31 أكتوبر 2024
حكم العسكر بين الجزائر والسودان
يقول أحد شباب الثورة السودانية، تعقيباً على اتفاق تقاسم السلطة (وثيقة الاتفاق السياسي) بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، وجرى توقيعه أخيرا (17 تموز/يوليو 2019): "من الناحية العاطفية أنا ضد هذا الاتفاق بالكامل، ولكني معه من الناحية المنطقية".
من الناحية العاطفية، ليس من السهل قبول التشارك بالسلطة مع المجلس العسكري الذي غدر بالسودانيين المعتصمين، وساهم في قتل بعضهم والتنكيل بهم، ثم تراجع عن اتفاقٍ سابق مع قوى إعلان الحرية والتغيير. ولكن من الناحية المنطقية يبدو أن الاتفاق يقلّص سلطة المجلس، ويزيد من سلطة قيادة الحركة الديمقراطية. ولا يكون إدراك هذا الفارق بين العاطفة والمنطق مهماً، ما لم يتم تغليب المنطق على العاطفة. ويكتسب هذا القول قيمة إضافية من معرفة أن هذا الشاب كان قد ترك عمله المجزي في الخارج، لكي يعود ويشارك في ثورة شعبه، وأنه نجا مصادفةً من الموت، جراء رصاصة استقرت في صدره ولم تقتله، خلال عملية فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة، بينما هو ينقل عبر هاتفه، بصورة حية، كيف تجري العملية الوحشية. غير أن الفارق بين العاطفة والمنطق في الثورة ليس قطعياً أو نوعياً، إنهما عنصران متضافران فيها. إذا كانت حركة الشارع تمثل العاطفة في اندفاعها وتوقها إلى الخلاص، فإن قيادة الحركة تمثل المنطق في تحصيل النتائج السياسية من هذا الاندفاع، وفي تجميع السلطة ورسملتها. تبدو هذه العلاقة مرئية في السودان، ولكنها ليست كذلك في الجزائر، حيث لا تزال الحركة الديمقراطية من دون قيادة لها، على الرغم من أن الحركة في كلا البلدين تواجه سلطة العسكر.
في الجزائر كما في السودان، ينظر العسكر إلى الدولة على أنها جزء منهم وليس العكس.
وعلى ضوء هذا، يبدو لهم أن الغاية النهائية من أي ثورة شعبية هي تحصيل تنازلاتٍ من العسكر، على اعتبار أن العسكر يملكون ثم يتنازلون عن بعض "ملكيتهم" إلى الشعب الثائر، وهذا ينبغي أن يكون أقصى ما تبتغيه الثورة.
في الجزائر، حين بدا للعسكر الذين يمتلكون الكلمة العليا في الدولة أن قضية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة خاسرة، اختطّ قادة الجيش نهجاً "شعبياً"، تمثل في عزل بوتفليقة، وملاحقة رموز فاسدين من أركان النظام، من أمنيين وماليين وسياسيين، منتظرين أن يقود هذا إلى انتهاء الاحتجاجات وهدوء الشارع. وحين تواصلت الاحتجاجات المطالبة برحيل النظام، أي بنقل السلطة إلى المدنيين، أي بإحالة الجيش إلى مؤسسةٍ تابعة للدولة وليس العكس، غضب العسكريون وبدأوا باعتقال المتظاهرين وإغلاق الصحف والمواقع الإلكترونية .. الخ، قائلين: "لقد قدّمنا تنازلات لكم". لا يبدو للعسكر أن اعتقال الفاسدين والسماح بحرية التظاهر مثلاً هي استعادة حقوق مسلوبة، بل تبدو تنازلاتٍ على المتظاهرين تقديرها، والكف عن التظاهر.
