خطاب الانتصار السياسي

24 يوليو 2017

خاطب أمير قطر العقل والوجدان (الأناضول)

+ الخط -
خطاب الشيخ تميم بن حمد، يوم 21 يوليو/ تموز الجاري، كان الأول له منذ الأزمة الخليجية وحصار قطر، والأهم الذي تصدر وسم #خطاب_تميم في أعلى ترند عالمي في منصة "تويتر" ليلة إلقائه.
أهنئ أمير قطر على تقدير وقت الخطاب، بعد الانتصار السياسي والدبلوماسي لقطر، وتتابع الشواهد الدولية مما أظهرته الصحافة الدولية عن الاستخبارات الأميركية من ضلوع الدول المحاصرة، أبوظبي خصوصا، في عملية قرصنة الموقع الرسمي لوكالة الأنباء القطرية، وإسقاط الفبركات فيه على أمير قطر، والتي بني على باطلها قطع العلاقات مع قطر. كما أهنئ أمير قطر على حسن اختيار توقيت الخطاب الذي جاء متناسبا مع الشرق والغرب في العاشرة مساء جمعة مكّة المكرمة وفجر المشرق والثالثة من منتصف نهار نيويورك- أميركا، ما جعل العالم كله مستعدا له في ترقب حثيث.
يحمل الخطاب محاور عدة، وأخص فيه محورا واحدا: "خطاب الصمود والإرادة على المستوى الشعبي والقيادي"، وفيه شقّان، أوضحهتما بدايته، فخاطب "العقل والوجدان". وهذه الثنائية ضرورية، خصوصا أن الحصار، بما سببه قطع العلاقات والعقاب الجماعي للشعب، حمل آثارا إنسانية تجاه العلاقات الأسرية وقطع طرق الدواء والغذاء، ومشاعر أثّرت على إتمام مناسك العمرة في حرمة رمضان، فمسّ وجدان العرب والمسلمين قاطبة، وإنْ لم تستطع شعوب دول الحصار التعبير عنه، تحت تهديد العقوبات الجنائية الجائرة.
خطاب وجدان أيضا على الصعيد المحلي، بما أثبته الطّيف الشعبي القطري، من مواطنين ومقيمين، واللحمة الوطنية المتّحدة مع القيادة التي قوّت من الرباط الداخلي، فخيبت آمال الحاقدين، ظنّا منهم أن دولة صلبة كقطر قد تكون كرتونية فتهزم، أو زجاجيةً فتكسر، فانتكسوا وعادوا أدراجهم بخفّي حنين. باختصار: وجدان يؤطر العلاقة بين الحاكم والمحكوم، القائمة على الحبّ العفوي الخالص والاحترام المتبادل.
كما كان خطابا للعقل على مستوى محلي، يستدعي تقييما وتشخيصا دقيقا لتلك المرحلة 
الحسّاسة، وخطابا للتعقل على المستوى العربي، يقتضي التنوير فيما مسّ عقيدة المسلمين، ومنهجية تفكيرهم، من غدر سياسي، ومن تنازل عن المبادئ وتخاذل وتواطؤ، بما أسقطته دول الحصار عبر القرصنة من افتراء جائر بالإرهاب، والذي حاول المتهمون إلباسه غيرهم، فارتدّت سهامه عليهم، عندما ركبوا موجة حرب التضليل بالمصطلحات، من دون أن يجتهدوا حتى في تعريف الإرهاب، حتى لا يدمغ به كل شيء في وطنهم العربي والإسلامي، فيُتهموا به في كل شيء، حتى في شرعية الدفاع عن مقدّساتهم التي تخلوا عنها يوم أن وضعوا يدهم مع المحتل (إسرائيل) ضد قطر، حتى تجرأ المحتل الصهيوني على حرمان المسلمين من الأقصى وإغلاقه، في سابقة لم تحدث منذ عام 1969.
