03 يوليو 2019
حكاية شخصية جداً
خطفتني شجون الحياة، ولم أنتبه إلى خساراتي الهائلة، في صقيع النأي عن دفء صوتها، إلا بعدما أوغل قطار العمر، في السكة الحديدية المؤدية، من دون لفٍّ أو دوران، إلى محطات الخريف. كنت في الثامنة عشرة، حين استيقظت ذات يوم، وقد نبت لي جناحان، فقرّرت التحليق لأول مرة، بعيداً، عن البيت الصغير، الفقير. وكانت الشابة التي بالكاد بلغت الرابعة والثلاثين، تتظاهر بأنها أقوى من أن تذرف الدموع، علناً، وهي ترى فلذة كبدها يطير إلى ما وراء نهاية مد البصر.
هناك، في بلاد الآخرين، اكتشف الفتى الذي كنته قدرة الريح الهوجاء على أن تشلَّ جناحيه الصغيرين. وقد حدث له أن هوى، ذات عاصفة، من علٍ، وارتطم رأسه بالصخور، ثم اقتيد إلى القفص الذي سيدرك، وهو بين قضبانه، كم كان البيت الصغير، الفقير، رحباً، غنياً، وسيحاول أن يسرح بخياله إلى حيث اعتادت هي الجلوس أمام العتبة، وكله كمد عليها، وإشفاق، من أن تكون دموعها قد هزمت صلابتها، تحت ضغط غيابه.
لاحقاً، هيأ له القدر ثغرة في جدار القفص، ليطير عبرها، وينجو، لكنه أدرك أن طريق الهجرة التي سلكها، أول مرة، أصعب من أن تصلح للعودة. ولم يطل به الوقت كثيراً، لتتبدد قناعته بجناحيه، وليسيطر عليه شعور أبدي بأنه أقرب إلى أن يكون سمكةً صغيرة، يجرفها النهر، لتستقر، مؤقتاً، في انتظار فيضانه من جديد، ليجرفها، ثانية، وثالثة، بل إلى ما لا نهاية.
أما هي فكانت أشبه بشجرة زيتون عتيقة، لا تكسرها عاصفة، ولا يجرفها سيل. رفضت إقامة العزاء بموته المحتمل، حين ضاعت آثاره في الحرب، ستة أشهر، وظلت تصر على أنه حي يُرزق، حتى بعدما انقشع غبار المعارك، وعاد رفاقه الباقون على قيد الحياة، ولم يكن معهم. ما من أحد، إذ ذاك، أخبرها بأنه وقع في الأسر، وتعرّض للتعذيب والتجويع، لكنها كانت تتصرّف، كما لو أنها تراه، وتعرف ما الذي يحدث له على بعد مئات الأميال. في ليالي السجن، كان يستخدم حذاء عسكرياً بالياً وسادة لنومه، ثم استبدله بكيس بلاستيكي محشو بالتراب، في حين اختارت هي، إبّان الفترة نفسها، أن تضع حجراً تحت رأسها، كلما غلبها النوم. وإذ ظن زوجها وأولادها أن مساً أصاب عقلها، بسبب فقد ابنها البكر، وحاولوا نهيها عما تفعل، قالت، بعناد، إنها تريد أن تنام، كما تظنه ينام في غياهب المجهول.
ستمرّ على هذه الحكاية ثلاثة عقود، قبل أن تعود تفاصيلها، إلى ذاكرته، بمجرد أن جاءه هاتف يقول إن أمك نُقلت إلى المستشفى، في حال حرجة، وإن الأطباء اكتشفوا إصابتها بمرض تشمع الكبد.
لا لم يكن خبر مرضها خبراً، بل زلزالاً هزَّ حياة الكهل الذي صرته. وفي رحلة الطائرة، من حيث آخر محطات تغريبتي، إلى حيث البيت الذي ما عاد صغيراً، ولا فقيراً، وقعت تحت سطوة فكرةٍ قديمة، كانت انتقلت من البابليين في بلاد ما بين النهرين، إلى أمم الأرض، مفادها بأن الكبد، لا القلب، ولا الدماغ، أساس الحياة، ومركز العواطف والأحاسيس والمشاعر، وهي فكرة اقتبسها الآشوريون، واليونانيون ثم الرومان، فكانوا يقرأون الكبد، كما يقرأ الناس الكف في هذه الأيام، ليتنبأوا بالمستقبل، بينما كان العرب، ومازالوا، يصفون أبناءهم بفلذات الأكباد، ويقولون "إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض".