وفي السودان تكرر الشيء نفسه، عبر عزل عمر البشير ثم وزير دفاعه عوض بن عوف، على يد مجلس عسكري، أدرك أن قضية البشير خاسرة أيضاً، وأن مهمة إنقاذ النظام بدون البشير أسهل، والأهم أنها مهمةٌ ممكنة التنفيذ هناك، على خلاف الحال في سورية مثلاً. لم ينتظر المجلس العسكري الانتقالي في السودان استمرار الثورة بعد ذلك، فقد اعتبر نفسه جزءاً منها وأن غايتها تحققت على يده. لا يستوعب أفراد المجلس العسكري أن يكونوا تحت إمرة حكومة مدنية، فالجيش، كما يبدو لهم، ليس ذراعاً عسكرية لحكومة مدنية، إنه بالأحرى مركز القوة في الدولة وفي المجتمع، وبالتالي هو مصدر السلطة، ومصدر الشرعية. أو بكلام آخر، ليست الحكومة، بنظر العسكر، سوى الجناح غير العسكري للجيش. لا يتعلق تمسّك العسكر بالسلطة بمصالح مكرسة ومرعية فقط، بل يتعلق أيضاً بنمط وعي مكرّس، يدرك الدولة أنها مجرد امتداد متعدّد الوظائف للجيش.
مثالا على هذا التصور "العسكري"، يبرّر المجلس العسكري الانتقالي في السودان عدم تسليم السلطة للمدنيين، بحجة وجود صراعات مسلحة في غير مكان من البلاد. وكأن الجيش في أي بلدٍ كان لا يمكنه التصدي لحركات مسلحة، ما لم تكن السلطة في يد القادة العسكريين في الجيش. على هذا، ينبغي أن يطالب رجال الإطفاء مثلاً باستلام السلطة السياسية في فترة اندلاع الحرائق. والواقع أن امتلاك القوة والاعتياد على تجاهل الشارع، أو الاعتياد على ترويعه، حين يستدرك حقوقه، ويطالب بها ويشكل خطراً على "الدولة"، هو ما جعل العسكريين يعون الدولة أنها لهم، وجزء من مؤسستهم، (دولة لجيش لا جيش لدولة).
ولهذا الوعي "العسكري" امتداد مدني غير قليل، ذلك أن التماهي بين الجيش والدولة يملأ
تاريخنا السياسي الحديث، حتى باتت مواجهة الجيش الذي يسيطر على الدولة، ويقمع ويضطهد باسمها، ينعكس في جزء غير قليل من الوعي العام على أنه تحطيم للدولة، وهو التصوّر الذي يسعى "العسكريون" إلى دعمه وتكريسه. إن القوة المادية للجيش، وسيادة وعي "عسكري" يرى في الجيش تجسيداً للدولة، وهو وعيٌ منتشرٌ في وسط الجيش، وفي الوسط المدني أيضاً، يعقد مهمة قيادة الحركة الديمقراطية.
واضحٌ أن قيادة الثورة السودانية تتقدم أكثر على طريق تفكيك السيطرة العسكرية، فهي تعتمد على مبدأ التقدم التدريجي، واحتلال المواقع، وليس على المبدأ الأقصى المتمثل في "إسقاط النظام بكل أركانه ورموزه" الذي ما زالت ترفعه الحركة الجزائرية. في السودان، عدلت قوة الشارع الثائر ميزان القوى في المجتمع، وتمكّنت قوى الثورة من فرض اتفاق 5 يوليو/ تموز في مقابل تجميد الدعوة إلى العصيان الذي كان مخططاً له في 14 من الشهر نفسه. أي إنها ترجمت توازن القوى هذا، مشفوعاً بعوامل خارجية، مثل موقف الاتحاد الأفريقي، في بنود اتفاق، أي ترجمته إلى مكاسب سياسية.
