الفن حالة غامضة، وشعور ممزوج بالمتعة والسحر. تفسده المقولات المباشرة، والمشهديات المتكررة، التي تستعير عناصرها من مواقف وأحداث قائمة؛ من دون تمريرها في قنوات إبداعية، تمتلك الوعي لصوغها في رؤية فنية مغايرة ومدهشة.
فالفن لا يُعنى بالموقف السياسي المباشر، ولا يضحى منشوراً تحريضياً، وخطاباً تعبوياً متطفلاً، وأداة ضغط شعبوية.
في رصيد المخرج المصري، خالد يوسف، عدة أفلام سينمائية، تحظى بنجاح جماهيري واسع؛ تحققه إيرادات أفلامه، من ناحية، ورواج نقدي ومتابعة جادة من النقاد السينمائيين والمثقفين، من ناحية أخرى. يعود ذلك إلى نوعية أفلامه، وطبيعة الموضوعات الجدلية التي دأب على تقديمها، ومقدرته على مخاطبة أوساط عديدة، وفئات متفاوتة من الجمهور، داخل أعماله، التي تجمع عناصر الإثارة، ومحاولة تقديم صورة، تبدو جادة ورصينة، تحمل نقداً للوضعين، الاجتماعي والسياسي المصري.
بعد ست سنوات، يعود صاحب "حين ميسرة"، إلى العمل السينمائي، بفيلم جديد اسمه "كارما"، من تأليفه وإخراجه، بعد أن خطفته الأحداث السياسية، إبان الربيع العربي واندلاع الثورة في القاهرة، ومشاركته في فصولها المتعاقبة، وانخراطه في أحداثها، حتى عضويته في البرلمان المصري.
يتناول الفيلم عدة قضايا إشكالية في المجتمع المصري، مثل الفوارق الطبقية الموجودة فيه، بالإضافة إلى مناقشة مظاهر التعصب الديني والطائفية، في سياق درامي اجتماعي، من خلال قصة حب تجمع شابا وفتاة من ديانتين مختلفتين.
فشل مخرج مظاهرات 30 حزيران/يونيو في العمل السياسي والنيابي والخدمي، الذي خاضه خلال مدة انقطاعه عن السينما، منذ وفرت له المؤسسة العسكرية إمكاناتها اللوجيستية، وطائرة هليكوبتر خاصة، لتصوير المظاهرات.
كذلك، أخفق في تجديد الثيمة الرئيسة التي يعتمد عليها في معظم أفلامه، عبر استخدام كليشيهات متكررة، شديدة الرتابة، لتأدية دور هامشي ومتواضع فنياً، من دون قدرة على تفسير التناقضات، في المشهد السياسي والمجتمعي المصري، وسبر أغوار شخصياته الفنية، وأعماقها وتعرية مكوناتها والسياقات الفاعلة فيها.
في كافة أفلام خالد يوسف، يبدو أن هناك ثيمة رئيسية يعيد إنتاجها، وهي صورة الصراع الأبوي، وتشتت الأبناء إثر غيابه، حيث يدور الصراع حول الثالوث الرمزي: "الميراث والنسب والهوية"، والتي تتكرر أسبابها وعناصرها، في معظم أفلامه.
فإن الصراع الذي تكرر في فيلمي "خيانة مشروعة" و"دكان شحاته"، مثلاً، حمل تلميحاً، في كليهما، يقترب من المباشرة كثيراً، من حالة الأفول العربي، غداة غياب الزعيم/الملهم، والشرخ في الانتماء العربي والمكون القومي الواحد، تحت وطأة عوامل "البيزنس" والتجارة، التي لم تعد تعترف بالجنسية، أو بوطن، في صورة استعمار جديد.
وقد جاء ظهور صورة الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، داخل إطار قديم وباهت، في أحد المشاهد المؤثرة في فيلم "دكان شحاته"؛ ليفصح عن مساحة الفقد في المرجعية والانتماء.
ومن ثم، كان الشعور بالخلل الوجودي، الذي تبعه مشهد مواز للأب (محمود حميدة)، يهتز في حالة نشوة ورأسه يتمايل وهو يستمع إلى موال صوفي، فيما يبدو غارقاً ومفارقاً للعالم الواقعي، ويطلب من ابنه أن يخفي الصورة لـ"الرئيس"، التي هي نفسها صورة عبد الناصر في إطارها القديم، متوسطة الشقوق والتصدعات الموجودة في حائط المنزل.
