في يونيو/ حزيران 2005، وقفت كوندوليزا رايس في المكان نفسه في الجامعة الأميركية في القاهرة على أعتاب استخدام أو سوء استخدام إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن للقوة العسكرية التقليدية لتحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة عبر غزو العراق. كان سقوط صدام حسين، عام 2003، أوّل تصدع في جدار نظام الاستبداد العربي، قبل أن تبدأ أميركا تحصي جثث جنودها في العراق ويكتشف تيار المحافظين الجدد أنّ وعد الديمقراطية لا يخرج من فوهة البندقية، والأهم من ذلك بدأ حينها صعود إيران كقوة إقليمية تدعم مجموعات مسلحة ملأت الفراغ الأميركي. انتقدت رايس في نسخة عام 2005 من خطاب القاهرة، ستة عقود من الدعم الأميركي "للاستقرار على حساب الديمقراطية"، ووضعت حينها المسمار الأول في نعش الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط التي طالما اعتمدت على النظام العربي الرسمي لاستدامة مصالحها.
بعدها بأربع سنوات، أتى الدور على باراك أوباما لوضع لمسته الخاصة على خطابات القاهرة، في خطوة وصفها منتقدوه بأنها كانت "جولة اعتذار" عن سلوك سلفه جورج بوش العدواني. وضع أوباما النقاش في إطار التوتر التاريخي بين أميركا والعالم الإسلامي، لكنه أمعن في استخدام الطائرات بدون طيار التي غالباً ما كانت تقصف أبرياء في بلدان ذات أغلبية مسلمة، بحجة أنّ لهذا السلاح بصمة أخف وخطراً أقل على حياة الجنود الأميركيين. كان لأوباما هدفان في خطابه: فكّ الارتباط بين واشنطن والانقسام السني-الشيعي من خلال الانخراط مع طهران لتحييد النظام الإيراني، والتوصّل إلى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين كرمز لقدرة الأميركيين على إحلال السلام في المنطقة. لكن التناقض بين الهدفين أجهض كل جهوده في ظلّ تركيز إسرائيل والسعودية على ردع إيران، وبالتالي لم يرغبا في تسهيل اتفاق مع الفلسطينيين طالما لم تعطِ واشنطن أولوية لردع النفوذ الإيراني.
بعد عقد من الزمن، أتى بومبيو إلى القاهرة بالعقلية ذاتها، أي للاعتذار عن سلوك الإدارة الأميركية السابقة والإعلان عن أهداف إقليمية متناقضة. تباهى بأنّ "عصر العار الذاتي الأميركي قد انتهى"، لكن تناسى مدى التشابه بين إدارتي ترامب وأوباما رغم الضجيج في سلوك الرئيس الأميركي الحالي. انتقد بومبيو انسحاب أوباما من العراق، قائلاً "عندما تنسحب أميركا، الفوضى تأتي"، في وقت لم يجفّ فيه بعد حبر قرار سحب القوات الأميركية من سورية الذي وقعه ترامب نهاية العام الماضي، كأن بومبيو يريد أن يلقي بلوم الانسحاب الأميركي على إرث أوباما الذي جعل خيارات ترامب محدودة في سورية.
اللافت أنّ بومبيو وصف أميركا في عهد ترامب بأنها "قوة خير" في الشرق الأوسط، استناداً إلى ثلاث حجج: أولاً تخفيض القوات الأميركية في العراق من 166,000 إلى 5,000 وهو قرار اتخذته إدارة أوباما، وثانياً تمكين القوات العسكرية الأميركية على الأرض لمحاربة تنظيم "داعش" بسرعة بدون العودة إلى القيادات المدنية في واشنطن، مع العلم أنّ ترامب دفع وزير الدفاع جيمس ماتيس إلى الاستقالة بسبب عدم موافقته على قرار الانسحاب من سورية. أمّا الحجة الثالثة لتوصيفه أميركا على أنها "قوة خير" في المنطقة، فترجمها الحديث عما سماه المساعدات الإنسانية للعراق، وتناسيه أنّ واشنطن في عهد ترامب قطعت المساعدات عن الفلسطينيين عقاباً على رفضهم قراره نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة.
