عادة ما تفترض كتب السيرة الذّاتيّة نوعًا من البوح قد يصل حدود الاعتراف بتفاصيل الحياة الذّاتيّة للكاتب، فيرشح فعل الكتابة بين نفض الغبار عن دواخل الذّات، وبين كشف صلاتها بالعالم، وهي في ألوانها المختلفة كشف متفاوت أمام مرآة الحياة وتدقيق في التّجربة الإنسانيّة في جميع تلوّناتها. وإذ كنّا نقف في أحيان كثيرة على وجوه التّجربة الأدبيّة أو الثقافيّة لكتّاب السيرة وهي مبثوثة بين ثنايا كشوفاتهم الذّاتية، فإنّنا قد لا ندرك بشكل كليّ "السيرة الفكريّة" للكاتب أو المثقّف ما دامت متذرية في شرايين الكتابة. وكم نحتاج في مشهدنا الثقافي العربي إلى كتابات ترسم تفاصيل هذه السيرة، فتنشئ لها لونا أدبيّا صافيا قد يبدأ خجولاً في انبثاقته ولكنّه يغدو في يوم من الأيّام جسورا على العراء، فيستلهم من السيرة الذّاتيّة هذا النّسغ الحيّ وهو مواجهة المرآة. ويُطالعنا في هذا السياق كتاب حمد بن عبد العزيز الكوّاري الممهور بعنوان "على قدر أهل العزم" والصّادر عن دار بلومزبري (2015) ويتوزّع على تسعة فصول.
وإذ يصدر هذا الكتاب عن ذاتٍ متعدّدة الوجوه، فإنّه يعبّر عن هذه الخطوة الإبداعيّة في بلورة ممكنات أو مقوّمات فنّ "السيرة الفكريّة"، فالكاتب وزير الثقافة بقطر، ودبلوماسي سابق وشغل أكثر من مهمّة ثقافيّة ودبلوماسية على امتداد عقود، وهو قبل كلّ ذلك مثقّف من طراز المثقّفين المستنيرين، الذين وسموا ممارستهم السياسيّة بسياسة الثقافة. وقلّما عثرنا على رجل من رجالات السياسة مهموما بالكتابة وبشواغل الثقافة في مشهدنا السياسي العربي، حيث تبقى الثقافة حتّى لدى أغلب وزراء الثقافة العرب واجهة هامشيّة للمعترك السياسي، فتغيب عنها الرّؤية والمشروع والأفق الحضاري.
ما التّشديد على تصنيف الكتاب ضمن حدود "السيرة الفكريّة" إلاّ خيار واع لزاوية نظر، تختلف أيّما اختلاف عن "السيرة الذّاتيّة"، رغم التّقاطعات بينهما. لذا فالكتاب ليس شهادة عن مرحلة، على ما في السيرة من تدوين لشهادة على عصر أو حادثة، ولكنّ الشّهادة قد تستبعد نهائيّا الالتفات النّسبي إلى فنّ السيرة عمومًا، فكانت السيرة الفكريّة أوسع أفقا من الشّهادة رغم اتّفاقهما في المنطلق الذّاتي، وتكون الذّات في السيرة الفكريّة فاعلة وعليها تدور الأحداث وتصدر المواقف، وهاجسها الرّئيسي تناول "الذّات الفكريّة" في اشتغالها الدّاخلي والخارجي على السواء، أكثر من الاهتمام المنفرد بمواقفها الظّاهرة.
اللافت للنّظر في هذا الكتاب أنّه يصدر عن ذات فاعلة في الثقافة بل تتصدّر هرم الفعل، أي تجمع بين الرّؤية والمسؤوليّة. وإذ يستبعد حمد بن عبد العزيز الكوّاري انخراط كتابه في السيرة، بقوله "لم يكن قصدي في بادئ الأمر أن أروي سيرة حياتي للنّاس فلذلك شروط وأوان لم يحن بعد"، فإنّ هذا العزم على تجنب "رواية سيرة الحياة" قد يبدو قرارًا مفصليًّا يتّجه فيه الكتاب إلى تخيّر الجنس الأدبي، الذي يكتب فيه، لكنّه قرار مراوغ أيضًا، إذ إن للكتابة أحيانًا مشيئتها، حين تتخيّر بدورها تسلّل عناصر السيرة الذّاتيّة إلى الكتاب باحتشام. من ذلك أنّنا سنعثر في السيرة الفكريّة للدكتور حمد على بعض من المخاتلة التي يستدعي فيها الكتاب اعترافات دقيقة، تضفي على الكتاب دفقه الصّادق، فالكتاب يقرّ العزم على التصدّي لـ"قضايا الثقافة والدبلوماسيّة والتراث والفنّ والأدب" ولكنّه لا يكتفي بذلك لأنّه يعرض حوارًا للذّات المثقّفة مع زمنها، الذي يعجّ باحتدام هذه القضايا ويحثّها على مراجعة مكوّناتها.
المرأة والعلم
جالسًا في بيته قبالة البحر في رأس لفّان، شمال قطر، يكتب الدكتور الكواري: "أتأمّل أمامي بعض فتنة البحر وجلاله في مدّه وجزره بينما تمتدّ ورائي الصّحراء شاسعة، أشاهد هناك في الأفق اللاّزوردي حاملات الغاز العملاقة خارجة من رأس لفّان متّجهة إلى مختلف بقاع الأرض"، مازجًا ذلك بمقوّم آخر من مقوّمات الكتاب؛ التّأمّل. فيتّخذ مكانه بين الصّحراء والبحر ناظرًا إليهما وفيهما مستنطقًا ذاته المنعكسة على صفحتيهما. وفي الجمع بين الصّحراء والبحر علامة على ربط المتباين والمشترك في آن، فاليابسة والماء وإن تباينا فبينهما تآلف المتخالف. وإذ يلخّص البحر والصّحراء ماضي الخليج العربي وحاضره، فإنّهما يشيران أيضًا إلى أنّ المثقّف لا يركب البحر ولا يمشي في الصّحراء فحسب، بل يطرقهما معًا، لأنّ كونه جماع بينهما، وقد يحتاج في ترحّله بينهما إلى بوصلة، ليست غير الرؤية الفكريّة والثقافيّة التي ترسم طرق الارتحال وتحدّد آفاقه.
من بين سمات تسلّل السيرة إلى الكتاب، تعرّض الكوّاري إلى صلته بالأدب حيث بيّن أنّه لم يكن في أوّل الأمر مشدودًا إليه إذ ارتكزت ثقافته الأولى على الأخذ بناصية "العلم النّافع"، ومثّلت دراسته بجامعة القاهرة منعطفًا في هذا الاتّجاه، فبدأت علاقته بالكتب تنمو من دون أن تتخلّى عن هالة احتكامها إلى "المنفعة" إلى حين زواجه من "أمّ تميم". ويصوّر الكوّاري هذا الحدث بأسلوب من كان في لحظة شكٍّ أو زيغٍ فقذف الله في قلبه نورًا، هو الزّوجة التي جعلها في صورة "الهادي" و"المنّ الربّاني": "قيّض الله لي من يجدّد عقيدتي تلك في التّعامل مع المعرفة". أسمعنا يومًا، أو قرأنا، سياسيًّا عربيًّا يبوح بأنّ زوجته "جدّدت له عقيدته" في كيفيّة نظره للمعرفة؟. ويواصل :"ممّا منّ به الله عليّ زوجة شغوف بالمطالعة تلتهم الروايات التهامًا". والأهمّ أنّ "أمّ تميم" قارئة تُحرّض على قراءة الأدب، حتّى أنّها جذبت الكوّاري إلى الرّواية فأصبح من مريديها، وخاصّة منها الرّواية التاريخيّة. ولا يخفى في هذا المقام الرفيع الحديث الشريف: "لا يُكرمهنّ إلاّ كريم ولا يُهينهنّ إلا لئيم".
ومن اللّحظات الحاسمة والجريئة في سيرة الكوّاري ما دار بينه وبين أمير بلده حين كان وزيرًا مكلّفًا بوزارة الإعلام (1997)، حيث بادر إلى الإشارة بلا جدوى وزارة الإعلام في الدّول الرّاقية، لأنّها تَحدُّ من حريّة التّعبير والتّفكير، فطالبه الأمير بإعداد تقرير عن هذه التصوّرات وصلتها بحريّة التّعبير، وبعد أن حمل إليه التّقرير لم يتردّد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الأمير الوالد لدولة قطر، في اتّخاذ قرار بإلغاء وزارة الإعلام. وتشير هذه الحادثة إلى صدقيّة السياسي المثقّف حين يغلّب الموقف على مصلحته انطلاقًا من قناعته الذّاتيّة، إذ يقول :"كان الوزير مكلّفًا بوزارة الإعلام ولم يكن في قرارة نفسه مقتنعًا بجدوى تخصيص وزارة لهذا القطاع الهامّ. ففي اعتقاده لا عمل لمثل هذه الوزارات إلاّ تقييد الحريات وممارسة الرّقابة وتوجيه النّاس وجهة واحدة بما ينافي حريّة الرّأي والتّعبير".
