كلَّ صباح قبل أن أنام، أختلس النظر إليه من شباك غرفتي. هو في الستين من عمره، لكنّك حين ترى تقاسيم وجهه تعتقد أنّ عمره تجاوز الألف عام. يقف أمام بيته، يتلفّت يميناً وشمالاً، ثم يمشي محنيّ الظهر. يحني ظهره حتّى تكاد رأسه تدوس على قدميه. عندما يصل إلى آخر الشارع، يلتفت من جديد إلى الخلف، ويبدأ بالركض فجأة، كلصّ مُلاحَـق، إلى أن يغيب عن ناظري.
فعله اليومي هذا أثار فضولي، فقرّرت ملاحقته. وهذا ما فعلته في اليوم التالي.انتظرته في آخر الشارع، وما إن بدأ الركض حتّى لحقتُ به. كان يجري بسرعة لم أتوقّعها من رجل ستينيّ. كاد قلبي يتوقّف تعباً وأنا أحاول اللحاق بهذا العجوز. يجري ويُمسِك ببنطاله بكلتا يديه خوفاً من سقوطه، نظراً لنحْفه الغريب، وكلّما اعترضت طريقه سيارة، دبابة، نملة... يقفز من فوقها بسهولة، وكأنّه يمتلك جناحين. أما أنا الشاب فكنت أركض خلفه مرخياً لساني أمامي ككلب مُنهَك، إلى أن توقّف أخيراً عند بناء مهجور، التفت يميناً وشمالاً ثم دخل.
اختبأتُ، وبدأتُ أراقبه متلهفاً. تناول فأساً من بين الركام، وبدا لي أنُه كان قد خبّأه مسبقاً. لم يأخذ الحفر وقتاً طويلاً، يبدو أنُه خبّأ كنزه على عمق خفيض، عندما انتهى أخرج شيئاً كبيراً، وضمّه إلى صدره. هذا الشيء لم يكن سوى طفل صغير، طفل ميت ضمّه إلى صدره لثوانٍ معدودة وأعاده إلى الحفرة..
بعدها مدّ يده إلى داخل سترته المهترئة، وأخرج رغيف خبز ووضعه في الحفرة على الطفل الميت، وطمر الحفرة من جديد وخرج. تلفّت يميناً وشمالاً وعاد إلى الجري. لم ألحق به هذه المرة، مشيت مذهولاً إلى أن وصلت بيتي بعد خمس ساعات، علماً أنّ بيتي يحتاج ربع ساعة لأصل إليه. من يومها لم أعد أراقبه، كلما اقترب موعد خروجه المعتاد من البيت. ألجأ إلى فراشي، ألتفت يميناً وشمالاً وأختبئ تحت لحافي..
***
بروفا
والدي لشدة خوفه علينا من الاعتقال، ولكي يجعلنا نتعوّد على ظروف الاعتقال، بدأ منذ فترة بإجبارنا على ممارسة تمارين التعذيب. في كلّ صباح يوقظنا بسكب دلو من الماء على كلّ شخص، وبعد أن نبتلّ من الرأس حتّى القدمين، نصطفّ وراء بعضنا البعض ونحن نرتجف من الخوف، ونقوم، واحداً تلو الآخر، بإدخال سباباتنا في فيشة الكهرباء الموضوعة في الحائط.
أثناء التمرين تكون أمي واقفة وراء الباب تستمع إلى صراخنا.. في كثير من الأحيان أشعر أنّ أبي يتألّم للمشهد، وأحياناً أرى في عينيه دمعة على وشك التحرّك، لكنّه دائماً يتدارك أمره بأن يلومنا ويصرخ فينا "شو مفكّرين هنيك بدّن يطعموكن شوكلا مثلا".
أكثر من يعاني بيننا في تمارين التعذيب هي أختي الصغيرة ذات الشعر الكثيف، ففي كلّ مرّة يقف شعرها حتى يكاد يلامس السقف. المسكينة تبقى بعدها ساعة وهي تحاول إعادته لوضعه الطبيعي. لم يعتقل أحد منّا بعد، ولم نستفد شيئاً من تمارين التعذيب تلك، باستثناء أمر وحيد، وهو أننا حين تنقطع الكهرباء، يقوم كل واحد منّا بإمساك لمبة بيده لكي نضيء المنزل.
***
عيد
هذا العيد سنضع أختي الصغيرة، ذات الشعر الكثيف و"المنكوش" رعباً، بدلاً من الشجرة. سنقتلع دمعتين برّاقتين من عيني أمي، ونعلّقهما على أغصان الشجرة "أختي". لدينا الكثير من الثياب الملوّثة بالدم، سنلبسها لأبي ليؤدي دور بابا نويل. سنحتفل بالعيد إذاً، لكنّنا لن نطيل الاحتفال، خوفاً منّا أن نعتقد بأنّ أختي شجرة حقاً، فنقوم بإشعالها للتدفئة.
