29 نوفمبر 2016
خطأ السعودية الاستراتيجي في مواجهة "جاستا"
ليس من السهولة أن يتم إسقاط فيتو رئاسي في الولايات المتحدة الأميركية، إذ يحتاج الأمر إلى موافقة ثلثي مجلسي الشيوخ والنواب، ما يعني أن الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس سيعارض رغبة الرئيس واختياره، ولم يتم ذلك خلال اثنتى عشرة مرة استخدم فيها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حق الفيتو منذ تولى مقاليد الحكم، إلا في حالة قانون "العدالة ضد الإرهاب" (جاستا)، والذي يبيح مقاضاة المملكة العربية السعودية وغيرها في أحداث "11 سبتمبر" 2001، حيث تنص المادة السادسة منه على أنه "لا يجوز لدولةٍ أجنبيةٍ أن تكون في مأمنٍ من اختصاص المحاكم الأميركية في أي قضيةٍ من القضايا التي تطالب بتعويضات مالية ضد دولةٍ أجنبيةٍ جراء إصاباتٍ جسدية لشخصٍ أو ممتلكاتٍ أو حوادث قتل، تحدث في الولايات المتحدة، وتكون نتيجة عمل من أعمال الإرهاب الدولي". وعلى الرغم من أن القانون يتعارض مع مبدأ سيادة الدول التي تعلو على أي سيادة، فقد لاقى شبه إجماع لتمريره، حيث تجاوزت النسبة المطلوبة لإسقاط الفيتو الرئاسي، لتصل إلى نسبة 97% في مجلس الشيوخ، و82% في مجلس النواب، فهل لم يدرك النواب الخطر الذي بدا من تهديدات المملكة، بسحب استثماراتها؟ أم أنهم لم يفهموا حجم التعاون العسكري الكبير مع المملكة، والذي قد يتأثر بمثل هذا القانون؟ أم قد غاب عنهم العالم العربي، وقوته، ومكانته الجيوسياسية وتأثيرها على المصالح الأميركية؟ أم أن ما نتصوره من تلك التساؤلات سراب في خيال العالم العربي المريض؟
بالطبع، لم تغب تلك التساؤلات عن متخذ القرار الأميركي، فأما من ناحية الاستثمارات، فعلى الرغم من عدم وجود أرقام رسمية محدّدة لإجمالي حجم وقيمة الأصول التي تمتلكها المملكة في الولايات المتحدة، إلا أننا نمتلك بياناتٍ كشفتها وزارة الخزانة الأميركية في مايو/ أيار 2016، تظهر أن حيازة السعودية من السندات وأذون الخزانة الأميركية بلغت 116.8 مليار دولار حتى مارس/ آذار 2016، أي أنها لا تتعدى نسبة 2% فقط من إجمالي الحيازات الأجنبية لتلك السندات، والبالغة 6.2 تريليونات دولار، وفي المرتبة الثالثة عشرة بين الدول المستثمرة في هذه السندات. ويكفي أن تعرف أن المستثمر الأول في تلك السندات، وهي الصين، تبلغ استثماراتها نحو 1.2 تريليون دولار، وهذا يعني ببساطة أن فرضية بيع كل الاستثمارات في السندات، وأذون الخزانة الأميركية مع صعوبة ذلك سيكون ذا تأثير محدود في الاقتصاد الأميركي.
ومع محدودية التأثير في الاقتصاد الأميركي، فإن الإقدام على البيع، بصورة كبيرة يزيد من العرض، ويؤدي إلى انخفاض أسعار الأوراق المالية، وبالتالي، خسائر كبيرة على المملكة، تكمن في انخفاض قيمة تلك الاستثمارات، والتي تمثل نسبة نحو 21% من حجم الاحتياطي الأجنبي في المملكة، والبالغ نحو 562 مليار دولار، ما يعني أن الإقدام على البيع سيؤثر سلباً على حجم ذلك الاحتياطي. وبالتالي، تفوق خسارة المملكة بعدة مراحل ما يمكن أن يتكبّده الاقتصاد الأميركي.