ويتقاطع هذا الموقف السياسي بالشّخصيّة المثقّفة، ويحمل أكثر من دلالة، فمن جهة يمنح هذا الموقف نوعًا من الإجلال لشخص السياسي ومن جهة ثانية يعكس انحيازه الواضح للمثقّفين ونضالهم من أجل الحريّات. واللاّفت أنّ الكوّاري يقدّم هذه الحادثة في شكل برْقي وباحتشام، في سياق ذكره لدور المجالس في الخليج العربي.
ولا يتردّد في تمحيص سيرة حياته الدّبلوماسيّة معتبرا أنّ المعرفة أرفع شأنًا من المناصب بل إنّها لبنة ضروريّة في تكوين الشّخصيّة السياسيّة، لذلك باح: "المنصب الذي ساقته لي الأقدار أكبر منّي ولا أستحقّه إلاّ إذا طوّرت معارفي وجوّدت أدواتي". وهو اعتراف فيه الكثير من "المحاسبة" للفترة الأولى التي تقلّد فيها الكوّاري عمله الدّبلوماسي ممّا جعله يسعى إلى التّحصيل الجامعي بعد التّخرّج، ليتحصّل على الماجستير ثمّ الدّكتوراه.
ولا يخفي الكوّاري نوعًا من المتعة التي يهفو إليها، ويتلذّذ بها، كلّما دار حديثه عن حماسته للتّعلّم ولنيل العلم وهو في لجّة المسؤوليّات السياسيّة والثقافيّة. ولعلّ من أطرف ما باح به صلته باللّغة الفرنسيّة، التي عرّج عليها في أكثر من موضع في الكتاب للدّلالة على موقعها في نفسه وتقديره لمثقّفيها ومفكّريها وأثرهم على الإنسانيّة جمعاء. ناهيك أنّه استعاد حادثة لقائه بالرئيس الفرنسي، فاليري جيسكار ديستان، في ظلّ غياب المترجم، وكيف استطاع التحدّث بالفرنسيّة بعد أن استعدّ لهذا اللّقاء، وأبدى الكوّاري حماسة لهذه اللّغة فسارع إلى تعلّم أصولها والاستمتاع بتلفّظها.
نهضة في قطر
وإذا كان الكاتب متلبّساً بالسيرة، تلبّسه بما فيها من إشارات لسياقات ومحفّزات فكره، فإنّه صمّم على أن ينطلق في سيرة هذا الفكر من منعطف تاريخي وثقافي هامّ أشّر لبداية نهضة تنويريّة في قطر؛ "الدّوحة عاصمة الثقافة العربيّة".
ولعلّ قطر من الدّول القليلة التي جعلت من هذه التّظاهرة بداية حقيقيّة لنواة مشروع ثقافي ما فتئ يتدعّم كلّ سنة. ولذلك فلم يكن الكوّاري مخطئًا حين جعل من هذه اللّحظة أسًّا لتصوّراته ورؤيته للثقافة العربيّة ودورها في المرحلة الرّاهنة وفي المستقبل المنظور. وأولى بالمشرفين على تظاهرات العاصمة العربيّة للثقافة أن يتفحّصوا النّموذج القطري، ليقفوا على أنّ المقوّم الرئيسي في مقاربة هذه التّظاهرة ليست الموارد الماليّة، وإنّما وضوح الرؤية وجديّة المشروع واجتراح مدى مستقبلي له لا يرهنه في زمنيّة التّظاهرة.
يعترف الكوّاري بأنّ المستمعين الذي تابعوا برنامجًا إذاعيًّا خاصًّا بمشروع"الدّوحة عاصمة الثقافة العربيّة" أبدوا اقتناعهم التام بفشل هذه التّظاهرة المنتظر، إذ تقلّد الكوّاري مسؤوليّة وزارة الثقافة سنة 2008 بينما ستنطلق الفعاليّات سنة 2010 وهي فترة وجيزة جدّا لإعداد فعاليات ورؤية وبرنامج يتوافق مع حجم التّظاهرة، وبيّن التّصويت السّالب "كارثة اتّصاليّة بالمعنى السياسي"، فكيف تقام تظاهرة من دون إيمان الجمهور بإمكانيّة نجاحها في دولة المشاريع النّاجحة؟. لكنّ الكوّاري الوزير قبل التّحدّي وخطّ في كتابه معالم الرؤية التي قادت "التّصويت السالب"، إلى قناعة راسخة بأن التّظاهرة شكّلت لحظة تأسيسيّة في تاريخ الثقافة القطريّة. انطلق الإعداد لرؤية العاصمة من خلال تقييم واستقراء تجارب العواصم العربيّة السابقة، فلا يمكن بناء تصوّر جديد من دون تقليب التصوّرات القديمة. وتمّ اختيار شعار "الثقافة العربيّة وطناً والدّوحة عاصمة"، وقد استدعى هذا الشّعار السّؤال المركزي الذي دارت عليه الفعاليّات؛ "مسألة الخصوصيّة الثقافيّة والنّزعة الكونيّة" وسنجد لهذا السّؤال أصداءه الواسعة في ثنايا الكتاب، حيث انشغل الكوّاري به انشغاله بالرؤية الثقافيّة المستقبليّة للإنسانيّة.
يكشف الكوّاري عن تصوّره لتفاصيل هذا السّؤال معتبرًا أنّ متعلّقاته مرتبطة بالإرث الاستعماري، وكأنّ السّؤال في حدّ ذاته غير نقيّ من شوائب التّركة الاستعماريّة ،وهو سؤال فرضه السياق الحضاري أكثر من كونه سؤالاً أصيلاً جادت به تفاعلات القضايا الدّاخليّة للمشهد الثقافي العربي، أي أنّ السياق العامّ هو الذي جعل هذا السّؤال مركزيًّا وضاغطًا على النّقاشات الدّائرة بين المثقفين العرب، وما كان للدّوحة أن تتجاهله رغم الوعي القويّ بمهاده وأبعاده. لذا تأخذ مسألة الثقافات المحليّة والهويّات الثقافيّة مكانها المميّز في القضايا التي يتناولها الكاتب الذي يقرّ بوجود مفارقة عاصفة جعلت من تيّار العولمة يواجه تيّار الدّاعين إلى الخصوصيّة الثقافيّة، ويبدّد القول إنّ عمليّات التّحديث رافقتها عمليات ابتلاع للثقافات المحليّة، فلا يمكن إنكار الانتشار السريع للقيم الثقافيّة الغربيّة في البلدان، التي سارت في طريق التّحديث، ولكنّ هذا "الانجراف" الممكن لبعض البلدان لم يخفِ صمودًا لبعض المكوّنات الثقافيّة التي امتنعت عن الابتلاع في السّوق، وهي إشارة لبيبة إلى إمكانيّة مواجهة بعض الصناعات المحليّة لغليان سوق المنتجات الرّمزيّة الغربيّة. ولكن من البيّن أنّ هذه المواجهة أخذت منحى طبيعيًّا لم يُسعف بإطار قانوني رشيد على شاكلة ما أقرّته بعض دول العالم، ومنها فرنسا، فيما يُعرف بـ"الاستثناء الثقافي"، إذ من واجب الدّولة حماية منتوجها الرّمزي بسنّ القوانين، لأنّ هذا المنتوج وإن تصدّى بـ"فطرة تكوينه" إلى نزعة جرفه فإنّه سيفقد على مرّ الزّمن قدرته النّضاليّة وسيذوي تدريجيًّا.
الإنسان الكوني والحداثة
ينتبه الكوّاري إلى اللّبس الحاصل بين العولمة والكونيّة، ويبدو في كتابه من أشدّ المدافعين عن "الكونيّة" وعن الإنسان الكوني الذي نطلق عليه اصطلاح "الإنسان الكوسموبوليتي"، وقاده تعرّضه إلى بيان هذا اللّبس إلى مقاربة مسألة الحداثة في جرأة وتروٍّ:" لا يزعمنّ أحد أنّ الحداثة بأصولها الغربيّة نزّاعة من جهة أخرى إلى إدخال الجميع في جلباب واحد. فأكثر ما يميّز الحداثة الحقّ هو الانفتاح والرّغبة عن التّنميط". وينبني هذا الدّفاع عن الحداثة على وعي جوهري بالجدل الدّائر في الغرب، حول الفروقات بين الحداثة وما بعد الحداثة.
