن، وحتى مع هذا الإدراك المبكر، لاقتحام الإسرائيليات التراث الإسلامي، عند ابن كثير وغيره، استمر تدفق التراث التوراتي وتداوله إسلامياً، لتقوم الأيديولوجيا الإسلاموية المعاصرة، بإعادة إنتاج ذلك التراث على عواهنه، مع إصرارها على تحويل الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي إلى صراع ديني، يهودي إسلامي، الأمر الذي لا يشكل خطراً على الحقوق الإسلامية في فلسطين، وحسب، بل أيضا وخصوصاً، على حق الفلسطينيين في أرضهم.
لعل ابن عثيمين يلخص الخطوط العامة للأيديولوجيا الإسلاموية، بتياراتها المختلفة، والتي ترسم موقفها من القضية الفلسطينية. فيؤكد، أن بني إسرائيل كانوا أولى بالأرض المقدسة، التي كتبها الله لهم كتابة قَدَرِية لا شرعية، لأنهم كانوا أفضل أهل الأرض زمن موسى، و يقول: "لما تخلف الصلاح في هذه الأمة، صار هذا التسليط، تسليط اليهود على هذا الجزء من الأرض. فالواجب علينا أن نقاتل اليهود وغير اليهود ممن كفروا بالله، لا على أساس الأرض، بل على أساس العقيدة"، ويذهب إلى أن الحق اليوم لم يعد لبني إسرائيل مسلمي زمانهم، بل لمسلمي اليوم أتباع النبي محمد. (تفسير سورة المائدة، ج،1 ص 258 وما بعدها).
وفق هذه الأيديولوجيا، يصبح تاريخ الصراع على فلسطين حبيس دورات متتابعة، يتجلى فيها الحق الإلهي، مُتَبادَلا بين المُستحِقّين من مُسلمي الأزمنة المختلفة. بدأت أولى تلك الدورات بخسارة الفلسطيني، صاحب الأرض، حقه التاريخي فيها، لصالح حق إلهي مُنح لغزاة، يشفع لعدوانهم أنهم مسلمو ذلك الزمان. وفي دورة لاحقة، ومع الفتح الإسلامي، يحوز الفلسطيني حقاً في أرضه التاريخية، لا بوصفه فلسطينياً وصاحب الأرض، بل بوصفه مسلماً يحوز بدوره حقاً إلهيا. لكن، وبقدر ابتعاده عن عقيدته الإسلامية، أو "تخلف الصلاح"، بتعبير ابن عثيمين، بدأت دورة ثالثة، فقد معها حقه الإلهي في أرض المسلمين. أما ما ينبغي أن يكون إسلاموياً، وفي دورة أخيرة، هو العودة إلى الإسلام، عودة حصرية، على الطريقة الإسلاموية. وهكذا تتم إطاحة قيمة الأرض، باسم الحق الإلهي، فلا تعود لها قيمة في ذاتها، بل تستمده من ذاك الحق الممنوح لمسلمي الأزمنة المختلفة، حيثما وجدوا. ما يعني أيضا، إطاحة مفهوم الشعب وحقه في تقرير مصيره، طالما أصبح ذلك شأناً تقرّره السماء. أما النتيجة النهائية لهذا وذاك، فهي إطاحة التاريخ والجغرافيا في آن معا.
عبر أسطورة الحق الإلهي الذي مَنَحَ "أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض" حاولت الحركة الصهيونية الالتفاف على حقائق التاريخ. وكان من فضائل الثورة الفلسطينية المعاصرة التي فقدت، اليوم، بعضها للأسف، إلحاحها على علمنة القضية الفلسطينة، إدراكاً منها لضرورة تفنيد تلك الأساطير تاريخياً وعلمياً، فكان المسيحيون والدروز والمسلمون، وربما غيرهم، بمقدساتهم ورموزهم، شعباً واحداً، فلسطينيين أصحاب الأرض، يملكون وحدهم حق تقرير مصيرها ومصيرهم.