مع كل انتقاداته القاسية للإدارة السابقة في أسلوب غير معهود لمسؤول أميركي في زيارة خارجية، يعكس خطاب بومبيو مقاربة هي امتداد لعقيدة أوباما من ناحية مجابهة "داعش" عبر استخدام الطائرات بدون طيار، والاعتماد على الشركاء المحليين في الميدان وتمكين الدول الحليفة لحماية حدودها. التناقض يكمن في أنّ إدارة ترامب تعتمد سياسات تتعارض مع هدفها المعلن في هزيمة "داعش". فتسريع الانسحاب الأميركي من سورية يصرف انتباه "قوات سورية الديمقراطية" عن حملتها ضد "داعش"، للتعامل مع التوغّل التركي المحتمل شرق الفرات، كما أنّ قرار ترامب الأخير يجعل البنتاغون يركّز على لوجستية الانسحاب من سورية بدل تعزيز جهوده لمكافحة الإرهاب في سورية والعراق.
أمّا التمايز الأكبر عن أوباما في خطاب بومبيو، فكان عبر رسم هذه الصورة عن أميركا كـ"قوة خير" وإيران كـ"قوة شر". وقال في هذا السياق "لن تتمتّع دول الشرق الأوسط بالأمان وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز أحلام شعوبها إذا استمرّ النظام الثوري في إيران على مساره الحالي". لكن أبعد من ضجيج إدارة ترامب في خطابها حيال إيران، فإنّ ردعها لطهران يختصر على عقوبات أميركية على النظام لا تتمتع بإجماع دولي. وكلام بومبيو عن كيف تدعم إدارة ترامب "تعزيز التحالفات طويلة الأمد وبناء تحالفات جديدة" فيثير الاستغراب بدوره، في وقت تركت فيه حلفاءها الأكراد في العراق وسورية يواجهون قدرهم، وكلاهما الآن منخرط في حوار مع موسكو، وربما مع طهران قريباً، لإيجاد بديل عن التردّد في الدعم الأميركي. والأنظمة العربية الحليفة لواشنطن تواجه معضلة الانحياز لإسرائيل ضد إيران، فيما تقوم إدارة ترامب تدريجياً بتصفية القضية الفلسطينية. كذلك لا تعكس خطابات إدارة ترامب المناهضة لإيران تقاسم النفوذ المستمر بين واشنطن وطهران في كل من العراق ولبنان.
أبعد من تفاصيل ما قاله بومبيو، توقيت هذا الخطاب يدل على أنه كان موجهاً لترامب قبل أي شخص آخر. وزير الخارجية الأميركي العاجز عن مواجهة رئيسه حول الانسحاب من سورية، قرّر توجيه رسالة علنية ينتقد فيها انسحاب أوباما من العراق لأنه يدرك أنّ ليس هناك شيء يكرهه ترامب أكثر من مقارنته بسلفه. لم يحدث في التاريخ الأميركي الحديث أن كانت السياسة الخارجية رهينة إلى هذا الحدّ للدينامية داخل الإدارة الحاكمة. وبعد رحيل جيمس ماتيس عن البنتاغون، سيتنافس بومبيو في الأشهر المقبلة مع مستشار الأمن القومي جون بولتون، لكسب ودّ ترامب ولفت انتباهه، في محاولة للتأثير على السياسة الأميركية في المنطقة. ولسخرية القدر أنّ بولتون، منظّر غزو العراق عام 2003، أصبح يعتبر اليوم الصوت "العقلاني" المتبقي لإنقاذ السياسة الأميركية في سورية.
والأهم من ذلك، مهما كانت نوايا بومبيو في هذا الخطاب، الواقع أنه خسر مع بولتون مصداقيتهما في الشرق الأوسط، ولم يعد أي مسؤول في المنطقة يعتقد أنهما يتحدثان نيابة عن ترامب. كل كلامهما عن سورية وردع إيران منذ العام الماضي محته تصريحات ترامب عن الانسحاب من سورية. ولعله كان الأجدى أن يعقد ترامب اجتماعاً لمجلس الأمن القومي لتحديد مصير مقاربة إدارته حيال سورية قبل إرسال مستشاريه إلى المنطقة للتخبّط في المواقف من عاصمة إلى أخرى، بدون رسائل متماسكة أو وضوح في الموقف، في وقت قال مسؤول في البنتاغون لصحيفة "وول ستريت جورنال": "نحن لا نأخذ أوامر من بولتون".
وبالإضافة إلى تهميش مستشاريه، تزداد عزلة ترامب في الداخل الأميركي وعلى المسرح الدولي، ومحاولات بومبيو شرح قرارات ترامب والحدّ من ضررها لن تنقذ الرئيس الأميركي من نفسه.