ورغم أنّ الكوّاري لا يتعرّض مباشرة إلى هذا الجدل فإنّه بتمييزه بين "الحداثة الحقّ" و"الحداثة الباطلة" تورّط واضح في اتّخاذ موقف من هذا الجدل. الدّفاع عن الحداثة هو إقرار بزيغها عن أسسها الأصليّة وليس نقضا لماهيّتها ورسالتها. فقد انحرفت الحداثة عن مسارها بفعل الممارسة التاريخيّة التي جعلت الاستعمار مثلاً رديفًا للتّحديث في الرؤية الاستشراقيّة، ولكنّ العودة إلى ينابيع الحداثة من شأنه تصحيح مسار الحداثة والتّحديث أيضًا. ومن البيّن أنّ الكاتب لا يفرد للحداثة باباً ليتوسّع في نقاش ملابساتها، قدر ما ينشدّ إلى إبانة دقائق العلاقة بين الخصوصي والكوني، وهو لا يعود في هذه الإبانة إلى أمّهات المراجع لينهل منها، بل إنّه يستلّ رؤيته من صميم تجربته الذّاتيّة من خلال معايناته وتجواله في أصقاع العالم. بذلك يتفحّص الكوّاري كيفيّة تقبّل الثقافات للمنتجات المعولمة، ويعبّر عن ذلك بمصطلح "الإدراج"، وهو مصطلح يدعونا للتفكّر، فعادة ما تمّ استخدامه في عصر النّهضة الأوروبيّة، وتخصيصًا في مجال الفنون، حين أعيد النّظر في قائمة الفنون والقسمة فيما بين الفنون والحرّة والفنون الدّنيا، وتفترض القائمة "إدراجًا" لهذا الفنّ في قائمة من القائمتين، ويعني الإدراج تحديدًا لفروقات وتنزيلًا علميًّا في خانة، والأهمّ من كلّ ذلك تبديد الصبغة الصّراعيّة بين المدرجين فيما بينهم.
وتلك مسألة في غاية الأهميّة فالثقافة المحليّة تدرج نظيرتها "المعولمة" في قائمتها، وكأنّها تستضيفها من دون أن تُشهر صراعًا معها، أو من دون خوفٍ من أثر حلولها في رقعتها الطّبيعيّة، وهذا أمر يحتاج من دون أدنى شكّ إلى محاورة مطوّلة مع الكاتب، إذ كثيرًا ما نُظر إلى العلاقة بين الثقافة المحليّة والثقافة المعولمة أو الوافدة نظرة الصّراع القَدري، لأنّ منتجات الثقافة المعولمة تحمل بذور إفناء الثقافات المحليّة، لتتحوّل رقاعها الثقافيّة إلى مجرّد سوق لمنتجات العولمة.
لكنّ الكاتب يضع صُنافة لهذا الإدراج تتوزّع على أربعة أنواع، فإمّا أن يكون الإدراج بتعايش الحديث والقديم، وإمّا أن يكون بالتّمازج فيما بينهما، وإمّا أن يكون بإعادة تشكيل الحديث للقديم، وأخيرًا بصهر الحديث في القديم إلى حدٍّ يذوب فيه الحديث فيصبح من "صميم هذا التّقليد الثقافي".
وإذ يعتبر الكاتب أنّ عمليّات الإدراج تكتسي طابعًا تفاعليًّا، فإنّه يقرّ بثقة بالغة بأنّ الثقافات المحليّة ستظلّ حيّة أيًّا كان نوع الإدراج :" لست أعرف ثقافة تنبت كالفطر خارج سياق اجتماعي يحتضنه التاريخ والجغرافيا. فالثقافة بهذا المعنى متجذّرة أكثر ممّا نتوهّم. ولا يغرّنّنا جبروت آلة التّوزيع العالمي للمنتج الثقافي المصنوع. ومعنى هذا إذا تدبّرناه أنّ الثقافة محليّة بالضّرورة وبالطّبع، لا تزول إلاّ بزوال المجتمع الذي أنتجها".
وهذا رأي يؤسّس لفكرة "ديمومة الثقافات" واستحالة "تنميطها" ويشرّع لرؤية مخصوصة للهويّة الثقافيّة، وهي عماد المشروع الثقافي الذي بدأ في إرسائه الكوّاري في مستوى ذاتيّته الثقافيّة، وفي مستوى سياسته الثقافيّة في الوزارة. وكان من أثر هذه الرّؤية إنشاء "بيت الحكمة"، الذي فيه بلور فكرة "الاستئناف الحضاري" مع النّقاط المضيئة لحضارتنا العربيّة الإسلاميّة. فالمشروع يلخّص تجذّر الموقف من فاعليّة التّرجمة ودورها في التفاعل الحضاري، واعتبارها دعامة للحوار بين الحضارات. واهتمام الكوّاري بالترجمة جعله يولي عناية مخصوصة لهذا المجال في مستوى وزارته، من خلال الإصدرات القيّمة لمركز التّرجمة في الوزارة ومن أبرز إصداراته، ترجمة محاضرات حائزيّ جائزة نوبل. يتلمّس الكوّاري الخيط الرّفيع الذي تقوم عليه هذه المحاضرات، بانشدادها إلى محورين، فمن جهة يهفو الأدباء إلى تحقيق عالم "الإنسان الكوني" ومن جهة ثانية يسترعي انتباه الكوّاري أهميّة الأدب وخطورته، ومن أبهى ما يصيغ في هذا الصّدد اعتباره الأدب "صناعة للأمل وشكلًا من أشكال الحفاظ على الحياة وحبّها بتطويع اللّغات الخصوصيّة لقول جوهر الإنسان، وصنع لغة كونيّة يُنتقى معجمها من مآسي البشريّة ومن طوبى الحريّة في آن واحد". هكذا تنساب لغة الكوّاري فكأنّنا بمن يقرأ محاضرات نوبل يدخل عوالم الأدباء الكبار، أمثال يوسا ولوكليزيو وهارولد بنتر وألفريدا ياليناك وغاو كسنغيان، وغيرهم من الأدباء الذين شكّلوا ضمير هذا العالم في خيباته وأفراحه وتطلّعاته.
حبات العقد الثقافي والفنّي: بيت الحكمة، كتارا، سوق واقف
يلحق الكوّاري منشأة "بيت الحكمة" بمشروع ضخم آخر، "كتارا" و"سوق واقف"، المندرجين في صلب رؤية مخصوصة لـ"التّنمية الثقافيّة". المشترك بين هذين المشروعين يفوق الطّابع المعماري الأصيل الذي يعكس صمود الطّابع المعماري المحلّي وقدرته على التّعايش مع الفورة المعماريّة المعاصرة، التي اكتسحت قطر من دون أن تقصي المقوّمات الثقافيّة الأصيلة، وإنّما في ذلك الجوهر الثقافي الذي جعل منهما رئتين حقيقيّتين للمثقّف القطري وللزّائر العربي والأجنبي، حتّى أنّ زيارة قطر لا يمكن أن تخلو من التّجوال في هذين المعلمين. وليس بالأمر الهيّن أن يستطيع المثقّف بلورة نزر يسيرٍ من رؤيته للتنمية الثقافيّة بفضل المنجز الثقافي ذاته، ولكنّ هذين المعلمين حملا بصمة الإجابات عن أسئلة الرّاهن الثقافي العربي في مستوى النّقاش في قضيّة الخصوصيّة والكونيّة.
ولا يفوت الكوّاري الانتباه إلى العروة الوثقى بين "التنمية الثقافيّة" و"الدّيمقراطيّة" في المجال الثقافي التي تعطي كلّ فرد الحقّ في الثقافة: "اخترنا في قطر أن تذهب الثقافة إلى الناس في الأسواق والشّوارع وأن تندمج في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة حتّى نكسر الدّائرة المفرغة، التي تجعل الثقافة حكرًا على من لهم حظٌّ من التّعليم والثقافة." وبذلك ترتبط "التنمية الثقافيّة" بالبعد الاجتماعي وباليومي، لأنّ الثقافة حاجة أساسيّة من احتياجات المجتمع، ولا تكون "التّنمية الثقافيّة" مجرّد دعم للإنتاج الثقافي والإبداع الفنّي، وإنّما همّها الرئيسي هو الاستثمار في الإنسان، أو بتعبير الكوّاري:" الإنسان هو مبتدؤها وخبرها وأداتها ومحرّكها. إنّه غاية الغايات".
اليونسكو والدبلوماسية الثقافية
يفرد الكوّاري فصلا كاملاً للدّبلوماسيّة الثقافيّة إيمانًا منه بأهمّيتها في إرساء علاقات نوعيّة بين الدّول، أساسها التّبادل الثقافي وتداول المنتجات الرّمزيّة، فيرى أنّ إنشاء معهد العالم العربي بباريس يسّر مثل هذا التّجسيد لفكرة التّبادل والحوار الحضاري وجسّر العلاقات بين الشرق والغرب، معتبرًا أنّ الأسئلة الرئيسية التي تمحورت حولها رؤيته الدّبلوماسيّة تحوم حول ممكنات المشترك الإنساني وكيفيّة تقليص مسافة الاختلاف في الأهداف والمصالح السياسيّة، وكيف يتحقّق رهان الجمع بين المحلّي والكوني.
