ورأى المطالبون بمحاكمة الرئيس السابق أن الإسراع في اتخاذ خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، كفيل بطمس آثار ولد عبد العزيز بما فيها حزبه ونوابه، وإقصاء بقايا أركان نظامه الساعية لتصدر المشهد السياسي من جديد على الرغم من أنها كانت متهمة في قضايا فساد شهيرة. ولعل الجدل الذي أثارته هذه المطالبات دفع عدداً من السياسيين الذين شغلوا مناصب هامة في عهد الرئيس السابق إلى نشر إقرار الذمة المالية الخاصة بهم، في محاولة لإبراء ذمّتهم من شبهات التربح واستغلال السلطة، بينهم وزير المالية السابق المختار ولد أجاي، الذي سارع إلى كشف كل ممتلكاته في بيان نشره على صفحته الرسمية بموقع "فيسبوك".
ولا يزال ولد عبد العزيز خارج البلاد منذ تسليمه السلطة للرئيس الجديد في الأول من أغسطس/آب الماضي، ربما في انتظار ما ستؤول إليه تطورات المبادرة الداعية إلى فتح تحقيق داخلي في كل القطاعات خلال فترة حكمه قبل اللجوء إلى المتابعة القضائية. وعلى الرغم من أن وعكة صحية حادة ألمّت بوالدته قبل أيام، إلا أنه لم يقطع إجازته بل واصل غيابه عن البلاد، ليدخل بذلك سفره شهره الثاني. ويستند الداعون لمحاكمة الرئيس السابق إلى ما تم الكشف عنه من معلومات عن قيامه باستغلال السلطة للتربح هو وأسرته المباشرة ثم بعض أقاربه والمقربون منه، كما طالبوا بفتح تحقيق بعد ورود معلومات جديدة في قضية إطلاق الرصاص عليه عام 2012 وأيضاً في قضية قيام نجله بإطلاق رصاص على فتاة أصابها بشلل نصفي.
وأعرب عدد من قياديي المعارضة عن استعدادهم لتقديم دعوى قضائية ضد ولد عبد العزيز إذا عاد إلى موريتانيا، وذلك بتهمة "اختلاس المال العام". وذكرت القيادية في حزب "التكتل" المعارض، منى بنت الدي في تدوينة على صفحتها بموقع "فيسبوك": "في حالة عودة ولد عبد العزيز، سأتقدّم برفقة بعض الأصدقاء بشكوى ضده أمام المحاكم جراء نهبه واختلاسه للمال العام". ومن بين أكثر الصفقات التي أبرمها ولد عبد العزيز إثارة للجدل والتي نُشرت تفاصيلها الصادمة بعد رحيله عن الحكم، اتفاقية للصيد البحري مع شركة "بولي هوندونغ" الصينية، منحت رخصة الصيد لهذه الشركة في المياه الموريتانية من دون إذن البرلمان ولمدة 50 سنة وليس 25 سنة كما أعلنت السلطات، على مساحة 90 ألف كيلومتر مربع وليس 30 ألف كيلومتر مربع كما سبق أن أُعلن.
وتصدّر الشركة الصينية بموجب هذه الاتفاقية 2500 طن من الأسماك أسبوعياً، والقيمة الكلية للصفقة لا تتجاوز 300 مليون دولار طيلة 50 سنة، فيما الاتحاد الأوروبي يدفع 50 مليون دولار سنوياً مقابل الصيد في مساحة أقل وتصدير كمية لا تتجاوز نصف ما تصدره الشركة الصينية، التي لم تفرض عليها موريتانيا أي شروط أو عقوبات تتعلق بنوعية الشباك والعينات المستهدفة.
ومن الأسرار التي تم الكشف عنها بعد مغادرة ولد عبد العزيز السلطة، قيام معاونيه بإيعاز منه بالتجسس على المعارضين والتشهير بهم والافتراء عليهم وتشويه سمعتهم بالأكاذيب والتلفيقات، وتسريب المداولات السرية لاجتماعات المعارضة مما تسبّب في تشتتها وضعف أدائها في فترة حكمه. وعملت فرق متخصصة على نشر جوانب من الحياة الاجتماعية للمعارضين وبعض رجال الأعمال في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي على نحو لم تشهده موريتانيا من قبل، فانتشرت على نطاق واسع "موجة التسجيلات" التي انتهكت خصوصيات المواطنين، وأدت أجهزة التنصت وتسجيل المكالمات دوراً كبيراً في المشهد السياسي في عهد ولد عبد العزيز، الذي حارب كل من لم يوافقه سياسياً بالسجن وفرض ضرائب مجحفة والتشهير. ولعل أبرز مثال على ذلك قضية رجلي الأعمال المعارضين مصطفى ولد الشافعي الذي اتهم بالإرهاب ومحمد ولد بوعماتو الذي اتُهم بالتهرب من الضرائب، ثم لاحقاً اتهم الرجلان بمحاولة قلب نظام الحكم وزعزعة استقرار البلاد، ولا تزال المتابعة القضائية في حقهما قائمة بعد أن غادرا البلاد.
في هذا الصدد، قال الباحث السياسي أحمد سالم ولد شيخاني، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك ملفات كثيرة يجب التحقيق فيها بجرأة وشجاعة من بينها قضية التجسس على المواطنين وانتهاك خصوصياتهم، واختلاس المال العام من قِبل ولد عبد العزيز"، معتبراً أن أي تخاذل أو تردد في هذه الفترة سيؤدي إلى اختفاء آثار سرقات ولد عبد العزيز والتعتيم على ممتلكاته، وكل ما اقترفه من جرائم حتى لا تتم متابعته.
وأكد ولد شيخاني أن الرئيس السابق استغل ضعف الشعب الموريتاني وتسامحه وتدني مستوى وعيه وتخبّط وتخاذل المعارضة وضعف الرأي العام، للقيام بعمليات اختلاس كبيرة، مطالباً بمحاكمته ومحاكمة كل من تورطوا في تلك الجرائم. وأعرب عن أمله في أن يقوم الرئيس الجديد بإبعاد كل من تورطوا في هذه الملفات من سياسيين ورجال أعمال، وأن يرسم سياسة تشكل قطيعة مع أساليب الرئيس السابق وسياساته ونهجه، معتبراً أن عدم حسم الرئيس الجديد لموقفه قد يضيع عليه الكثير من الوقت وقد يورثه المتاعب والخلافات.