على الرغم من مرور أكثر من أسبوع على الإفراج عن 135 شخصاً، شملهم العفو الذي أصدره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فإن القرار لم يُنشر حتى الآن في الجريدة الرسمية، في سابقة غير مبررة، فيما حصلت "العربي الجديد" على القائمة الكاملة بأسماء السجناء المفرج عنهم.
وبينما يروّج الإعلام المحلي، الموالي للسلطة، للعفو باعتباره فاتحة لإجراءات مقبلة، تكرس انفراجة سياسية واجتماعية في المشهد المصري خلال العام الحالي، خصوصاً بعد إخلاء سبيل عدد من النشطاء اليساريين المحبوسين في قضايا ذات طابع سياسي أيضاً، نهاية الأسبوع الماضي، فإن النظام يفتح في المقابل قضايا جديدة، بتفاصيل واتهامات غير معروفة، لعدد من النشطاء والمعارضين، على رأسهم رئيس حزب "مصر القوية" عبدالمنعم أبو الفتوح ونائبه محمد القصاص، لضمان استمرارهما، هما وغيرهما، محبوسين لأجل غير مسمى، ما يؤكد الطبيعة السياسية الاختيارية لمثل هذه التصرفات، بناء على النصائح الأمنية وحدها، وليس بناء على أي اعتبارات قانونية.
هذه السمة نفسها يمكن تمييزها باعتبارها العنوان الأبرز لقائمة العفو الأخير، التي تعتبر من بين الأصغر في محتواها لجهة عدد الأسماء على مستوى قرارات العفو السابقة. كما أنها تحمل اتجاهات يمكن وصفها بالجديدة، قياساً بالقرارين الاستثنائيين الصادرين في 2018 و2019، واللذين شملا أكثر من 900 سجين. وبمقارنة العفو فقط عن 135 شخصاً من بين بضعة آلاف ما زالوا محبوسين في قضايا العنف والإرهاب، والانضمام إلى جماعات يزعم النظام أنها إرهابية، وعلى رأسها جماعة "الإخوان المسلمين"، وقعت أحداثها منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 وحتى العام 2019، وصدرت أحكامها من محاكم عادية وعسكرية وطوارئ، فإن وتيرة الإفراج، بالنسبة للعامين الماضيين، تكون قد تراجعت كثيراً، على الرغم من الحديث عن "الانفراجة السياسية"، لا سيما أن معظم المحبوسين المدانين، في قضايا تعود لعامي 2013 و2014 تحديداً، قضوا بالفعل مدداً تتراوح بين ربع ونصف المدة الإجمالية المحكوم بها عليهم.
وهذا يؤكد أن القرار كان يهدف للترويج الإعلامي داخلياً وخارجياً لفكرة "الانفراجة" أكثر من أي شيء آخر. وتبيّن من القوائم تضمينها عشرات الحالات ممن يقترب موعد خروجهم الرسمي من السجون، بانتهاء مدة العقوبة أو إمكانية استفادتهم بالإفراج الشرطي، أو رفع دعاوى تُمكنهم من الخروج. وتشمل هذه الفئة أكثر من 30 شخصاً كانوا قد دينوا بأحكام عسكرية في قضايا تظاهر وانتماء لجماعة "الإخوان"، خصوصاً من محافظات الصعيد. والأمر نفسه بالنسبة للمتهمات الثلاث المفرج عنهن في القضية المعروفة إعلامياً بـ"فتيات دمياط"، والتي تعود وقائعها إلى 2015، وهن محبوسات منذ ذلك الحين، على الرغم من أن الحكم الجنائي الصادر ضدهن في 2017 كان بالسجن فترات تتراوح بين عامين و3 أعوام. وبالتالي كان يجب أن يخرجن من السجن العام الماضي على الأكثر، باحتساب فترة الحبس الاحتياطي، لكنهن بقين في السجن بحجة انتظار حكم النقض في طعنهن. كما لم يفرج عنهن مع زميلاتهن اللائي خرجن بعفو من السيسي أيضاً في مايو/أيار الماضي.