كلّ هذه الموجّهات قادت الكوّاري إلى تحديد اتّجاه للبوصلة، منتهيًا إلى القول بأنّ منظّمة اليونسكو هي "أبرز عنوان في الأجندة الجديدة لتغيير العالم". ودعاه هذا الحكم إلى تفصيل مسوّغاته، فاليونسكو، في رأيه، تعبّر عن الجوهري في أحلام الشّعوب، وهي إعلان عن الخروج من بوتقة "الثقافات المحليّة والقوميّة إلى أفق أوسع هو الثقافة العالميّة"، وهي"عقل جماعي" و"منتدى للحوار في مستقبل البشريّة"،وبذلك يمنحها مسؤوليّة في غاية الأهميّة، بل ينتهي إلى القول بأنّها تراهن على "صناعة البشر". ويوكل الكوّاري بهذا الاعتبار لليونسكو دورًا أساسيًّا في التّغيير العالمي، دوراً تحتاجه البشريّة في هذه المرحلة مثل حاجتها إلى دبلوماسيّة ثقافيّة قادرة على بثّ الأمل في كونيّة جامعة ترتفع عن المصالح الضيّقة للدّول، وتبشّر الإنسانيّة بغد أفضل لا تسوده الحروب والعنف. يكشف الكوّاري عن منزع إنساني عميق حيث ينقاد إلى هذه الرّؤية الجامعة من دون التّنكّر لأصوله العربيّة الإسلاميّة، مؤمنًا بوجود مشترك كوني يسمح بالتّعايش والتّبادل والتّفكير المشترك في مصير الإنسانيّة. فمن ممكنات الدّبلوماسيّة الثقافيّة ضمانها التنوّع الثقافي ومواجهتها أشكال الهيمنة ولكنّ ذلك يتطلّب لا محالة قدرة وجهازا لـ"إدارة التنوّع"، والكوّاري في هذا الاتّجاه يستبطن هاجسه في اعتبار اليونسكو قاطرة هذه الإدارة وهو الذي يترشّح لمنصب رئاسة المنظّمة وفي زاده كلّ هذه الرّؤية الواضحة.
الطريف في تناول الكوّاري مسألة الدّبلوماسيّة الثقافيّة، توقّفه عند عنصر أسماه بـ"دبلوماسيّة الهدايا"، بيّن فيه مدى أهميّة تبادل الأغراض الثقافيّة عبر التّاريخ القديم والوسيط، فاعتبر أنّ" اقتصاد الهدايا واقتصاد السّلع اقتصادان رمزيّان يكوّن كلّ منهما الآخر" وهذه إشارة لبيبة إلى جزء من أجزاء المنتجات الرّمزيّة في عصر لا يكاد يخلو من أهميّة للاقتصاد الرّمزي الذي يوفّر للبلدان ما لا يوفّره الاقتصاد المادّي أحيانًا. لذا يتفطّن الكوّاري إلى أهميّة التّعرّض إلى الصناعات الإبداعيّة وهي مسألة في غاية الخطورة اليوم، حيث ما تزال الثقافة العربيّة بعيدة نسبيًّا عما يسمّى بـ"سوق المنتجات الرّمزيّة" وما زال الحديث في هذا المضمار نظريًّا لا يشمل غير نماذج غربيّة وأميركيّة، بينما ترزح ثقافتنا في كلكل أسئلة أخرى وتتوغّل في استهلاك المنتجات الغربيّة من دون القدرة على صناعة منتجاتنا، وضخّها في السّوق العالميّة. وقد يكون الوعي بأهميّة هذا الجانب الثقافي مرحلة نحو إعادة التّفكير في أسئلة الثقافة العربيّة، وحين يتعرّض الكوّاري إلى هذا العنصر فإنّه يؤكّد على محوريّته ويسعى إلى تبيئته لئلا نبقى مجرّد مستهلكين ومستوردين.
التواصل الاجتماعي
لا يُخفي الكوّاري إعجابه بموقع الإنستغرام، وهو منتج رمزي أيضًا، فهو جداره المفضّل لتحرير تعليقاته وتبادل أفكاره مع الشباب وكلّ فئات المجتمع. ولكنّ هذا المكان الافتراضي الذي يدلق فيه أفكاره لا يحجب بأيّ حال المدن الأثيرة لديه، والتي شكّلت فضاء بزوغ وتبلور تجربته الثقافيّة والسياسيّة، إذ لا يمكن أن تنبت الأفكار خارج البيئات ولا يمكن للسيرة، ذاتيّة كانت أم فكريّة، أن تنشأ وتبني لها سيرورة خارج المكان والزّمان، أو بعيدًا عن البيئة البشريّة المحليّة أو العالميّة. لذا يولي الكوّاري للحواضر الثقافيّة التي عاش فيها أهميّة موصولة بما يسمّيه بـ"الاستكشاف الجمالي للعالم"، فكأنّه يتحدّث عن "الكينونة الجماليّة"، عندما يحدّد مآثر هذه الحواضر، فالقاهرة محطة التعرف على "الزّوجة" وتوسيع الآفاق في النّظر والحياة وهي بالنّسبة إليه "مدينة ساحرة فاتنة تمثّل دون مبالغة قلب الثقافة العربيّة النّابض"، أمّا بيروت، فهي "حاضرة التنوّع والاختلاف"، وهي من "علّمته فنّ الحياة"، وكانت دمشق "ملتقى الأدباء والفنّانين وأهل الفكر" و"عاصمة اللّغة العربيّة ومحرابها". ويتعرّض الكوّاري إلى هذه العواصم بتحليل يتخلّله حنين وعاطفة كأنّما المدن أمومة دائمة. ولا يحصر حكايته مع المدن في المدن العربيّة بل إنّه يذكر باريس ونيويورك على السّواء، وبذلك يجمع في استذكاره بين الشّرق والغرب، بين المحلّي والكوني، وينشدّ حديث المدن إلى كلّ ألوان الثقافة أي ألوان قوس قزح، فتتعالق بالأدب والرّسم. ويتدعّم بذلك القول بأنّ المثقّف أيًّا كان لبوسه فإنّه يتحلّى بميسم جمالي يجعله ينظر إلى العالم وقضاياه بشكل مختلف، فتنساب رؤيته انسيابيّة اللّغة التي أودعها الكوّاري في كتابه، فجاءت سيرته الفكريّة مراوحة بين صرامة العقل ومتطلّبات صياغة الفكرة وبين حساسيّة الكلمات ورهافتها وهي تمعن انسيابا، كأنّها عطش مستمرّ لتحقيق الممكن الإنساني وتحويل الثقافة إلى أساس مكين تنهض عليه العلاقات بين الأمم.
من المجلس إلى الميديا
نعثر في سيرة الكوّاري على تواصل مميّز مع كتّاب وباحثين من خلال استحضار أفكارهم ومحاورتها، إثر تحليل بعضها وتمحيصها. فالسيرة الفكريّة تواشج واختلاف مع سيرٍ أخرى، أي مع مواقف ورؤى للعالم قد تبدو مختلفة أو مؤتلفة. يستحضر الكوّاري مأثرة نيكولا بورداس "الفكرة القاتلة"، حين يدقّق في مسألة المجتمع التّواصلي منذ اليونان القديمة إلى حضارة الرّقمنة.
وإذا كان بورداس يعتقد بأنّ الفكرة الخلاّقة تنبجس من سطوة التّواصل فتجعل المجتمع مفتوحًا لا تحدّه حدود جغرافيّة، وأنّ "الأغورا" اليونانيّة هي نبع المجتمعات التّواصليّة، فإنّ الكوّاري رغم إشادته بمجمل أفكار بورداس فهو يؤصّل فكرة المجتمع التّواصلي في بيئته العربيّة. ونكاد نلحظ هذه المعالجة لمختلف القضايا الثقافيّة والسياسيّة التي يتطرّق إليها، إذ ينزع دائما إلى مقاربتها من زاوية انتمائه العروبي، فيذكّر بأنّ المجلس في الخليج العربي أو "الديوانيّة" هو الفضاء العمومي، الذي يسمح للنّاس بالتّواصل، وله وظائف سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، وهو يتوافق مع البنية القبليّة للمجتمع، وسُلّم قيمها حيث تتعلّم النّاشئة في المجلس مضامين هذه القيم وتتربّى عليها، ويصبح المجلس إطارًا تعليميًّا لآداب الحوار والمجالسة والنّقاش البنّاء، ففيه تُعرض أمّهات القضايا، وتتنوّع موضوعاتها من أدب وسياسة واجتماع، وتتلوّن بأمزجة الجلاّس، فتراوح بين الجدّ والهزل.
ولايفوت الكوّاري الإشادة بـ"نكهة القهوة العربيّة"، التي تميّز هذه المجالس، فكأنّما تحضر جميع المدركات في المجلس، من الإدراك العقلي إلى التذوّقي، ومن نكهة التّواصل إلى نكهة القهوة، التي تتّخذ لدى الكوّاري بعدا آخر فهي في تصوّره"جزء من إلقاء السّلام على الطّريقة العربيّة الإسلاميّة" ولذلك سعى إلى تسجيلها ضمن قائمة التراث الثقافي اللاّمادي. وإذا كان المجلس محافظا على طابعه التّواصلي فإنّ الكوّاري يلتفت أيضا إلى الميديا الجديدة، التي جعلت من التّلفزيون والإذاعات وسائط تقليديّة، بينما مجّدت الوسائط الجديدة لتعلن ميلاد العالم الافتراضي.
لا يهاجم الكوّاري هذه الوسائط بل يعي أنّها أحدثت انكسارات وقطائع معرفيّة جديرة بالانتباه، ولكن لا يمكن الاستغناء عنها لأنّها تدعم التّواصل بين النّاس وتغدق عليهم لونًا جديدًا من ألوان الحريّة. ومن مآثر هذه الميديا أنّها غيّرت من مقولة النّخبة والجمهور، فأصبحنا إزاء شعب افتراضي يمارس حقّه الطّبيعي في نيل المعلومة وفي تحليلها ونشرها والتّفاعل معها، وهو مسارٌ يتوافق مع الدّيمقراطيّة التّشاركيّة ويتيح للفرد حقّه في "المجلس الافتراضي الكوني".
