لطالما ارتبطت صورة رجل السياسة في لبنان بـ"الرجولة"، وما يتبعها من إظهار القوة والهيبة التي سريعاً ما تجنح نحو العنف. يهوى كثيرٌ من اللبنانيين سياسيين على صورة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بجسده الرياضي وخلفيته العسكرية. لكن "لبننة" الصورة أنتجت سياسيين من طراز آخر، فاستُبدل فلاديمير بنقولا وبوتين بفتوش.
لم يبقَ صدى اللكمة التي وجّهها النائب نقولا فتوش إلى موظفة في قصر العدل، في بعبدا، شمالي بيروت، داخل أسوار قصر العدل، بل تجاوزته. لاسم فتوش رنين خاص، لأنه مرتبط بالعديد من القرارات المثيرة للجدل داخل قبة البرلمان وفي مجلس الوزراء.
في مراجعة سريعة لتاريخ النائب، يتبيّن أنه انتزع في أبريل/نيسان عام 2012 مبلغ 400 مليون دولار من الدولة اللبنانية على سبيل التعويض عن قرار إغلاق كسارات تعود لأشقائه وتعمل بصورة غير شرعية في محافظة جبل لبنان.
حقّق الفتوش سابقة من خلال منحه التعويض عن أعمال مضرّة بالبيئة بعد 37 مراجعة تقدم بها إلى مجلس شورى الدولة، نجح خلالها في تمرير التعويض بموافقة مندوبين عن وزارات المال والبيئة والداخلية.
كما كان لفتوش دور رئيسي في إقرار التمديد الأول لمجلس النواب من خلال مشروع القانون الذي تجرأ وحده على التقدم به في مايو/أيار من العام الماضي. واليوم يعيد فتوش الكرّة من خلال التقدم بمشروع قانون لتمديد ثانٍ، إيغالاً في تأكيد قدرة السياسيين اللبنانيين على تطويع المنظومة السياسية بالوسائل اللازمة.
لم يتوانَ فتوش عن استخدام العنف "اللازم" في قصر العدل في بعبدا، ردّاً على طلب موظفة تسجيل الشكاوى منه الانتظار بالدور ليُصار إلى إنهاء معاملته. وجّه فتوش لكمة إلى الموظفة وغادر من دون أن يكلّف نفسه عناء إصدار بيان أو توضيح للموقف الذي ضجّ به الرأي العام اللبناني.
اللبنانيون بدورهم، وعلى مدى سنوات طوال، اكتفوا بتسجيل اعتداءات السياسيين اللفظية والجسدية على مناصريهم ومعارضيهم على حد السواء، فـ"الضرب في السوية كالعدل في الرعية".
من الأبيض والأسود حتى البث المباشر
يعود تاريخ أول اعتداءات سجّلها لبنان إلى عام 1975، عندما لحق الرئيس السابق، أمين الجميل، (كان نائباً في حينه) برئيس الحكومة، رشيد الصلح، محاولاً إعادته بالقوة إلى داخل البرلمان، لسماع رد حزب "الكتائب" (الذي يرأسه الجميل حاليّاً) على اتهام الصلح للحزب بتدبير حادثة عين الرمانة، عندما أطلق مسلحون تابعون لـ"الكتائب" النار على حافلة تنقل فلسطينيين مشاركين في احتفال سياسي في 13 أبريل/نيسان 1975، لتؤرّخ بداية الحرب الأهلية التي امتدت حتى عام 1990. وُضع اعتداء الجميل الذي سجّلته الصور بالأبيض والأسود في خانة "سطوة المارونية السياسية على القرار في لبنان".
تكرر المشهد بعد عقدين في عام 1998 عندما وجّه الرئيس الراحل، إلياس الهراوي (المعروف بحدة طباعه) صفعة لرئيس تحرير مجلة "الشراع" حسن صبرا. خرقت الصفعة يومها سكينة عزاء والدة النائب، ميشال المر، الذي حضره الرجلان.
سجّل الرئيس الراحل سابقة هي الأولى من نوعها، ذلك أنه انتهك حرمة الأحياء والأموات بضربة واحدة. ومنحت "صفعة" الهراوي الاعتداءات على الصحافيين "بركة رئاسية"، حتى قيل في حينها إن السبب هو مقالات وُصفت باللاذعة في نقدها لعهد الهراوي.
انتهى عهد الهراوي بعد التمديد عام 1998 لكن الاعتداءات لم تنته، وهذه المرة على الأنصار لا الخصوم. فقد قرر رئيس تيار "المردة" النائب، سليمان فرنجية، "تربية" مناصريه علناً إبان الانتخابات النيابية في عام 2009.
نعَت فرنجية في تسجيل مصوّر تناقله اللبنانيون، أنصاره بأسوأ النعوت، متوعداً "30 ألف شخص من أبناء زغرتا بحساب عسير"، بعد إشكال وقع بينهم وبين مناصري حزب "القوات اللبنانية" في المنطقة. لوح البيك سليل آل فرنجية بيد الإقطاع مطوّلاً أمام مناصريه، وهدد بصفع أحد المناصرين الذي قاطعه بالهتاف بحياته. مثّلت تلك الحادثة علاقة المواطن بالزعيم في بلد كل سياسييه زعماء.
ومن آل فرنجية إلى آل الجميل مجدداً، وهذه المرة مع النائب، نديم الجميل، الذي اعتدى مرافقوه على ناشطات في جمعية "نسوية" في يونيو/حزيران 2013. تعرّض يومها المرافقون للناشطات والصحافيين الموجودين في مركز الجمعية بالضرب ومحاولة الدهس. واتهم الجميل في بيان "الناشطات بالاعتداء على موكبه بالحجارة والعصي".
قدّم النائب الشاب يومها برهاناً عمليّاً على وراثة الطبقة الحاكمة في لبنان العنف مثلما ترث المناصب. في حين فضّل آخرون تقديم "برهانهم" الخاص على "وجاهتهم" كالوزير في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بانوس مانجيان (ممثل حزب "الطاشناق"، أكبر الأحزاب الأرمنية).
اشتهر مانجيان بشاربيه المعكوفين أكثر من شهرته كوزير بلا حقيبة، لكن شهرته الفعلية انطلقت بعد تهجّم مرافقه على محامٍ على خلفية "أفضلية مرور" منحها الوزير لنفسه على حساب المواطنين في شوارع بيروت المزدحمة وعند مداخلها، حيث وجه المرافق مسدسه لرأس المحامي الذي "فشل" في إفساح الطريق أمام معاليه.
وكما "وجاهة" مانجيان، ظهرت "وجاهة" وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق أثناء حديثه مع أحد المواطنين المتضررين من قراره إقفال شركتَي غاز في منطقة الأوزاعي جنوبي بيروت لدواعٍ أمنية. أطلق المشنوق يومها العنان لخطاب استعلائي قائلاً للرجل على الهواء مباشرةً: "إنت مش عارف حالك مع مين تحكي؟".