وفي نفس الثيمة، ومع صعودها الدرامي، كان حلول السفارة الإسرائيلية محل البيت القديم، في الفيلم ذاته، يفضح المآل الواقعي، عندما فرّط الأبناء في هويتهم، وامتدادهم لجذورهم. وتفرقوا في عالم المال والمصلحة؛ فبينما حاول الابن العبور لمنزلهم القديم، وهو يرفع هوية أبيه، التي حملها بعد وفاته، معلناً امتلاكه البيت المفقود، بيد أنها لم تشفع له أمام تهديدات قوات الأمن، وتحذيراتهم له، وكذلك أمام أشقائه عندما قتلوه وهي لا تزال بيده.
في الفيلمين، كانت النتيجة واحدة، وهي قتل أحد الأبناء، الذي حاول الحفاظ على ميراث الأب، وقداسة الهوية والانتماء، ومحاولته تجميع أشلاء الأسرة الضائعة، بعد أن نهب بعضهم ميراثه. يصر تلميذ المخرج يوسف شاهين، على وضع نفسه وأفلامه في مربع المعارضة، ونقد النظام السياسي والسلطة، وهي معارضة تبدو مستأنسة، ولا تختلف عن معارضة نخبة النظام، التي تعتمد على "الثرثرة".
فالأفلام التي يقدمها تخلو من النقد الاجتماعي والسياسي، وتفسيراته وفك القيود عن العناصر المسؤولة عن ذلك الوضع، بل في حقيقة الأمر، يحميهم بطبقات سميكة، حتى لا يطاولها النقد، والتعرية من خلال فنه ويستبعدهم.
اقــرأ أيضاً
فالفن لا يُعنى بالموقف السياسي المباشر، ولا يضحى منشوراً تحريضياً، وخطاباً تعبوياً متطفلاً، وأداة ضغط شعبوية.
في رصيد المخرج المصري، خالد يوسف، عدة أفلام سينمائية، تحظى بنجاح جماهيري واسع؛ تحققه إيرادات أفلامه، من ناحية، ورواج نقدي ومتابعة جادة من النقاد السينمائيين والمثقفين، من ناحية أخرى. يعود ذلك إلى نوعية أفلامه، وطبيعة الموضوعات الجدلية التي دأب على تقديمها، ومقدرته على مخاطبة أوساط عديدة، وفئات متفاوتة من الجمهور، داخل أعماله، التي تجمع عناصر الإثارة، ومحاولة تقديم صورة، تبدو جادة ورصينة، تحمل نقداً للوضعين، الاجتماعي والسياسي المصري.
بعد ست سنوات، يعود صاحب "حين ميسرة"، إلى العمل السينمائي، بفيلم جديد اسمه "كارما"، من تأليفه وإخراجه، بعد أن خطفته الأحداث السياسية، إبان الربيع العربي واندلاع الثورة في القاهرة، ومشاركته في فصولها المتعاقبة، وانخراطه في أحداثها، حتى عضويته في البرلمان المصري.
يتناول الفيلم عدة قضايا إشكالية في المجتمع المصري، مثل الفوارق الطبقية الموجودة فيه، بالإضافة إلى مناقشة مظاهر التعصب الديني والطائفية، في سياق درامي اجتماعي، من خلال قصة حب تجمع شابا وفتاة من ديانتين مختلفتين.
فشل مخرج مظاهرات 30 حزيران/يونيو في العمل السياسي والنيابي والخدمي، الذي خاضه خلال مدة انقطاعه عن السينما، منذ وفرت له المؤسسة العسكرية إمكاناتها اللوجيستية، وطائرة هليكوبتر خاصة، لتصوير المظاهرات.
كذلك، أخفق في تجديد الثيمة الرئيسة التي يعتمد عليها في معظم أفلامه، عبر استخدام كليشيهات متكررة، شديدة الرتابة، لتأدية دور هامشي ومتواضع فنياً، من دون قدرة على تفسير التناقضات، في المشهد السياسي والمجتمعي المصري، وسبر أغوار شخصياته الفنية، وأعماقها وتعرية مكوناتها والسياقات الفاعلة فيها.
في كافة أفلام خالد يوسف، يبدو أن هناك ثيمة رئيسية يعيد إنتاجها، وهي صورة الصراع الأبوي، وتشتت الأبناء إثر غيابه، حيث يدور الصراع حول الثالوث الرمزي: "الميراث والنسب والهوية"، والتي تتكرر أسبابها وعناصرها، في معظم أفلامه.