الأفق الممكن
إنّ الحوار الحضاري والبحث عن "المشترك" الإنساني هو الرّهان الكبير، الذي لا ينفكّ يتسلّل إلى فصول الكتاب، ولذلك تبدو هويّة الكوّاري المثقّف متلبّسة برافدين أساسيّين هما في الأصل النّواة الصلبة لتفكيره، ويتوحّدان في "الدبلوماسية الثقافيّة"، أي جماع الثقافة والسياسة في إطار مشروع مستقبلي يُسعف الثقافات المحليّة، ويربطها بأفق كوني ومصير إنساني مشترك.
وإذ يصدر هذا الكتاب عن ذاتٍ متعدّدة الوجوه، فإنّه يعبّر عن هذه الخطوة الإبداعيّة في بلورة ممكنات أو مقوّمات فنّ "السيرة الفكريّة"، فالكاتب وزير الثقافة بقطر، ودبلوماسي سابق وشغل أكثر من مهمّة ثقافيّة ودبلوماسية على امتداد عقود، وهو قبل كلّ ذلك مثقّف من طراز المثقّفين المستنيرين، الذين وسموا ممارستهم السياسيّة بسياسة الثقافة. وقلّما عثرنا على رجل من رجالات السياسة مهموما بالكتابة وبشواغل الثقافة في مشهدنا السياسي العربي، حيث تبقى الثقافة حتّى لدى أغلب وزراء الثقافة العرب واجهة هامشيّة للمعترك السياسي، فتغيب عنها الرّؤية والمشروع والأفق الحضاري.
ما التّشديد على تصنيف الكتاب ضمن حدود "السيرة الفكريّة" إلاّ خيار واع لزاوية نظر، تختلف أيّما اختلاف عن "السيرة الذّاتيّة"، رغم التّقاطعات بينهما. لذا فالكتاب ليس شهادة عن مرحلة، على ما في السيرة من تدوين لشهادة على عصر أو حادثة، ولكنّ الشّهادة قد تستبعد نهائيّا الالتفات النّسبي إلى فنّ السيرة عمومًا، فكانت السيرة الفكريّة أوسع أفقا من الشّهادة رغم اتّفاقهما في المنطلق الذّاتي، وتكون الذّات في السيرة الفكريّة فاعلة وعليها تدور الأحداث وتصدر المواقف، وهاجسها الرّئيسي تناول "الذّات الفكريّة" في اشتغالها الدّاخلي والخارجي على السواء، أكثر من الاهتمام المنفرد بمواقفها الظّاهرة.
اللافت للنّظر في هذا الكتاب أنّه يصدر عن ذات فاعلة في الثقافة بل تتصدّر هرم الفعل، أي تجمع بين الرّؤية والمسؤوليّة. وإذ يستبعد حمد بن عبد العزيز الكوّاري انخراط كتابه في السيرة، بقوله "لم يكن قصدي في بادئ الأمر أن أروي سيرة حياتي للنّاس فلذلك شروط وأوان لم يحن بعد"، فإنّ هذا العزم على تجنب "رواية سيرة الحياة" قد يبدو قرارًا مفصليًّا يتّجه فيه الكتاب إلى تخيّر الجنس الأدبي، الذي يكتب فيه، لكنّه قرار مراوغ أيضًا، إذ إن للكتابة أحيانًا مشيئتها، حين تتخيّر بدورها تسلّل عناصر السيرة الذّاتيّة إلى الكتاب باحتشام. من ذلك أنّنا سنعثر في السيرة الفكريّة للدكتور حمد على بعض من المخاتلة التي يستدعي فيها الكتاب اعترافات دقيقة، تضفي على الكتاب دفقه الصّادق، فالكتاب يقرّ العزم على التصدّي لـ"قضايا الثقافة والدبلوماسيّة والتراث والفنّ والأدب" ولكنّه لا يكتفي بذلك لأنّه يعرض حوارًا للذّات المثقّفة مع زمنها، الذي يعجّ باحتدام هذه القضايا ويحثّها على مراجعة مكوّناتها.
المرأة والعلم
جالسًا في بيته قبالة البحر في رأس لفّان، شمال قطر، يكتب الدكتور الكواري: "أتأمّل أمامي بعض فتنة البحر وجلاله في مدّه وجزره بينما تمتدّ ورائي الصّحراء شاسعة، أشاهد هناك في الأفق اللاّزوردي حاملات الغاز العملاقة خارجة من رأس لفّان متّجهة إلى مختلف بقاع الأرض"، مازجًا ذلك بمقوّم آخر من مقوّمات الكتاب؛ التّأمّل. فيتّخذ مكانه بين الصّحراء والبحر ناظرًا إليهما وفيهما مستنطقًا ذاته المنعكسة على صفحتيهما. وفي الجمع بين الصّحراء والبحر علامة على ربط المتباين والمشترك في آن، فاليابسة والماء وإن تباينا فبينهما تآلف المتخالف. وإذ يلخّص البحر والصّحراء ماضي الخليج العربي وحاضره، فإنّهما يشيران أيضًا إلى أنّ المثقّف لا يركب البحر ولا يمشي في الصّحراء فحسب، بل يطرقهما معًا، لأنّ كونه جماع بينهما، وقد يحتاج في ترحّله بينهما إلى بوصلة، ليست غير الرؤية الفكريّة والثقافيّة التي ترسم طرق الارتحال وتحدّد آفاقه.
من بين سمات تسلّل السيرة إلى الكتاب، تعرّض الكوّاري إلى صلته بالأدب حيث بيّن أنّه لم يكن في أوّل الأمر مشدودًا إليه إذ ارتكزت ثقافته الأولى على الأخذ بناصية "العلم النّافع"، ومثّلت دراسته بجامعة القاهرة منعطفًا في هذا الاتّجاه، فبدأت علاقته بالكتب تنمو من دون أن تتخلّى عن هالة احتكامها إلى "المنفعة" إلى حين زواجه من "أمّ تميم". ويصوّر الكوّاري هذا الحدث بأسلوب من كان في لحظة شكٍّ أو زيغٍ فقذف الله في قلبه نورًا، هو الزّوجة التي جعلها في صورة "الهادي" و"المنّ الربّاني": "قيّض الله لي من يجدّد عقيدتي تلك في التّعامل مع المعرفة". أسمعنا يومًا، أو قرأنا، سياسيًّا عربيًّا يبوح بأنّ زوجته "جدّدت له عقيدته" في كيفيّة نظره للمعرفة؟. ويواصل :"ممّا منّ به الله عليّ زوجة شغوف بالمطالعة تلتهم الروايات التهامًا". والأهمّ أنّ "أمّ تميم" قارئة تُحرّض على قراءة الأدب، حتّى أنّها جذبت الكوّاري إلى الرّواية فأصبح من مريديها، وخاصّة منها الرّواية التاريخيّة. ولا يخفى في هذا المقام الرفيع الحديث الشريف: "لا يُكرمهنّ إلاّ كريم ولا يُهينهنّ إلا لئيم".
ومن اللّحظات الحاسمة والجريئة في سيرة الكوّاري ما دار بينه وبين أمير بلده حين كان وزيرًا مكلّفًا بوزارة الإعلام (1997)، حيث بادر إلى الإشارة بلا جدوى وزارة الإعلام في الدّول الرّاقية، لأنّها تَحدُّ من حريّة التّعبير والتّفكير، فطالبه الأمير بإعداد تقرير عن هذه التصوّرات وصلتها بحريّة التّعبير، وبعد أن حمل إليه التّقرير لم يتردّد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الأمير الوالد لدولة قطر، في اتّخاذ قرار بإلغاء وزارة الإعلام. وتشير هذه الحادثة إلى صدقيّة السياسي المثقّف حين يغلّب الموقف على مصلحته انطلاقًا من قناعته الذّاتيّة، إذ يقول :"كان الوزير مكلّفًا بوزارة الإعلام ولم يكن في قرارة نفسه مقتنعًا بجدوى تخصيص وزارة لهذا القطاع الهامّ. ففي اعتقاده لا عمل لمثل هذه الوزارات إلاّ تقييد الحريات وممارسة الرّقابة وتوجيه النّاس وجهة واحدة بما ينافي حريّة الرّأي والتّعبير".
ويتقاطع هذا الموقف السياسي بالشّخصيّة المثقّفة، ويحمل أكثر من دلالة، فمن جهة يمنح هذا الموقف نوعًا من الإجلال لشخص السياسي ومن جهة ثانية يعكس انحيازه الواضح للمثقّفين ونضالهم من أجل الحريّات. واللاّفت أنّ الكوّاري يقدّم هذه الحادثة في شكل برْقي وباحتشام، في سياق ذكره لدور المجالس في الخليج العربي.