إذاً، لماذا لم يخش النواب، وهم يُسقطون الفيتو الأميركي، من تأثر حجم التعاون العسكري مع
المملكة؟ ربما كانت الإجابة تأتي برؤية المشهد المرتبك في المنطقة، فالمملكة فشلت فيما قامت بتدشينه في ديسمبر/ كانون الأول 2015 من التحالف الإسلامي العسكري، والذي يضم 34 دولة، لم تعرف بعضها بهذا التحالف، إلا من وسائل الإعلام. وها هو مستنقع اليمن الذي لم تخرج منه المملكة بسلام، وستلجأ، في نهاية الأمر، إلى القبول بالمفاوضات مع الحوثيين، والتي كانت ترفضها في بادئ الأمر، ولم تكن "عاصفة الحزم"، والتي بدأت في مارس/ آذار 2015، نزهةً، وأصبح الخروج منها ذا تكلفة باهظة. وها هي إيران، العدو المتربص بالمملكة، تكسب كل يوم أرضاً جديدة في العراق ولبنان وسورية واليمن، وحققت نجاحات في الاتفاق النووي مع الغرب في يوليو/ تموز 2015، والذي تم على أثره الرفع الجزئي للعقوبات. إذاً، لا خيار أمام المملكة، إما استكمال التحالف العسكري مع الولايات المتحدة وتقويته، أو البحث عن شراكة حقيقية مع تركيا، والتي تواجه بمؤامرات لإضعافها من دول حليفةٍ للمملكة.
أخطأت المملكة خطأ استراتيجياً، شجع على ظهور هذا القانون، بل ولربما أدّى إلى ما هو أكثر سوءاً في الأيام المقبلة، والتي تتشكل فيها خريطة المنطقة العربية من جديد، فقد اعتمدت، في مواجهتها القانون، على التلويح بالاقتصاد والاستثمارات، ونسيت الشعوب، وقوة العرب التي ضاعت وضعفت، بفعل حساباتٍ خاطئةٍ للمملكة، ويظهر هذا الخطأ جلياً في دعمها الانقلاب العسكري في مصر، والذي أدى إلى ضعف قوة الجيش المصري، وانهماكه في المشكلات السياسية الداخلية، وتركيزه على المشروعات الاقتصادية التي تدر نفعاً على جنرالات مصر، والذين لا يرون في دول الخليج سوى مورد جيد للأموال، أو الرز كما أطلق عليه قائد الانقلاب، فأصبحت خطة الجيش الذي يعد من أقوى الجيوش العربية كيفية السيطرة على أي ثورةٍ شعبيةٍ قد تنطلق في ست ساعات. لم يكمن هذا الخطأ الاستراتيجي فقط في ضعف الجيش المصري، بل في عقيدته القتالية، فأصبحت حماية الجيران الصهاينة أهم من الوقوف في مساندة الأشقاء، وما كان ادّعاء "مسافة السّكة" إلا نوعاً من البروباغندا السياسية التي ثبت عدم جدّيتها.
إذاً، كيف يمكن للمملكة الوقوف ضد هذا القانون؟ وكما صرّح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، في زيارته أنقرة أخيراً، بأن "الاستهداف واضح، ولا يختلف عليه اثنان. ولا نستطيع أن نقول لهم لا تستهدفونا، لكن المهم أن نحصّن أنفسنا قدر الإمكان". فما هو السبيل للتحصين الآن؟ خصوصاً بعدما فشلت لغة التهديد، قبل تمرير هذا القانون، علماً أن الخطورة ليست في المليارات المهدّدة بالتجميد، بل في الخطوات التالية للاستهداف، في ظل وجود عالم عربي، يغوص في فوضى ساهمت فيها مباشرةً سياسات المملكة والإمارات العربية المتحدة، بتدعيم قوى الثورة المضادة، وتغليب الديكتاتوريات العسكرية على إرادة الشعوب.
الحصن الحقيقي للمملكة وللعالم العربي المستهدف في مصالحة الشعوب، ودراسة كيف أدّى تجاهل تلك الشعوب إلى حالة الضعف وعدم الاهتمام بالمصالح العامة للأمة. وليس أدل على ذلك من عدم خروج مظاهرةٍ شعبيةٍ واحدةٍ في العالم العربي، من أقصاه إلى أدناه، ضد هذا القانون، ولا أظنها تتأثر أو تخرج ثائرةً إذا ما حدث الأسوأ، فهل تعيد المملكة النظر في مصالحها الاستراتيجية، قبل فوات الأوان؟ وهل تتوفر لها الإرادة والإمكانية؟.