فعله اليومي هذا أثار فضولي، فقرّرت ملاحقته. وهذا ما فعلته في اليوم التالي.انتظرته في آخر الشارع، وما إن بدأ الركض حتّى لحقتُ به. كان يجري بسرعة لم أتوقّعها من رجل ستينيّ. كاد قلبي يتوقّف تعباً وأنا أحاول اللحاق بهذا العجوز. يجري ويُمسِك ببنطاله بكلتا يديه خوفاً من سقوطه، نظراً لنحْفه الغريب، وكلّما اعترضت طريقه سيارة، دبابة، نملة... يقفز من فوقها بسهولة، وكأنّه يمتلك جناحين. أما أنا الشاب فكنت أركض خلفه مرخياً لساني أمامي ككلب مُنهَك، إلى أن توقّف أخيراً عند بناء مهجور، التفت يميناً وشمالاً ثم دخل.
اختبأتُ، وبدأتُ أراقبه متلهفاً. تناول فأساً من بين الركام، وبدا لي أنُه كان قد خبّأه مسبقاً. لم يأخذ الحفر وقتاً طويلاً، يبدو أنُه خبّأ كنزه على عمق خفيض، عندما انتهى أخرج شيئاً كبيراً، وضمّه إلى صدره. هذا الشيء لم يكن سوى طفل صغير، طفل ميت ضمّه إلى صدره لثوانٍ معدودة وأعاده إلى الحفرة..
بعدها مدّ يده إلى داخل سترته المهترئة، وأخرج رغيف خبز ووضعه في الحفرة على الطفل الميت، وطمر الحفرة من جديد وخرج. تلفّت يميناً وشمالاً وعاد إلى الجري. لم ألحق به هذه المرة، مشيت مذهولاً إلى أن وصلت بيتي بعد خمس ساعات، علماً أنّ بيتي يحتاج ربع ساعة لأصل إليه. من يومها لم أعد أراقبه، كلما اقترب موعد خروجه المعتاد من البيت. ألجأ إلى فراشي، ألتفت يميناً وشمالاً وأختبئ تحت لحافي..
***
بروفا
والدي لشدة خوفه علينا من الاعتقال، ولكي يجعلنا نتعوّد على ظروف الاعتقال، بدأ منذ فترة بإجبارنا على ممارسة تمارين التعذيب. في كلّ صباح يوقظنا بسكب دلو من الماء على كلّ شخص، وبعد أن نبتلّ من الرأس حتّى القدمين، نصطفّ وراء بعضنا البعض ونحن نرتجف من الخوف، ونقوم، واحداً تلو الآخر، بإدخال سباباتنا في فيشة الكهرباء الموضوعة في الحائط.
أثناء التمرين تكون أمي واقفة وراء الباب تستمع إلى صراخنا.. في كثير من الأحيان أشعر أنّ أبي يتألّم للمشهد، وأحياناً أرى في عينيه دمعة على وشك التحرّك، لكنّه دائماً يتدارك أمره بأن يلومنا ويصرخ فينا "شو مفكّرين هنيك بدّن يطعموكن شوكلا مثلا".
أكثر من يعاني بيننا في تمارين التعذيب هي أختي الصغيرة ذات الشعر الكثيف، ففي كلّ مرّة يقف شعرها حتى يكاد يلامس السقف. المسكينة تبقى بعدها ساعة وهي تحاول إعادته لوضعه الطبيعي. لم يعتقل أحد منّا بعد، ولم نستفد شيئاً من تمارين التعذيب تلك، باستثناء أمر وحيد، وهو أننا حين تنقطع الكهرباء، يقوم كل واحد منّا بإمساك لمبة بيده لكي نضيء المنزل.
***
عيد
هذا العيد سنضع أختي الصغيرة، ذات الشعر الكثيف و"المنكوش" رعباً، بدلاً من الشجرة. سنقتلع دمعتين برّاقتين من عيني أمي، ونعلّقهما على أغصان الشجرة "أختي". لدينا الكثير من الثياب الملوّثة بالدم، سنلبسها لأبي ليؤدي دور بابا نويل. سنحتفل بالعيد إذاً، لكنّنا لن نطيل الاحتفال، خوفاً منّا أن نعتقد بأنّ أختي شجرة حقاً، فنقوم بإشعالها للتدفئة.