ولعلنا نتساءل، أيهما أشد خطراً على مفهوم "الحق"، هل هي طروحات يوسف زيدان أو غيره من الباحثين، أم الاستناد إلى تراثٍ لم يُراجعه بما فيه الكفاية، وفق المنهجيات العلمية الحديثة، من يؤكد إمكانية التوفيق بين الإسلام والحداثة؟ ألا تكاد تجمع كتب التراث على أن أول من بنى المسجد الأقصى هو نبي بني إسرائيل سليمان بن داود؟ ألم تؤسس تلك الكتب المتأثرة بالإسرائيليات لمطابقة بين "صرح سليمان" المذكور في القرآن، و"بيت سليمان أو الهيكل" المذكور في التوراة، والذي بقي اعتقاداً إسلامياً (سنياً وشيعياً) متداولا حتى عام 1948؟ (انظر مثلا: ناصر خسرو في "سفر نامة"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير").
أي طروحات تخالف تلك النظرة الجامدة إلى التراث، وتلقي في ركوده حجراً، لا تهدد حقوقا إسلامية، بل تهدد، في الواقع، تلك الأيديولوجيا الإسلاموية القائمة على نظرية الحق الإلهي، والتي يتناسى أصحابها أنه، باسم هذا الحق، استوطنت إسرائيل أرض فلسطين التاريخية، فاقتلعت البشر والشجر، وتطالب اليوم بالاعتراف بها "دولة يهودية"، وباسمه، تجزّ "داعش" الرقاب، وتسبي النساء، وتقتلع من الوطن البشر وتاريخهم.
مع ذلك الإصرار الأيديولوجي المستمر على نقل الصراع على فلسطين، من أرضية تاريخية حقوقية، قومية ووطنية، إلى أرضية دينية، تحت عنوان الحق الإلهي الذي يحوزه الأكثر "إسلاماً"، كان من الطبيعي، أن تُشَرّع الأبواب لزج القضية الفلسطينية في صراع سياسي مذهبي، أخذت معالمه تتضح يوماً بعد يوم. .. كان الله، ومن بعده التاريخ، في عون الفلسطينيين.
يذهب زيدان إلى أن المقصود بالمسجد الأقصى، المذكور في القرآن الكريم "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..."، ليس المسجد الأقصى القائم حاليا في فلسطين، بل هو مسجد في طريق الطائف. ويقدم زيدان المبرّرات التي دفعته لتبني فرضية، وجدت فيها الأيديولوجيا الإسلاموية خطراً يتهدد الحق الإسلامي في المسجد الأقصى.
لا شك في أن تهافت زيدان على باب السلطان يشكل مأخذاً يصعب تجاهله، لكن كنا نأمل، مع ذلك، أن يناقش زيدان، كما هو مفترض، من موقع البحث العلمي الجاد والموضوعي، الذي وحده يخولنا قبول ما يقدمه أو تفنيده. أو على الأقل، التعامل معه من خلال القاعدة التي تركها لنا بعض السلف، وتقول" انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال".
لم يخالف زيدان نصاً قرآنياً صريحاً، بل اختلف مع اجتهاداتٍ بشريةٍ فسرت ذلك النص، مستنداً، في الوقت نفسه، إلى بعضها الآخر (الواقدي مثلاً). وكغيره من الباحثين، يلجأ زيدان عموماً، في دراسته التاريخ العربي الإسلامي ما قبل عصر التدوين (150 هـ)، إلى تطبيق منهجية لغوية ألسنية مقارنة على النصوص المتاحة، بما فيها النص القرآني، باتت ملاذاً أخيراً للباحثين في ظل انقطاعات تاريخية، نتجت عن ندرة المعطيات الأركيولوجية، مع استمرار تعذّر أعمال التنقيب في شبه الجزيرة العربية، لأسباب باتت مفهومة.