لذلك، كله، راودني الإحساس بأن كبد هذه المرأة ما تشمع إلا لأن فلذات منه، أنا أحدها، تتشتت في أرجاء الأرض، ولم تعد بقيته الباقية، داخل قفصها الصدري، كافية لتخليصها من سموم الدنيا. لذلك أيضاً، فهمت كيف فاض وجهها بالحياة، في لحظة لقائنا، ولماذا جاءت التحاليل الطبية، لتقول إن كبدها استأنف، رغم التشمع، وظائفه الطبيعية، كالمعتاد.
هناك، في بلاد الآخرين، اكتشف الفتى الذي كنته قدرة الريح الهوجاء على أن تشلَّ جناحيه الصغيرين. وقد حدث له أن هوى، ذات عاصفة، من علٍ، وارتطم رأسه بالصخور، ثم اقتيد إلى القفص الذي سيدرك، وهو بين قضبانه، كم كان البيت الصغير، الفقير، رحباً، غنياً، وسيحاول أن يسرح بخياله إلى حيث اعتادت هي الجلوس أمام العتبة، وكله كمد عليها، وإشفاق، من أن تكون دموعها قد هزمت صلابتها، تحت ضغط غيابه.
لاحقاً، هيأ له القدر ثغرة في جدار القفص، ليطير عبرها، وينجو، لكنه أدرك أن طريق الهجرة التي سلكها، أول مرة، أصعب من أن تصلح للعودة. ولم يطل به الوقت كثيراً، لتتبدد قناعته بجناحيه، وليسيطر عليه شعور أبدي بأنه أقرب إلى أن يكون سمكةً صغيرة، يجرفها النهر، لتستقر، مؤقتاً، في انتظار فيضانه من جديد، ليجرفها، ثانية، وثالثة، بل إلى ما لا نهاية.
أما هي فكانت أشبه بشجرة زيتون عتيقة، لا تكسرها عاصفة، ولا يجرفها سيل. رفضت إقامة العزاء بموته المحتمل، حين ضاعت آثاره في الحرب، ستة أشهر، وظلت تصر على أنه حي يُرزق، حتى بعدما انقشع غبار المعارك، وعاد رفاقه الباقون على قيد الحياة، ولم يكن معهم. ما من أحد، إذ ذاك، أخبرها بأنه وقع في الأسر، وتعرّض للتعذيب والتجويع، لكنها كانت تتصرّف، كما لو أنها تراه، وتعرف ما الذي يحدث له على بعد مئات الأميال. في ليالي السجن، كان يستخدم حذاء عسكرياً بالياً وسادة لنومه، ثم استبدله بكيس بلاستيكي محشو بالتراب، في حين اختارت هي، إبّان الفترة نفسها، أن تضع حجراً تحت رأسها، كلما غلبها النوم. وإذ ظن زوجها وأولادها أن مساً أصاب عقلها، بسبب فقد ابنها البكر، وحاولوا نهيها عما تفعل، قالت، بعناد، إنها تريد أن تنام، كما تظنه ينام في غياهب المجهول.
ستمرّ على هذه الحكاية ثلاثة عقود، قبل أن تعود تفاصيلها، إلى ذاكرته، بمجرد أن جاءه هاتف يقول إن أمك نُقلت إلى المستشفى، في حال حرجة، وإن الأطباء اكتشفوا إصابتها بمرض تشمع الكبد.
لا لم يكن خبر مرضها خبراً، بل زلزالاً هزَّ حياة الكهل الذي صرته. وفي رحلة الطائرة، من حيث آخر محطات تغريبتي، إلى حيث البيت الذي ما عاد صغيراً، ولا فقيراً، وقعت تحت سطوة فكرةٍ قديمة، كانت انتقلت من البابليين في بلاد ما بين النهرين، إلى أمم الأرض، مفادها بأن الكبد، لا القلب، ولا الدماغ، أساس الحياة، ومركز العواطف والأحاسيس والمشاعر، وهي فكرة اقتبسها الآشوريون، واليونانيون ثم الرومان، فكانوا يقرأون الكبد، كما يقرأ الناس الكف في هذه الأيام، ليتنبأوا بالمستقبل، بينما كان العرب، ومازالوا، يصفون أبناءهم بفلذات الأكباد، ويقولون "إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض".
لذلك، كله، راودني الإحساس بأن كبد هذه المرأة ما تشمع إلا لأن فلذات منه، أنا أحدها، تتشتت في أرجاء الأرض، ولم تعد بقيته الباقية، داخل قفصها الصدري، كافية لتخليصها من سموم الدنيا. لذلك أيضاً، فهمت كيف فاض وجهها بالحياة، في لحظة لقائنا، ولماذا جاءت التحاليل الطبية، لتقول إن كبدها استأنف، رغم التشمع، وظائفه الطبيعية، كالمعتاد.