اتصف خطاب أمير قطر بالقوة والثقة بالنفس والإيمان والتوكل، كما عكس الإرادة والصمود والكرامة والتحدّي، في الوقت الذي كانت الشفافية عنوانه، فلم يتوارَ الخطاب، وهو يتوقع الحضور الدولي اللافت عالميا، عن تشخيص الواقع بمكامنه المتعددة السلبية والإيجابية، وتوضيح تبعات الحصار واستشراف المستقبل. خطاب يسير على الأنماط العصرية الدولية التي تتجاوز السجع والجناس والخطابات البلاغية المفوهّة إلى تقديم منهاج متكامل رسم خارطة طريق للأجيال في تأطير منظم للسياسات الوطنية المحلية والخارجية. لذلك، عجز عن فهمه نفر من العرب، لأنه يسير عكس سيرهم المعتّم والارتجالي.
خطاب عكس أمير قطر فيه الواقع أن "الحياة تَسيرُ في قطر بِشَكْلٍ طَبيعيْ مُنْذُ بِدايَةِ الحِصارْ"، وهذه حقيقة، ولكنه كان فيها قائدا متواضعا جدا، فأشهد، وإنني أعيش خارج قطر وعدت إليها منذ أسبوع، فوجدت أن الحياة ليست طبيعية فحسب، بل إن قطر تعيش، وهي تحت الحصار، عصرا ذهبيا، ليس على مستوى إدارة الدولة الأزمة في مجال الأمن الغذائي الذي عزز إنتاجها المحلي، واستورد لها كل احتياجاتها جوا من كل بقاع العالم فحسب، بل حتى على مستوى التبادل العلمي والمهني بين الزائرين من مختلف دول العالم، ولم يمنعهم الحصار من القيام بذلك، فحضرت هذا الوقت مع أساتذه وباحثين من جامعات أسترالية وعربية في زياراتهم الميدانية لقناة الجزيرة وغيرها، والذي زادها قوة أسطول القطرية الذي ما زال يعمل باحتراف مدنيا، وعلى مستوى الشحن الجوي. ومن يزور قطر يجدها خلية عمل في كل مؤسساتها، فابناء قطر كما ذكر الأمير "أثبتوا صمودهم ولحمتهم".
وعلى الرغم من ذلك النجاح، فإن واقعية الخطاب لم تحول الواقع إلى يوتوبيا، فقد شخّص مكامن الألم في قوله "لا أُريدُ أَنْ أُقَلِّلَ مِنْ حجمِ الألَمِ والمعاناةِ الذي سبَّبَهُ الحِصارْ". وهذه حقيقة ثانية، فعدم تأثر سير الحياة بشكل طبيعي في البلد، نظرا إلى حسن إدارة قيادته الأزمات لا يلغي "الألم" مما عبر عنه الأمير "بالمرارةَ"، ولكنها المرارة التي تعلم الدروس، فتجري على الحِكمةَ السائرةَ "رُبَّ ضارةٌ نافعةْ". فكانت الأزمةُ إعادة بناء واكتشاف للمجتمعَ القطريْ، في تلاحمه الفريد، وفيما سطره في استخدام مَكامِنَ قُوَّتِهْ الممثلة في وِحْدَتِهِ وإرادَتِهِ وعَزيمتِهْ. بل وإعادة بناء للدولة المدنية من تجديد للبيعة والولاء والانتماء لحكومةٍ، قامت على ركائز السيادة وعدم التفريط فيها، وعلى متانة لبنات أطرتها سلفا من احترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير التي أتاحتها داخليا وخارجيا، فكانت ثورتها الإعلامية الدولية رهانا على قوتها الناعمة، ونجاحا في كسر التدفق الأحادي والاحتكار الإعلامي القطبي.
كان خطاب أمير قطر مرآةً عكست ما أثبتته تجربة الحصار من نجاعَةِ دولة المؤسسات في قطر على قدرتها على الصمود بجدارة، بل وتجاوز الأزمةَ بِتوفيرِ كل الاحتياجاتِ السُّكانِية، كل في مجاله في سيمفونية متناغمةٍ، تعتمد على صَرْحِ اقتصاديْ متين ومستقل ومتنوع وآمن، لحماية الأجيال، قائم على اقتصاد المعرفة، وتنويع مصادر الدخل التي لم يجدها المواطن القطري في عز هذه الأزمة إلا ترجمة حقيقية لما كان يسمعه في الرؤية، من أنها ثروة للأجيال، وليست مثل غيرها جيوبا مفتوحة، مستغلة أرصدة الحكام والحكومات، كما تجارب الدول المستبدة.