أما كتب التراث التي أرادت، منذ عصر التدوين الإسلامي، أن تُثبّت بدقّة (؟) ما حفظته الذاكرة الجمعية، من رواياتٍ ظلت متناقلة شفهياً، طوال حوالي قرنين، فإنها في مضمونها ومنهجيتها، تثير التساؤلات أكثر مما تقدم الإجابات. إذ حُكمت جهود المؤرخين، بعقيدة النظر إلى التاريخ بوصفه تحقيقاً للإرادة الإلهية في إدارة شؤون البشر، ولا سيما شؤون جماعة المؤمنين. ولم يؤرخ هؤلاء لماضيهم القصير نسبياً وحسب، بل ولماضي البشرية جمعاء، منذ لحظة خلق آدم، بما يتناسب وتصورات العقيدة الإسلامية، وبات من الصعب وضع خطوط فاصلة بين التفسير والتأريخ. وحين لم تفِ التقاليد المحلية الموروثة بالغرض، اضطر المؤلفون إلى استعمال التقاليد التاريخية الدينية، المسيحية، واليهودية الآرامية، التي لامست ما أشار إليه القرآن من مضامين تاريخية، في تصوراته حول خلق الكون والإنسان، وقصص الشعوب الماضية وأنبيائهم.
يقول ابن كثير في تفسيره: "والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما يوجد في صُحفهم، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ". فوهب بن منبه (34- 114هـ)، هو سليل أسرة يهودية يمنية، روى عنه مسلم والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي تفسيراً. أما كعب بن ماتع الحميري (كعب الأحبار)، وهو من أصول يهودية أيضاً، فكان مقرباً من كبار الصحابة، لاسيما عبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، فروى عنه أبو داود والترمذي والنسائي.
ويخبرنا الطبري، في تفسيره، عن حجم المكانة العلمية التي تمتع بها كعب الأحبار، حين ينقل "مناظرته" مع أم المؤمنين عائشة. فحين ذهب كعب إلى أن هارون أخا مريم ليس هارون أخا النبي موسى، كذّبته عائشة، فقال لها: "إذا كان النبي قال هذا فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة"، فسكتت أم المؤمنين.
لكن، وحتى مع هذا الإدراك المبكر، لاقتحام الإسرائيليات التراث الإسلامي، عند ابن كثير وغيره، استمر تدفق التراث التوراتي وتداوله إسلامياً، لتقوم الأيديولوجيا الإسلاموية المعاصرة، بإعادة إنتاج ذلك التراث على عواهنه، مع إصرارها على تحويل الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي إلى صراع ديني، يهودي إسلامي، الأمر الذي لا يشكل خطراً على الحقوق الإسلامية في فلسطين، وحسب، بل أيضا وخصوصاً، على حق الفلسطينيين في أرضهم.
لعل ابن عثيمين يلخص الخطوط العامة للأيديولوجيا الإسلاموية، بتياراتها المختلفة، والتي ترسم موقفها من القضية الفلسطينية. فيؤكد، أن بني إسرائيل كانوا أولى بالأرض المقدسة، التي كتبها الله لهم كتابة قَدَرِية لا شرعية، لأنهم كانوا أفضل أهل الأرض زمن موسى، و يقول: "لما تخلف الصلاح في هذه الأمة، صار هذا التسليط، تسليط اليهود على هذا الجزء من الأرض. فالواجب علينا أن نقاتل اليهود وغير اليهود ممن كفروا بالله، لا على أساس الأرض، بل على أساس العقيدة"، ويذهب إلى أن الحق اليوم لم يعد لبني إسرائيل مسلمي زمانهم، بل لمسلمي اليوم أتباع النبي محمد. (تفسير سورة المائدة، ج،1 ص 258 وما بعدها).