ولا يتردّد في تمحيص سيرة حياته الدّبلوماسيّة معتبرا أنّ المعرفة أرفع شأنًا من المناصب بل إنّها لبنة ضروريّة في تكوين الشّخصيّة السياسيّة، لذلك باح: "المنصب الذي ساقته لي الأقدار أكبر منّي ولا أستحقّه إلاّ إذا طوّرت معارفي وجوّدت أدواتي". وهو اعتراف فيه الكثير من "المحاسبة" للفترة الأولى التي تقلّد فيها الكوّاري عمله الدّبلوماسي ممّا جعله يسعى إلى التّحصيل الجامعي بعد التّخرّج، ليتحصّل على الماجستير ثمّ الدّكتوراه.
ولا يخفي الكوّاري نوعًا من المتعة التي يهفو إليها، ويتلذّذ بها، كلّما دار حديثه عن حماسته للتّعلّم ولنيل العلم وهو في لجّة المسؤوليّات السياسيّة والثقافيّة. ولعلّ من أطرف ما باح به صلته باللّغة الفرنسيّة، التي عرّج عليها في أكثر من موضع في الكتاب للدّلالة على موقعها في نفسه وتقديره لمثقّفيها ومفكّريها وأثرهم على الإنسانيّة جمعاء. ناهيك أنّه استعاد حادثة لقائه بالرئيس الفرنسي، فاليري جيسكار ديستان، في ظلّ غياب المترجم، وكيف استطاع التحدّث بالفرنسيّة بعد أن استعدّ لهذا اللّقاء، وأبدى الكوّاري حماسة لهذه اللّغة فسارع إلى تعلّم أصولها والاستمتاع بتلفّظها.
نهضة في قطر
وإذا كان الكاتب متلبّساً بالسيرة، تلبّسه بما فيها من إشارات لسياقات ومحفّزات فكره، فإنّه صمّم على أن ينطلق في سيرة هذا الفكر من منعطف تاريخي وثقافي هامّ أشّر لبداية نهضة تنويريّة في قطر؛ "الدّوحة عاصمة الثقافة العربيّة".
ولعلّ قطر من الدّول القليلة التي جعلت من هذه التّظاهرة بداية حقيقيّة لنواة مشروع ثقافي ما فتئ يتدعّم كلّ سنة. ولذلك فلم يكن الكوّاري مخطئًا حين جعل من هذه اللّحظة أسًّا لتصوّراته ورؤيته للثقافة العربيّة ودورها في المرحلة الرّاهنة وفي المستقبل المنظور. وأولى بالمشرفين على تظاهرات العاصمة العربيّة للثقافة أن يتفحّصوا النّموذج القطري، ليقفوا على أنّ المقوّم الرئيسي في مقاربة هذه التّظاهرة ليست الموارد الماليّة، وإنّما وضوح الرؤية وجديّة المشروع واجتراح مدى مستقبلي له لا يرهنه في زمنيّة التّظاهرة.
يعترف الكوّاري بأنّ المستمعين الذي تابعوا برنامجًا إذاعيًّا خاصًّا بمشروع"الدّوحة عاصمة الثقافة العربيّة" أبدوا اقتناعهم التام بفشل هذه التّظاهرة المنتظر، إذ تقلّد الكوّاري مسؤوليّة وزارة الثقافة سنة 2008 بينما ستنطلق الفعاليّات سنة 2010 وهي فترة وجيزة جدّا لإعداد فعاليات ورؤية وبرنامج يتوافق مع حجم التّظاهرة، وبيّن التّصويت السّالب "كارثة اتّصاليّة بالمعنى السياسي"، فكيف تقام تظاهرة من دون إيمان الجمهور بإمكانيّة نجاحها في دولة المشاريع النّاجحة؟. لكنّ الكوّاري الوزير قبل التّحدّي وخطّ في كتابه معالم الرؤية التي قادت "التّصويت السالب"، إلى قناعة راسخة بأن التّظاهرة شكّلت لحظة تأسيسيّة في تاريخ الثقافة القطريّة. انطلق الإعداد لرؤية العاصمة من خلال تقييم واستقراء تجارب العواصم العربيّة السابقة، فلا يمكن بناء تصوّر جديد من دون تقليب التصوّرات القديمة. وتمّ اختيار شعار "الثقافة العربيّة وطناً والدّوحة عاصمة"، وقد استدعى هذا الشّعار السّؤال المركزي الذي دارت عليه الفعاليّات؛ "مسألة الخصوصيّة الثقافيّة والنّزعة الكونيّة" وسنجد لهذا السّؤال أصداءه الواسعة في ثنايا الكتاب، حيث انشغل الكوّاري به انشغاله بالرؤية الثقافيّة المستقبليّة للإنسانيّة.
يكشف الكوّاري عن تصوّره لتفاصيل هذا السّؤال معتبرًا أنّ متعلّقاته مرتبطة بالإرث الاستعماري، وكأنّ السّؤال في حدّ ذاته غير نقيّ من شوائب التّركة الاستعماريّة ،وهو سؤال فرضه السياق الحضاري أكثر من كونه سؤالاً أصيلاً جادت به تفاعلات القضايا الدّاخليّة للمشهد الثقافي العربي، أي أنّ السياق العامّ هو الذي جعل هذا السّؤال مركزيًّا وضاغطًا على النّقاشات الدّائرة بين المثقفين العرب، وما كان للدّوحة أن تتجاهله رغم الوعي القويّ بمهاده وأبعاده. لذا تأخذ مسألة الثقافات المحليّة والهويّات الثقافيّة مكانها المميّز في القضايا التي يتناولها الكاتب الذي يقرّ بوجود مفارقة عاصفة جعلت من تيّار العولمة يواجه تيّار الدّاعين إلى الخصوصيّة الثقافيّة، ويبدّد القول إنّ عمليّات التّحديث رافقتها عمليات ابتلاع للثقافات المحليّة، فلا يمكن إنكار الانتشار السريع للقيم الثقافيّة الغربيّة في البلدان، التي سارت في طريق التّحديث، ولكنّ هذا "الانجراف" الممكن لبعض البلدان لم يخفِ صمودًا لبعض المكوّنات الثقافيّة التي امتنعت عن الابتلاع في السّوق، وهي إشارة لبيبة إلى إمكانيّة مواجهة بعض الصناعات المحليّة لغليان سوق المنتجات الرّمزيّة الغربيّة. ولكن من البيّن أنّ هذه المواجهة أخذت منحى طبيعيًّا لم يُسعف بإطار قانوني رشيد على شاكلة ما أقرّته بعض دول العالم، ومنها فرنسا، فيما يُعرف بـ"الاستثناء الثقافي"، إذ من واجب الدّولة حماية منتوجها الرّمزي بسنّ القوانين، لأنّ هذا المنتوج وإن تصدّى بـ"فطرة تكوينه" إلى نزعة جرفه فإنّه سيفقد على مرّ الزّمن قدرته النّضاليّة وسيذوي تدريجيًّا.
الإنسان الكوني والحداثة
ينتبه الكوّاري إلى اللّبس الحاصل بين العولمة والكونيّة، ويبدو في كتابه من أشدّ المدافعين عن "الكونيّة" وعن الإنسان الكوني الذي نطلق عليه اصطلاح "الإنسان الكوسموبوليتي"، وقاده تعرّضه إلى بيان هذا اللّبس إلى مقاربة مسألة الحداثة في جرأة وتروٍّ:" لا يزعمنّ أحد أنّ الحداثة بأصولها الغربيّة نزّاعة من جهة أخرى إلى إدخال الجميع في جلباب واحد. فأكثر ما يميّز الحداثة الحقّ هو الانفتاح والرّغبة عن التّنميط". وينبني هذا الدّفاع عن الحداثة على وعي جوهري بالجدل الدّائر في الغرب، حول الفروقات بين الحداثة وما بعد الحداثة.
ورغم أنّ الكوّاري لا يتعرّض مباشرة إلى هذا الجدل فإنّه بتمييزه بين "الحداثة الحقّ" و"الحداثة الباطلة" تورّط واضح في اتّخاذ موقف من هذا الجدل. الدّفاع عن الحداثة هو إقرار بزيغها عن أسسها الأصليّة وليس نقضا لماهيّتها ورسالتها. فقد انحرفت الحداثة عن مسارها بفعل الممارسة التاريخيّة التي جعلت الاستعمار مثلاً رديفًا للتّحديث في الرؤية الاستشراقيّة، ولكنّ العودة إلى ينابيع الحداثة من شأنه تصحيح مسار الحداثة والتّحديث أيضًا. ومن البيّن أنّ الكاتب لا يفرد للحداثة باباً ليتوسّع في نقاش ملابساتها، قدر ما ينشدّ إلى إبانة دقائق العلاقة بين الخصوصي والكوني، وهو لا يعود في هذه الإبانة إلى أمّهات المراجع لينهل منها، بل إنّه يستلّ رؤيته من صميم تجربته الذّاتيّة من خلال معايناته وتجواله في أصقاع العالم. بذلك يتفحّص الكوّاري كيفيّة تقبّل الثقافات للمنتجات المعولمة، ويعبّر عن ذلك بمصطلح "الإدراج"، وهو مصطلح يدعونا للتفكّر، فعادة ما تمّ استخدامه في عصر النّهضة الأوروبيّة، وتخصيصًا في مجال الفنون، حين أعيد النّظر في قائمة الفنون والقسمة فيما بين الفنون والحرّة والفنون الدّنيا، وتفترض القائمة "إدراجًا" لهذا الفنّ في قائمة من القائمتين، ويعني الإدراج تحديدًا لفروقات وتنزيلًا علميًّا في خانة، والأهمّ من كلّ ذلك تبديد الصبغة الصّراعيّة بين المدرجين فيما بينهم.