بالطبع، لم تغب تلك التساؤلات عن متخذ القرار الأميركي، فأما من ناحية الاستثمارات، فعلى الرغم من عدم وجود أرقام رسمية محدّدة لإجمالي حجم وقيمة الأصول التي تمتلكها المملكة في الولايات المتحدة، إلا أننا نمتلك بياناتٍ كشفتها وزارة الخزانة الأميركية في مايو/ أيار 2016، تظهر أن حيازة السعودية من السندات وأذون الخزانة الأميركية بلغت 116.8 مليار دولار حتى مارس/ آذار 2016، أي أنها لا تتعدى نسبة 2% فقط من إجمالي الحيازات الأجنبية لتلك السندات، والبالغة 6.2 تريليونات دولار، وفي المرتبة الثالثة عشرة بين الدول المستثمرة في هذه السندات. ويكفي أن تعرف أن المستثمر الأول في تلك السندات، وهي الصين، تبلغ استثماراتها نحو 1.2 تريليون دولار، وهذا يعني ببساطة أن فرضية بيع كل الاستثمارات في السندات، وأذون الخزانة الأميركية مع صعوبة ذلك سيكون ذا تأثير محدود في الاقتصاد الأميركي.
ومع محدودية التأثير في الاقتصاد الأميركي، فإن الإقدام على البيع، بصورة كبيرة يزيد من العرض، ويؤدي إلى انخفاض أسعار الأوراق المالية، وبالتالي، خسائر كبيرة على المملكة، تكمن في انخفاض قيمة تلك الاستثمارات، والتي تمثل نسبة نحو 21% من حجم الاحتياطي الأجنبي في المملكة، والبالغ نحو 562 مليار دولار، ما يعني أن الإقدام على البيع سيؤثر سلباً على حجم ذلك الاحتياطي. وبالتالي، تفوق خسارة المملكة بعدة مراحل ما يمكن أن يتكبّده الاقتصاد الأميركي.
إذاً، لماذا لم يخش النواب، وهم يُسقطون الفيتو الأميركي، من تأثر حجم التعاون العسكري مع
أخطأت المملكة خطأ استراتيجياً، شجع على ظهور هذا القانون، بل ولربما أدّى إلى ما هو أكثر سوءاً في الأيام المقبلة، والتي تتشكل فيها خريطة المنطقة العربية من جديد، فقد اعتمدت، في مواجهتها القانون، على التلويح بالاقتصاد والاستثمارات، ونسيت الشعوب، وقوة العرب التي ضاعت وضعفت، بفعل حساباتٍ خاطئةٍ للمملكة، ويظهر هذا الخطأ جلياً في دعمها الانقلاب العسكري في مصر، والذي أدى إلى ضعف قوة الجيش المصري، وانهماكه في المشكلات السياسية الداخلية، وتركيزه على المشروعات الاقتصادية التي تدر نفعاً على جنرالات مصر، والذين لا يرون في دول الخليج سوى مورد جيد للأموال، أو الرز كما أطلق عليه قائد الانقلاب، فأصبحت خطة الجيش الذي يعد من أقوى الجيوش العربية كيفية السيطرة على أي ثورةٍ شعبيةٍ قد تنطلق في ست ساعات. لم يكمن هذا الخطأ الاستراتيجي فقط في ضعف الجيش المصري، بل في عقيدته القتالية، فأصبحت حماية الجيران الصهاينة أهم من الوقوف في مساندة الأشقاء، وما كان ادّعاء "مسافة السّكة" إلا نوعاً من البروباغندا السياسية التي ثبت عدم جدّيتها.
إذاً، كيف يمكن للمملكة الوقوف ضد هذا القانون؟ وكما صرّح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، في زيارته أنقرة أخيراً، بأن "الاستهداف واضح، ولا يختلف عليه اثنان. ولا نستطيع أن نقول لهم لا تستهدفونا، لكن المهم أن نحصّن أنفسنا قدر الإمكان". فما هو السبيل للتحصين الآن؟ خصوصاً بعدما فشلت لغة التهديد، قبل تمرير هذا القانون، علماً أن الخطورة ليست في المليارات المهدّدة بالتجميد، بل في الخطوات التالية للاستهداف، في ظل وجود عالم عربي، يغوص في فوضى ساهمت فيها مباشرةً سياسات المملكة والإمارات العربية المتحدة، بتدعيم قوى الثورة المضادة، وتغليب الديكتاتوريات العسكرية على إرادة الشعوب.
الحصن الحقيقي للمملكة وللعالم العربي المستهدف في مصالحة الشعوب، ودراسة كيف أدّى تجاهل تلك الشعوب إلى حالة الضعف وعدم الاهتمام بالمصالح العامة للأمة. وليس أدل على ذلك من عدم خروج مظاهرةٍ شعبيةٍ واحدةٍ في العالم العربي، من أقصاه إلى أدناه، ضد هذا القانون، ولا أظنها تتأثر أو تخرج ثائرةً إذا ما حدث الأسوأ، فهل تعيد المملكة النظر في مصالحها الاستراتيجية، قبل فوات الأوان؟ وهل تتوفر لها الإرادة والإمكانية؟.