فإن الصراع الذي تكرر في فيلمي "خيانة مشروعة" و"دكان شحاته"، مثلاً، حمل تلميحاً، في كليهما، يقترب من المباشرة كثيراً، من حالة الأفول العربي، غداة غياب الزعيم/الملهم، والشرخ في الانتماء العربي والمكون القومي الواحد، تحت وطأة عوامل "البيزنس" والتجارة، التي لم تعد تعترف بالجنسية، أو بوطن، في صورة استعمار جديد.
وقد جاء ظهور صورة الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، داخل إطار قديم وباهت، في أحد المشاهد المؤثرة في فيلم "دكان شحاته"؛ ليفصح عن مساحة الفقد في المرجعية والانتماء.
ومن ثم، كان الشعور بالخلل الوجودي، الذي تبعه مشهد مواز للأب (محمود حميدة)، يهتز في حالة نشوة ورأسه يتمايل وهو يستمع إلى موال صوفي، فيما يبدو غارقاً ومفارقاً للعالم الواقعي، ويطلب من ابنه أن يخفي الصورة لـ"الرئيس"، التي هي نفسها صورة عبد الناصر في إطارها القديم، متوسطة الشقوق والتصدعات الموجودة في حائط المنزل.
وفي نفس الثيمة، ومع صعودها الدرامي، كان حلول السفارة الإسرائيلية محل البيت القديم، في الفيلم ذاته، يفضح المآل الواقعي، عندما فرّط الأبناء في هويتهم، وامتدادهم لجذورهم. وتفرقوا في عالم المال والمصلحة؛ فبينما حاول الابن العبور لمنزلهم القديم، وهو يرفع هوية أبيه، التي حملها بعد وفاته، معلناً امتلاكه البيت المفقود، بيد أنها لم تشفع له أمام تهديدات قوات الأمن، وتحذيراتهم له، وكذلك أمام أشقائه عندما قتلوه وهي لا تزال بيده.
في الفيلمين، كانت النتيجة واحدة، وهي قتل أحد الأبناء، الذي حاول الحفاظ على ميراث الأب، وقداسة الهوية والانتماء، ومحاولته تجميع أشلاء الأسرة الضائعة، بعد أن نهب بعضهم ميراثه. يصر تلميذ المخرج يوسف شاهين، على وضع نفسه وأفلامه في مربع المعارضة، ونقد النظام السياسي والسلطة، وهي معارضة تبدو مستأنسة، ولا تختلف عن معارضة نخبة النظام، التي تعتمد على "الثرثرة".
فالأفلام التي يقدمها تخلو من النقد الاجتماعي والسياسي، وتفسيراته وفك القيود عن العناصر المسؤولة عن ذلك الوضع، بل في حقيقة الأمر، يحميهم بطبقات سميكة، حتى لا يطاولها النقد، والتعرية من خلال فنه ويستبعدهم.
فالملايين التي ينهبها الفقر والجوع والمرض، والمجتمع المنقسم إلى أثرياء في عوامات، وفقراء في عشوائيات، فضلاً عن جيوش من أطفال الشوارع، والتعذيب في أقسام الشرطة، والإرهاب والتطرف، والغزو الأميركي للعراق، في نفس توقيت اغتصاب الفنانة، سمية الخشاب، في فيلمه "حين ميسرة"، كإسقاط سياسي مقصود ومتعمد، يبرز سقوط الشرف العربي، مجرد صور ضعيفة ومفككة، يجري توظيفها على عجل لصنع مشهدية صاخبة، وبها زخم ودعائية مفرطة.
فإن الفيلم الذي يهتم بتقديمه يوسف، قوامه الرئيسي يتحدد في العناصر التجارية، التي تشكل جوهر الرؤية الفنية والفكرية لديه، ولا شيء آخر، أيا كانت المقدرة الفنية على عرض كل ذلك، بشكل يجذب المشاهد من خلال مشاهد عري ولقطة جنسية، بها جرعة زائدة من الجرأة والوضوح، أو مغازلة الغضب تجاه الحكومة، بالدرجة المسموح بها، كنوع من أنواع الغمز واللمز السياسي، وبعض الجدل الديني، أحياناً، في توليفة شعبية تنتقل من الدين للسياسة للجنس.