وتلك مسألة في غاية الأهميّة فالثقافة المحليّة تدرج نظيرتها "المعولمة" في قائمتها، وكأنّها تستضيفها من دون أن تُشهر صراعًا معها، أو من دون خوفٍ من أثر حلولها في رقعتها الطّبيعيّة، وهذا أمر يحتاج من دون أدنى شكّ إلى محاورة مطوّلة مع الكاتب، إذ كثيرًا ما نُظر إلى العلاقة بين الثقافة المحليّة والثقافة المعولمة أو الوافدة نظرة الصّراع القَدري، لأنّ منتجات الثقافة المعولمة تحمل بذور إفناء الثقافات المحليّة، لتتحوّل رقاعها الثقافيّة إلى مجرّد سوق لمنتجات العولمة.
لكنّ الكاتب يضع صُنافة لهذا الإدراج تتوزّع على أربعة أنواع، فإمّا أن يكون الإدراج بتعايش الحديث والقديم، وإمّا أن يكون بالتّمازج فيما بينهما، وإمّا أن يكون بإعادة تشكيل الحديث للقديم، وأخيرًا بصهر الحديث في القديم إلى حدٍّ يذوب فيه الحديث فيصبح من "صميم هذا التّقليد الثقافي".
وإذ يعتبر الكاتب أنّ عمليّات الإدراج تكتسي طابعًا تفاعليًّا، فإنّه يقرّ بثقة بالغة بأنّ الثقافات المحليّة ستظلّ حيّة أيًّا كان نوع الإدراج :" لست أعرف ثقافة تنبت كالفطر خارج سياق اجتماعي يحتضنه التاريخ والجغرافيا. فالثقافة بهذا المعنى متجذّرة أكثر ممّا نتوهّم. ولا يغرّنّنا جبروت آلة التّوزيع العالمي للمنتج الثقافي المصنوع. ومعنى هذا إذا تدبّرناه أنّ الثقافة محليّة بالضّرورة وبالطّبع، لا تزول إلاّ بزوال المجتمع الذي أنتجها".
وهذا رأي يؤسّس لفكرة "ديمومة الثقافات" واستحالة "تنميطها" ويشرّع لرؤية مخصوصة للهويّة الثقافيّة، وهي عماد المشروع الثقافي الذي بدأ في إرسائه الكوّاري في مستوى ذاتيّته الثقافيّة، وفي مستوى سياسته الثقافيّة في الوزارة. وكان من أثر هذه الرّؤية إنشاء "بيت الحكمة"، الذي فيه بلور فكرة "الاستئناف الحضاري" مع النّقاط المضيئة لحضارتنا العربيّة الإسلاميّة. فالمشروع يلخّص تجذّر الموقف من فاعليّة التّرجمة ودورها في التفاعل الحضاري، واعتبارها دعامة للحوار بين الحضارات. واهتمام الكوّاري بالترجمة جعله يولي عناية مخصوصة لهذا المجال في مستوى وزارته، من خلال الإصدرات القيّمة لمركز التّرجمة في الوزارة ومن أبرز إصداراته، ترجمة محاضرات حائزيّ جائزة نوبل. يتلمّس الكوّاري الخيط الرّفيع الذي تقوم عليه هذه المحاضرات، بانشدادها إلى محورين، فمن جهة يهفو الأدباء إلى تحقيق عالم "الإنسان الكوني" ومن جهة ثانية يسترعي انتباه الكوّاري أهميّة الأدب وخطورته، ومن أبهى ما يصيغ في هذا الصّدد اعتباره الأدب "صناعة للأمل وشكلًا من أشكال الحفاظ على الحياة وحبّها بتطويع اللّغات الخصوصيّة لقول جوهر الإنسان، وصنع لغة كونيّة يُنتقى معجمها من مآسي البشريّة ومن طوبى الحريّة في آن واحد". هكذا تنساب لغة الكوّاري فكأنّنا بمن يقرأ محاضرات نوبل يدخل عوالم الأدباء الكبار، أمثال يوسا ولوكليزيو وهارولد بنتر وألفريدا ياليناك وغاو كسنغيان، وغيرهم من الأدباء الذين شكّلوا ضمير هذا العالم في خيباته وأفراحه وتطلّعاته.
حبات العقد الثقافي والفنّي: بيت الحكمة، كتارا، سوق واقف
يلحق الكوّاري منشأة "بيت الحكمة" بمشروع ضخم آخر، "كتارا" و"سوق واقف"، المندرجين في صلب رؤية مخصوصة لـ"التّنمية الثقافيّة". المشترك بين هذين المشروعين يفوق الطّابع المعماري الأصيل الذي يعكس صمود الطّابع المعماري المحلّي وقدرته على التّعايش مع الفورة المعماريّة المعاصرة، التي اكتسحت قطر من دون أن تقصي المقوّمات الثقافيّة الأصيلة، وإنّما في ذلك الجوهر الثقافي الذي جعل منهما رئتين حقيقيّتين للمثقّف القطري وللزّائر العربي والأجنبي، حتّى أنّ زيارة قطر لا يمكن أن تخلو من التّجوال في هذين المعلمين. وليس بالأمر الهيّن أن يستطيع المثقّف بلورة نزر يسيرٍ من رؤيته للتنمية الثقافيّة بفضل المنجز الثقافي ذاته، ولكنّ هذين المعلمين حملا بصمة الإجابات عن أسئلة الرّاهن الثقافي العربي في مستوى النّقاش في قضيّة الخصوصيّة والكونيّة.
ولا يفوت الكوّاري الانتباه إلى العروة الوثقى بين "التنمية الثقافيّة" و"الدّيمقراطيّة" في المجال الثقافي التي تعطي كلّ فرد الحقّ في الثقافة: "اخترنا في قطر أن تذهب الثقافة إلى الناس في الأسواق والشّوارع وأن تندمج في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة حتّى نكسر الدّائرة المفرغة، التي تجعل الثقافة حكرًا على من لهم حظٌّ من التّعليم والثقافة." وبذلك ترتبط "التنمية الثقافيّة" بالبعد الاجتماعي وباليومي، لأنّ الثقافة حاجة أساسيّة من احتياجات المجتمع، ولا تكون "التّنمية الثقافيّة" مجرّد دعم للإنتاج الثقافي والإبداع الفنّي، وإنّما همّها الرئيسي هو الاستثمار في الإنسان، أو بتعبير الكوّاري:" الإنسان هو مبتدؤها وخبرها وأداتها ومحرّكها. إنّه غاية الغايات".
اليونسكو والدبلوماسية الثقافية
يفرد الكوّاري فصلا كاملاً للدّبلوماسيّة الثقافيّة إيمانًا منه بأهمّيتها في إرساء علاقات نوعيّة بين الدّول، أساسها التّبادل الثقافي وتداول المنتجات الرّمزيّة، فيرى أنّ إنشاء معهد العالم العربي بباريس يسّر مثل هذا التّجسيد لفكرة التّبادل والحوار الحضاري وجسّر العلاقات بين الشرق والغرب، معتبرًا أنّ الأسئلة الرئيسية التي تمحورت حولها رؤيته الدّبلوماسيّة تحوم حول ممكنات المشترك الإنساني وكيفيّة تقليص مسافة الاختلاف في الأهداف والمصالح السياسيّة، وكيف يتحقّق رهان الجمع بين المحلّي والكوني.
كلّ هذه الموجّهات قادت الكوّاري إلى تحديد اتّجاه للبوصلة، منتهيًا إلى القول بأنّ منظّمة اليونسكو هي "أبرز عنوان في الأجندة الجديدة لتغيير العالم". ودعاه هذا الحكم إلى تفصيل مسوّغاته، فاليونسكو، في رأيه، تعبّر عن الجوهري في أحلام الشّعوب، وهي إعلان عن الخروج من بوتقة "الثقافات المحليّة والقوميّة إلى أفق أوسع هو الثقافة العالميّة"، وهي"عقل جماعي" و"منتدى للحوار في مستقبل البشريّة"،وبذلك يمنحها مسؤوليّة في غاية الأهميّة، بل ينتهي إلى القول بأنّها تراهن على "صناعة البشر". ويوكل الكوّاري بهذا الاعتبار لليونسكو دورًا أساسيًّا في التّغيير العالمي، دوراً تحتاجه البشريّة في هذه المرحلة مثل حاجتها إلى دبلوماسيّة ثقافيّة قادرة على بثّ الأمل في كونيّة جامعة ترتفع عن المصالح الضيّقة للدّول، وتبشّر الإنسانيّة بغد أفضل لا تسوده الحروب والعنف. يكشف الكوّاري عن منزع إنساني عميق حيث ينقاد إلى هذه الرّؤية الجامعة من دون التّنكّر لأصوله العربيّة الإسلاميّة، مؤمنًا بوجود مشترك كوني يسمح بالتّعايش والتّبادل والتّفكير المشترك في مصير الإنسانيّة. فمن ممكنات الدّبلوماسيّة الثقافيّة ضمانها التنوّع الثقافي ومواجهتها أشكال الهيمنة ولكنّ ذلك يتطلّب لا محالة قدرة وجهازا لـ"إدارة التنوّع"، والكوّاري في هذا الاتّجاه يستبطن هاجسه في اعتبار اليونسكو قاطرة هذه الإدارة وهو الذي يترشّح لمنصب رئاسة المنظّمة وفي زاده كلّ هذه الرّؤية الواضحة.