وينطبق الأمر أيضاً على عدد كبير من المدانين في قضايا أحداث متفرقة بمحافظات المنيا وأسوان وأسيوط وقنا، بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، في أغسطس/آب 2013، والذين صدرت ضدهم أحكام تتراوح بين 5 و10 سنوات، وهو ما يعني أن معظمهم كانوا يستحقون الخروج من السجن هذا العام، والبعض الآخر كان يستحق الخروج بنصف المدة، أو ثلثيها، وفقاً لقواعد الإفراج الشرطي المعمول بها. واتسم قرار العفو الأخير أيضاً بالتمييز الجغرافي الواضح لمحافظات الصعيد، التي تعتبر مجتمعاتها الأكثر معاناة من انتشار الاعتقالات وتعدد القضايا المنظورة والمحكوم فيها أمام القضاء العسكري في أحداث ما بعد 2013.
وقال مصدر أمني لـ"العربي الجديد"، إن قرارات العفو السابقة كانت تضم عدداً محدوداً من المحبوسين في الصعيد، بناء على قرار سياسي، مفاده "تأديب المراكز والقرى التي يسيطر عليها التيار المتدين بصفة عامة، بغض النظر عن الانتماء التنظيمي للإخوان أو الجماعات السلفية"، باعتبار أن الصعيد شهد عدداً من أوسع التظاهرات الغاضبة ضد قفز السيسي للسلطة وعزل الرئيس الراحل محمد مرسي. وشرح المصدر الأمني زيادة نسبة الذين يتم العفو عنهم من الصعيد في القرار الأخير، بأن الأمن الوطني نظم، خلال الشهور الستة الماضية، حملات في معظم قرى الصعيد الكبيرة التي ينتمي لها عدد كبير من المحبوسين، وتم إجراء أبحاث اجتماعية عن أسرهم وعائلاتهم وجمع تحريات جديدة عنهم، وعن مصادر الإنفاق على أسرهم. وذكر المصدر أن الأمن الوطني أوصى بالعفو عن العشرات ممن تبين انتماؤهم لعائلات فقيرة أو معدمة، لأسباب إنسانية واجتماعية بحتة، بينما تقرر استمرار حبس المنتمين لعائلات ميسورة مادياً، أو من تربطهم صلات اجتماعية بقيادات إخوانية وسلفية.
وهنا تكمن سمة أخرى تتميز بها كل قرارات العفو، وهي الغياب الكامل للشفافية في بيان سبب العفو عن بعض الأشخاص، واستمرار حبس آخرين في القضايا نفسها، ما يفتح دائماً باب التأويلات بين ذوي المعتقلين والمعفو عنهم ومحاميهم، حول سبب العفو عن بعض الأشخاص دون آخرين، على الرغم من وحدة وضعهم القانوني وتطابق الاتهامات الموجّهة إليهم. وتم العفو عن عدد ضئيل من المتهمين في كل قضية على حدة من قضايا قرى ومراكز الصعيد تحديداً، والتي وقعت أحداثها بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، في كل من أقسام المنيا ومغاغة وأبو قرقاص ودير مواس وسمالوط وديروط والمراغة وأخميم وههيا وجرجا وقنا وأسوان، خرجوا بالفعل من سجون المنيا وأسيوط والوادي الجديد والعقرب وسجون أخرى، بينما بقي زملاؤهم في نفس القضايا.
ويعكس هذا الأمر، كما يقول المصدر، الأولوية المطلقة للتحريات الأمنية وانعدام الاعتبارات القانونية، سواء من خلال تحديث بيانات المحبوسين لدى جهاز الأمن الوطني، أو حتى بناء على التحريات التي تجرى عنهم داخل السجون، على إثر المناقشات معهم داخل السجون وأوضاع ذويهم خارجها، إذ يتم تحديد المرشحين للعفو بعد التأكد من عدم تمثيل خروجه أي خطر على أمن النظام، وعدم وجود روابط حالية بينه وبين شخصيات وتيارات معارضة، إلى جانب معايير خاصة بالوضع الاقتصادي للأسر وكذلك الوساطات التي تلجأ إليها بعض العائلات.