من نافل القول أن المجلس العسكري السوداني، على الرغم من نجاحه، بحسب وثيقة الاتفاق السياسي، في تثبيت سيطرته على الجيش والأمن في الحكومة المدنية الانتقالية من خلال احتفاظه بوزارتي الدفاع والداخلية، سوف يحاول الانقضاض على الاتفاق الذي وقعه مع قوى الحرية والتغيير، مراهناً على تعب الحراك الديمقراطي وتخامده، وعلى امتلاكه القوة العسكرية الأهم، للتهرّب من بند التحقيق في عملية فض الاعتصام، سيما أن الهتاف الأول للتجمع الشعبي الذي دعت إليه قوى الحرية والتغيير، عقب التوقيع على الاتفاق كان "القصاص لدماء الشهداء". ولكن مهمة عسكريي السودان ستكون أصعب من مهمة نظرائهم في الجزائر، نظراً إلى عدم تبلور قيادة جزائرية للحركة الديمقراطية هناك، في مقابل وجود قيادة ثورية سودانية، تتمتع بنضج سياسي واضح، لم يتوفر لبقية الثورات العربية الأخرى.
من الناحية العاطفية، ليس من السهل قبول التشارك بالسلطة مع المجلس العسكري الذي غدر بالسودانيين المعتصمين، وساهم في قتل بعضهم والتنكيل بهم، ثم تراجع عن اتفاقٍ سابق مع قوى إعلان الحرية والتغيير. ولكن من الناحية المنطقية يبدو أن الاتفاق يقلّص سلطة المجلس، ويزيد من سلطة قيادة الحركة الديمقراطية. ولا يكون إدراك هذا الفارق بين العاطفة والمنطق مهماً، ما لم يتم تغليب المنطق على العاطفة. ويكتسب هذا القول قيمة إضافية من معرفة أن هذا الشاب كان قد ترك عمله المجزي في الخارج، لكي يعود ويشارك في ثورة شعبه، وأنه نجا مصادفةً من الموت، جراء رصاصة استقرت في صدره ولم تقتله، خلال عملية فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة، بينما هو ينقل عبر هاتفه، بصورة حية، كيف تجري العملية الوحشية. غير أن الفارق بين العاطفة والمنطق في الثورة ليس قطعياً أو نوعياً، إنهما عنصران متضافران فيها. إذا كانت حركة الشارع تمثل العاطفة في اندفاعها وتوقها إلى الخلاص، فإن قيادة الحركة تمثل المنطق في تحصيل النتائج السياسية من هذا الاندفاع، وفي تجميع السلطة ورسملتها. تبدو هذه العلاقة مرئية في السودان، ولكنها ليست كذلك في الجزائر، حيث لا تزال الحركة الديمقراطية من دون قيادة لها، على الرغم من أن الحركة في كلا البلدين تواجه سلطة العسكر.
في الجزائر كما في السودان، ينظر العسكر إلى الدولة على أنها جزء منهم وليس العكس.
في الجزائر، حين بدا للعسكر الذين يمتلكون الكلمة العليا في الدولة أن قضية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة خاسرة، اختطّ قادة الجيش نهجاً "شعبياً"، تمثل في عزل بوتفليقة، وملاحقة رموز فاسدين من أركان النظام، من أمنيين وماليين وسياسيين، منتظرين أن يقود هذا إلى انتهاء الاحتجاجات وهدوء الشارع. وحين تواصلت الاحتجاجات المطالبة برحيل النظام، أي بنقل السلطة إلى المدنيين، أي بإحالة الجيش إلى مؤسسةٍ تابعة للدولة وليس العكس، غضب العسكريون وبدأوا باعتقال المتظاهرين وإغلاق الصحف والمواقع الإلكترونية .. الخ، قائلين: "لقد قدّمنا تنازلات لكم". لا يبدو للعسكر أن اعتقال الفاسدين والسماح بحرية التظاهر مثلاً هي استعادة حقوق مسلوبة، بل تبدو تنازلاتٍ على المتظاهرين تقديرها، والكف عن التظاهر.