الطريف في تناول الكوّاري مسألة الدّبلوماسيّة الثقافيّة، توقّفه عند عنصر أسماه بـ"دبلوماسيّة الهدايا"، بيّن فيه مدى أهميّة تبادل الأغراض الثقافيّة عبر التّاريخ القديم والوسيط، فاعتبر أنّ" اقتصاد الهدايا واقتصاد السّلع اقتصادان رمزيّان يكوّن كلّ منهما الآخر" وهذه إشارة لبيبة إلى جزء من أجزاء المنتجات الرّمزيّة في عصر لا يكاد يخلو من أهميّة للاقتصاد الرّمزي الذي يوفّر للبلدان ما لا يوفّره الاقتصاد المادّي أحيانًا. لذا يتفطّن الكوّاري إلى أهميّة التّعرّض إلى الصناعات الإبداعيّة وهي مسألة في غاية الخطورة اليوم، حيث ما تزال الثقافة العربيّة بعيدة نسبيًّا عما يسمّى بـ"سوق المنتجات الرّمزيّة" وما زال الحديث في هذا المضمار نظريًّا لا يشمل غير نماذج غربيّة وأميركيّة، بينما ترزح ثقافتنا في كلكل أسئلة أخرى وتتوغّل في استهلاك المنتجات الغربيّة من دون القدرة على صناعة منتجاتنا، وضخّها في السّوق العالميّة. وقد يكون الوعي بأهميّة هذا الجانب الثقافي مرحلة نحو إعادة التّفكير في أسئلة الثقافة العربيّة، وحين يتعرّض الكوّاري إلى هذا العنصر فإنّه يؤكّد على محوريّته ويسعى إلى تبيئته لئلا نبقى مجرّد مستهلكين ومستوردين.
التواصل الاجتماعي
لا يُخفي الكوّاري إعجابه بموقع الإنستغرام، وهو منتج رمزي أيضًا، فهو جداره المفضّل لتحرير تعليقاته وتبادل أفكاره مع الشباب وكلّ فئات المجتمع. ولكنّ هذا المكان الافتراضي الذي يدلق فيه أفكاره لا يحجب بأيّ حال المدن الأثيرة لديه، والتي شكّلت فضاء بزوغ وتبلور تجربته الثقافيّة والسياسيّة، إذ لا يمكن أن تنبت الأفكار خارج البيئات ولا يمكن للسيرة، ذاتيّة كانت أم فكريّة، أن تنشأ وتبني لها سيرورة خارج المكان والزّمان، أو بعيدًا عن البيئة البشريّة المحليّة أو العالميّة. لذا يولي الكوّاري للحواضر الثقافيّة التي عاش فيها أهميّة موصولة بما يسمّيه بـ"الاستكشاف الجمالي للعالم"، فكأنّه يتحدّث عن "الكينونة الجماليّة"، عندما يحدّد مآثر هذه الحواضر، فالقاهرة محطة التعرف على "الزّوجة" وتوسيع الآفاق في النّظر والحياة وهي بالنّسبة إليه "مدينة ساحرة فاتنة تمثّل دون مبالغة قلب الثقافة العربيّة النّابض"، أمّا بيروت، فهي "حاضرة التنوّع والاختلاف"، وهي من "علّمته فنّ الحياة"، وكانت دمشق "ملتقى الأدباء والفنّانين وأهل الفكر" و"عاصمة اللّغة العربيّة ومحرابها". ويتعرّض الكوّاري إلى هذه العواصم بتحليل يتخلّله حنين وعاطفة كأنّما المدن أمومة دائمة. ولا يحصر حكايته مع المدن في المدن العربيّة بل إنّه يذكر باريس ونيويورك على السّواء، وبذلك يجمع في استذكاره بين الشّرق والغرب، بين المحلّي والكوني، وينشدّ حديث المدن إلى كلّ ألوان الثقافة أي ألوان قوس قزح، فتتعالق بالأدب والرّسم. ويتدعّم بذلك القول بأنّ المثقّف أيًّا كان لبوسه فإنّه يتحلّى بميسم جمالي يجعله ينظر إلى العالم وقضاياه بشكل مختلف، فتنساب رؤيته انسيابيّة اللّغة التي أودعها الكوّاري في كتابه، فجاءت سيرته الفكريّة مراوحة بين صرامة العقل ومتطلّبات صياغة الفكرة وبين حساسيّة الكلمات ورهافتها وهي تمعن انسيابا، كأنّها عطش مستمرّ لتحقيق الممكن الإنساني وتحويل الثقافة إلى أساس مكين تنهض عليه العلاقات بين الأمم.
من المجلس إلى الميديا
نعثر في سيرة الكوّاري على تواصل مميّز مع كتّاب وباحثين من خلال استحضار أفكارهم ومحاورتها، إثر تحليل بعضها وتمحيصها. فالسيرة الفكريّة تواشج واختلاف مع سيرٍ أخرى، أي مع مواقف ورؤى للعالم قد تبدو مختلفة أو مؤتلفة. يستحضر الكوّاري مأثرة نيكولا بورداس "الفكرة القاتلة"، حين يدقّق في مسألة المجتمع التّواصلي منذ اليونان القديمة إلى حضارة الرّقمنة.
وإذا كان بورداس يعتقد بأنّ الفكرة الخلاّقة تنبجس من سطوة التّواصل فتجعل المجتمع مفتوحًا لا تحدّه حدود جغرافيّة، وأنّ "الأغورا" اليونانيّة هي نبع المجتمعات التّواصليّة، فإنّ الكوّاري رغم إشادته بمجمل أفكار بورداس فهو يؤصّل فكرة المجتمع التّواصلي في بيئته العربيّة. ونكاد نلحظ هذه المعالجة لمختلف القضايا الثقافيّة والسياسيّة التي يتطرّق إليها، إذ ينزع دائما إلى مقاربتها من زاوية انتمائه العروبي، فيذكّر بأنّ المجلس في الخليج العربي أو "الديوانيّة" هو الفضاء العمومي، الذي يسمح للنّاس بالتّواصل، وله وظائف سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، وهو يتوافق مع البنية القبليّة للمجتمع، وسُلّم قيمها حيث تتعلّم النّاشئة في المجلس مضامين هذه القيم وتتربّى عليها، ويصبح المجلس إطارًا تعليميًّا لآداب الحوار والمجالسة والنّقاش البنّاء، ففيه تُعرض أمّهات القضايا، وتتنوّع موضوعاتها من أدب وسياسة واجتماع، وتتلوّن بأمزجة الجلاّس، فتراوح بين الجدّ والهزل.
ولايفوت الكوّاري الإشادة بـ"نكهة القهوة العربيّة"، التي تميّز هذه المجالس، فكأنّما تحضر جميع المدركات في المجلس، من الإدراك العقلي إلى التذوّقي، ومن نكهة التّواصل إلى نكهة القهوة، التي تتّخذ لدى الكوّاري بعدا آخر فهي في تصوّره"جزء من إلقاء السّلام على الطّريقة العربيّة الإسلاميّة" ولذلك سعى إلى تسجيلها ضمن قائمة التراث الثقافي اللاّمادي. وإذا كان المجلس محافظا على طابعه التّواصلي فإنّ الكوّاري يلتفت أيضا إلى الميديا الجديدة، التي جعلت من التّلفزيون والإذاعات وسائط تقليديّة، بينما مجّدت الوسائط الجديدة لتعلن ميلاد العالم الافتراضي.
لا يهاجم الكوّاري هذه الوسائط بل يعي أنّها أحدثت انكسارات وقطائع معرفيّة جديرة بالانتباه، ولكن لا يمكن الاستغناء عنها لأنّها تدعم التّواصل بين النّاس وتغدق عليهم لونًا جديدًا من ألوان الحريّة. ومن مآثر هذه الميديا أنّها غيّرت من مقولة النّخبة والجمهور، فأصبحنا إزاء شعب افتراضي يمارس حقّه الطّبيعي في نيل المعلومة وفي تحليلها ونشرها والتّفاعل معها، وهو مسارٌ يتوافق مع الدّيمقراطيّة التّشاركيّة ويتيح للفرد حقّه في "المجلس الافتراضي الكوني".
الأفق الممكن
إنّ الحوار الحضاري والبحث عن "المشترك" الإنساني هو الرّهان الكبير، الذي لا ينفكّ يتسلّل إلى فصول الكتاب، ولذلك تبدو هويّة الكوّاري المثقّف متلبّسة برافدين أساسيّين هما في الأصل النّواة الصلبة لتفكيره، ويتوحّدان في "الدبلوماسية الثقافيّة"، أي جماع الثقافة والسياسة في إطار مشروع مستقبلي يُسعف الثقافات المحليّة، ويربطها بأفق كوني ومصير إنساني مشترك.