وفق هذه الأيديولوجيا، يصبح تاريخ الصراع على فلسطين حبيس دورات متتابعة، يتجلى فيها الحق الإلهي، مُتَبادَلا بين المُستحِقّين من مُسلمي الأزمنة المختلفة. بدأت أولى تلك الدورات بخسارة الفلسطيني، صاحب الأرض، حقه التاريخي فيها، لصالح حق إلهي مُنح لغزاة، يشفع لعدوانهم أنهم مسلمو ذلك الزمان. وفي دورة لاحقة، ومع الفتح الإسلامي، يحوز الفلسطيني حقاً في أرضه التاريخية، لا بوصفه فلسطينياً وصاحب الأرض، بل بوصفه مسلماً يحوز بدوره حقاً إلهيا. لكن، وبقدر ابتعاده عن عقيدته الإسلامية، أو "تخلف الصلاح"، بتعبير ابن عثيمين، بدأت دورة ثالثة، فقد معها حقه الإلهي في أرض المسلمين. أما ما ينبغي أن يكون إسلاموياً، وفي دورة أخيرة، هو العودة إلى الإسلام، عودة حصرية، على الطريقة الإسلاموية. وهكذا تتم إطاحة قيمة الأرض، باسم الحق الإلهي، فلا تعود لها قيمة في ذاتها، بل تستمده من ذاك الحق الممنوح لمسلمي الأزمنة المختلفة، حيثما وجدوا. ما يعني أيضا، إطاحة مفهوم الشعب وحقه في تقرير مصيره، طالما أصبح ذلك شأناً تقرّره السماء. أما النتيجة النهائية لهذا وذاك، فهي إطاحة التاريخ والجغرافيا في آن معا.
عبر أسطورة الحق الإلهي الذي مَنَحَ "أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض" حاولت الحركة الصهيونية الالتفاف على حقائق التاريخ. وكان من فضائل الثورة الفلسطينية المعاصرة التي فقدت، اليوم، بعضها للأسف، إلحاحها على علمنة القضية الفلسطينة، إدراكاً منها لضرورة تفنيد تلك الأساطير تاريخياً وعلمياً، فكان المسيحيون والدروز والمسلمون، وربما غيرهم، بمقدساتهم ورموزهم، شعباً واحداً، فلسطينيين أصحاب الأرض، يملكون وحدهم حق تقرير مصيرها ومصيرهم.
ولعلنا نتساءل، أيهما أشد خطراً على مفهوم "الحق"، هل هي طروحات يوسف زيدان أو غيره من الباحثين، أم الاستناد إلى تراثٍ لم يُراجعه بما فيه الكفاية، وفق المنهجيات العلمية الحديثة، من يؤكد إمكانية التوفيق بين الإسلام والحداثة؟ ألا تكاد تجمع كتب التراث على أن أول من بنى المسجد الأقصى هو نبي بني إسرائيل سليمان بن داود؟ ألم تؤسس تلك الكتب المتأثرة بالإسرائيليات لمطابقة بين "صرح سليمان" المذكور في القرآن، و"بيت سليمان أو الهيكل" المذكور في التوراة، والذي بقي اعتقاداً إسلامياً (سنياً وشيعياً) متداولا حتى عام 1948؟ (انظر مثلا: ناصر خسرو في "سفر نامة"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير").
أي طروحات تخالف تلك النظرة الجامدة إلى التراث، وتلقي في ركوده حجراً، لا تهدد حقوقا إسلامية، بل تهدد، في الواقع، تلك الأيديولوجيا الإسلاموية القائمة على نظرية الحق الإلهي، والتي يتناسى أصحابها أنه، باسم هذا الحق، استوطنت إسرائيل أرض فلسطين التاريخية، فاقتلعت البشر والشجر، وتطالب اليوم بالاعتراف بها "دولة يهودية"، وباسمه، تجزّ "داعش" الرقاب، وتسبي النساء، وتقتلع من الوطن البشر وتاريخهم.
مع ذلك الإصرار الأيديولوجي المستمر على نقل الصراع على فلسطين، من أرضية تاريخية حقوقية، قومية ووطنية، إلى أرضية دينية، تحت عنوان الحق الإلهي الذي يحوزه الأكثر "إسلاماً"، كان من الطبيعي، أن تُشَرّع الأبواب لزج القضية الفلسطينية في صراع سياسي مذهبي، أخذت معالمه تتضح يوماً بعد يوم. .. كان الله، ومن بعده التاريخ، في عون الفلسطينيين.