وفي السودان تكرر الشيء نفسه، عبر عزل عمر البشير ثم وزير دفاعه عوض بن عوف، على يد مجلس عسكري، أدرك أن قضية البشير خاسرة أيضاً، وأن مهمة إنقاذ النظام بدون البشير أسهل، والأهم أنها مهمةٌ ممكنة التنفيذ هناك، على خلاف الحال في سورية مثلاً. لم ينتظر المجلس العسكري الانتقالي في السودان استمرار الثورة بعد ذلك، فقد اعتبر نفسه جزءاً منها وأن غايتها تحققت على يده. لا يستوعب أفراد المجلس العسكري أن يكونوا تحت إمرة حكومة مدنية، فالجيش، كما يبدو لهم، ليس ذراعاً عسكرية لحكومة مدنية، إنه بالأحرى مركز القوة في الدولة وفي المجتمع، وبالتالي هو مصدر السلطة، ومصدر الشرعية. أو بكلام آخر، ليست الحكومة، بنظر العسكر، سوى الجناح غير العسكري للجيش. لا يتعلق تمسّك العسكر بالسلطة بمصالح مكرسة ومرعية فقط، بل يتعلق أيضاً بنمط وعي مكرّس، يدرك الدولة أنها مجرد امتداد متعدّد الوظائف للجيش.
مثالا على هذا التصور "العسكري"، يبرّر المجلس العسكري الانتقالي في السودان عدم تسليم السلطة للمدنيين، بحجة وجود صراعات مسلحة في غير مكان من البلاد. وكأن الجيش في أي بلدٍ كان لا يمكنه التصدي لحركات مسلحة، ما لم تكن السلطة في يد القادة العسكريين في الجيش. على هذا، ينبغي أن يطالب رجال الإطفاء مثلاً باستلام السلطة السياسية في فترة اندلاع الحرائق. والواقع أن امتلاك القوة والاعتياد على تجاهل الشارع، أو الاعتياد على ترويعه، حين يستدرك حقوقه، ويطالب بها ويشكل خطراً على "الدولة"، هو ما جعل العسكريين يعون الدولة أنها لهم، وجزء من مؤسستهم، (دولة لجيش لا جيش لدولة).
ولهذا الوعي "العسكري" امتداد مدني غير قليل، ذلك أن التماهي بين الجيش والدولة يملأ
واضحٌ أن قيادة الثورة السودانية تتقدم أكثر على طريق تفكيك السيطرة العسكرية، فهي تعتمد على مبدأ التقدم التدريجي، واحتلال المواقع، وليس على المبدأ الأقصى المتمثل في "إسقاط النظام بكل أركانه ورموزه" الذي ما زالت ترفعه الحركة الجزائرية. في السودان، عدلت قوة الشارع الثائر ميزان القوى في المجتمع، وتمكّنت قوى الثورة من فرض اتفاق 5 يوليو/ تموز في مقابل تجميد الدعوة إلى العصيان الذي كان مخططاً له في 14 من الشهر نفسه. أي إنها ترجمت توازن القوى هذا، مشفوعاً بعوامل خارجية، مثل موقف الاتحاد الأفريقي، في بنود اتفاق، أي ترجمته إلى مكاسب سياسية.
من نافل القول أن المجلس العسكري السوداني، على الرغم من نجاحه، بحسب وثيقة الاتفاق السياسي، في تثبيت سيطرته على الجيش والأمن في الحكومة المدنية الانتقالية من خلال احتفاظه بوزارتي الدفاع والداخلية، سوف يحاول الانقضاض على الاتفاق الذي وقعه مع قوى الحرية والتغيير، مراهناً على تعب الحراك الديمقراطي وتخامده، وعلى امتلاكه القوة العسكرية الأهم، للتهرّب من بند التحقيق في عملية فض الاعتصام، سيما أن الهتاف الأول للتجمع الشعبي الذي دعت إليه قوى الحرية والتغيير، عقب التوقيع على الاتفاق كان "القصاص لدماء الشهداء". ولكن مهمة عسكريي السودان ستكون أصعب من مهمة نظرائهم في الجزائر، نظراً إلى عدم تبلور قيادة جزائرية للحركة الديمقراطية هناك، في مقابل وجود قيادة ثورية سودانية، تتمتع بنضج سياسي واضح، لم يتوفر لبقية الثورات العربية الأخرى.