وهناك سمة أخرى غير مسبوقة في القرار الجديد، هي ضم عدد من السجناء الجنائيين في قضايا بسيطة للعفو، من دون مبررات معلنة أيضاً. ورصدت "العربي الجديد" خروج محبوس في قضية "تسول"، وآخر في قضية "تموين"، وثالث في قضية "سرقة"، والحالات الثلاث من محافظتي القاهرة وأسوان. وعن ذلك، قال المصدر الأمني: هناك عدة قنوات يمكن من خلالها توسيط بعض الشخصيات السياسية والعامة، خصوصاً المنتمين إلى حزب "مستقبل وطن"، أو ضباط المخابرات والشرطة، للإفراج عن المحبوسين لأسباب إنسانية أو اجتماعية في قضايا غير سياسية.
وأكد المصدر أنه لم يعد هناك مكان لإعادة تفعيل اللجنة التنسيقية، التي شكلتها الرئاسة والمخابرات في العام 2018، لدراسة ما كان يوصف بـ"دمج السجناء الإسلاميين"، بتوقيعهم على مبادرات لمبايعة السلطة الحاكمة مقابل إعطاء بعض المميزات الدراسية والمهنية بعد خروجهم من السجن. كل ذلك كان يبدو محاولة لبرهنة الدولة على إمكانية طي صفحة الماضي مع الأجيال الشابة من جماعة "الإخوان"، تحديداً مواليد التسعينيات وما تلاها، وقطع الصلات بينهم وبين أفكار الجماعة القديمة، بعدما تم رصد التقارب بين المئات من الشباب، الذين تخلوا عن جماعة "الإخوان"، بعد أن دخلوا السجون في قضايا تظاهر وهم دون سن الرشد (21 عاماً)، وبين المتهمين بالانتماء لخلايا تكفيرية تابعة فكرياً أو تنظيمياً لـ"داعش"، وذلك بعدما كانت السجون تشهد في السنوات الثلاث الماضية تصعيداً دائماً بين "الإخوان" من ناحية والتكفيريين من ناحية أخرى، بسبب تكفير الخلايا الداعشية لـ"الإخوان"، واتهامهم بالمسؤولية عما آلت إليه الأوضاع السياسية في مصر وإفشال مشروع الإسلام السياسي.
وأضاف المصدر أن القرار حالياً بيد الأمن الوطني وحده، ولا يوجد أي جهد يبذل في تلك المبادرة أو على مستوى المراجعات، التي كانت تُركز على ضرورة طاعة الحاكم وضرورة عدم الخروج عليه، وتعيد تعريف تظاهرات "الإخوان" واعتصاماتهم بين عامي 2013 و2014 باعتبارها محاولة للخروج على إجماع الأمة، وإقحاماً للسياسة في الدين، وتحاول إعادة ترتيب الأولويات بالنسبة إلى شباب الجماعة، استغلالاً لضعفهم معرفياً ومعاناتهم في السجون، وذلك بعدما فشلت عملياً. وكانت مصادر أمنية قد قالت، لـ"العربي الجديد" في 2018، إن الممارسة العملية أوضحت أن الأمن الوطني حوّل الإجراءات المقررة للدمج إلى محض مساومات للحصول على معلومات تنظيمية، وربط التوقيع على وثائق الاعتراف بالسيسي ونبذ العنف بالحصول على تسهيلات معيشية داخل السجن، بما في ذلك السماح للسجناء بلقاء ذويهم في مواعيد الزيارة الشهرية أو عدمه. الأمر الذي أدى إلى حدوث خلافات بين مجموعات السجناء، لرغبة البعض في الحصول على تلك المميزات من دون التوافق على ذلك مع رفاقه، أو لحصول البعض على مميزات فعلية، وعدم إدراك الآخرين سبب حرمانهم منها. يذكر أن قرار العفو الأخير ضم ضابطين هما: الرائد المزمل نافع، الرئيس السابق لمباحث مركز طهطا بمحافظة سوهاج، والنقيب عمر أحمد سعد أبو عقرب، معاون المباحث السابق بنفس المركز ونجل نائب برلماني سابق عن الحزب الوطني المنحل الحاكم سابقاً، والمدانان في قضية تعذيب سائق "توك توك" حتى الموت في يوليو/تموز 2016، وصدر ضدهما حكم بات من محكمة النقض في فبراير/شباط 2019 بالسجن 3 سنوات.