وإذا كان أمير قطر قد أشار، بِكُلِّ اعتزازْ، إلىَ "المستوىَ الأخلاقيِّ الرَفيع وصَلابَةِ موقفِ
شعبه وشَّهامته وحِفاظِهِمْ علىَ المستوىَ الراقيْ في مُقارَبَةِ الأوضاع علىَ الرَّغْمِ من حملة التَحريضٍ غَيْرِ المَسبوقْ"، إلا أن ما اتصف به ذاته في حسن إدارته الدبلوماسية والأخلاقية للازمه لا يترجمه القطريون فقط بما يعنيه المثل العربي "كما تكونون يولّى عليكم"، بل كان هو نفسه قدوتهم الحسنة، فوق أنه وجّه شعبه، من خلال بيانات صدرت تباعا عن مكتب الاتصال الحكومي في قطر، إلى عدم الانجراف إلى لغة الخصم التي طفحت سوءا، حتى في إعلامهم الرسمي، فكان بأخلاقه مدرسة ونموذجا يحتذى، لأنه كان قائدا، ولم يكن حاكما ينتظر التبجيل وتقبيل الأقدام والتقرب منه بشتم الآخر. وهناك فرق بين تزّعم القيادة وتولي الحكم، فليس كل حاكم قائدا، وهذا يعرفه العرب منذ أيام الجاهلية، أي قبل الإسلام، وقبل نظريات القيادة والإدارة في الغرب. خصوصا أن الحصار "كان امتِحاناً إداريا وسياسيا واقتصاديا وأخلاقياً" لقطر، بل منهجا يدرّس في"أُصول ومَبادِئَ وأعراف زَمَنِ الخِلافِ والصِراع"، فحقّ للشعب والقيادة شهادة "الإجازة" في علم إدارة الأزمات، بل وإدارة الذات والأفراد وسط الصراعات. كما كانت الأزمة إعادة اكتشاف لقطر وشعبها من مواطنين، ومقيمين ممن حرصت الرؤية الثاقبة على بنائهم والاستثمار التعليمي فيهم، فآتى ثماره فأنتج قطر وطاب غرسها بما ساهم فيه الجميع في ظل الأزمة، كل في مضماره ممن استهان بعضهم بعدد هؤلاء المقيمين فخابت آمالهم.
ويحضرني هنا ما ذكره صاحب "الأغاني": عندما سأل عمر بن الخطاب الحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا وكان حازمًا فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي، فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره... ". اعتمد "فن الحرب" في العصور القديمة على تكاملية الأدوار في الرأي والإستراتيجية والقيادة الحكيمة، والشعر (القوة الناعمة)، ولو كان تحتها ألف فارس فقط.
وتحضرني معادلة أخرى جميلة سطرتها حنكة عنترة العبسي، عندما سئل: أنت أشجع العرب وأشدّها، فبماذا شاع هذا في الناس؟ فقال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأُحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل إلا موضعًا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله.
القيادة مهارة وحنكة، وفوقها فن وأخلاق، ودبلوماسية ترفعت عن حسابات التعبئة الدعائية المغرضة، وعن حسابات المادة وشراء الذمم، فالمالُ كما قال أمير قطر "لا يُمْكِنُهُ شِراءَ كُلَ شَيْء. فحَتىَ الدولْ الفقيرةْ لديها كرامةٌ وإرادةْ"، فالمال لا يصنع التاريخ، ولا يخلق الزعامة.
Twitter: @medad_alqalam
36E7A5AB-5C4F-4CC3-A27F-F8C022C765BC
36E7A5AB-5C4F-4CC3-A27F-F8C022C765BC
مريم الخاطر

كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.

مريم الخاطر
The website encountered an unexpected error. Please try again later.