تشهد الساحة السودانية بالترافق مع الاحتجاجات الشعبية لإسقاط نظام الرئيس عمر البشير، شدّاً وجذباً داخل المساجد، خصوصاً في خطب الجمعة، إذ يتهم البعض الخطباء بالدفاع عن النظام من خلال تعميم فتاوى عدم جواز الخروج على الحاكم
في مسجد مدينة الكاملين السودانية، وسط البلاد، اضطر خطيب صلاة الجمعة الأخيرة، إلى ترك المنبر قبل أن يكمل الصلاة، وصعد خطيب بديل إلى المنبر، نتيجة ثورة المصلين ضد الخطيب الأول، غضباً من فتوى منه بتحريم الخروج على الحاكم، وقد أفتى بها في ظل تظاهرات شعبية اجتاحت البلاد، بسبب تردي الأوضاع المعيشية، والتي ارتفع سقف مطالبها إلى المناداة بتنحي الرئيس عمر البشير وحكومته.
لم تكن الواقعة هي الأولى من نوعها لحالات الشدّ والجذب بين المصلين وخطباء المساجد منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في نهاية الشهر الماضي، إذ أجبر مصلون خطيب مسجد في حي المغتربين بمدينة الخرطوم بحري، في إحدى صلوات الجمعة، على النزول، بعدما ذهب في خطبته إلى تحميل مسؤولية الندرة في سلعة الخبز للمواطن بدلاً من الحكومة، بحجة أنّ المواطن أناني ويشتري خبزاً أكثر من حاجته الفعلية. لم يكتفِ بذلك، بل قال إنّ الابتلاءات وضنك العيش ليست بسبب الحكام بل الشعب، ما أثار غضب المصلين عليه.
كذلك، تداول ناشطون قبل أيام مقطع فيديو قصيراً لمصلين خرجوا من المسجد اعتقاداً منهم بانحياز الخطيب للمواقف الحكومية من الاحتجاجات الأخيرة، كما شهد مسجد آخر بمدينة الخرطوم حالة شدّ وجذب، حينما طالب شبان إمام المسجد بأداء صلاة الغائب على أرواح شهداء الحراك الشعبي، الذين سقطوا خلال الاحتجاجات، وهو الأمر الذي رفضه الإمام بحجة أن مكان تلك الصلاة ليس المسجد.
أما في مسجد سيد المرسلين بجبرة، جنوبي الخرطوم، فقد طلب أحد المصلين من الخطيب قيادتهم للتظاهر ضد الحكومة بمثل ما كان يفعل في دعمه القضية الفلسطينية، وهو مقترح لم يستجب له الإمام، ما دفع عشرات المصلين للخروج من المسجد مباشرة إلى الشارع مرددين هتافات إسقاط النظام.
وبدأت تتشكل حالة من الانقسام بين الخطباء في ظل الاحتقان الحالي، ما بين مؤيد للحكومة وآخر معارض لها يحث المصلين على الخروج في التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام. ومن بعض المساجد ظلت تخرج الاحتجاجات نفسها أسبوعياً ضد الحكومة، تماماً كما يحدث في مسجد السيد عبد الرحمن، بضاحية ود نوباوي، معقل أنصار حزب الأمة المعارض، فضلاً عن اعتقال بعض الأئمة عقب الانتهاء من خطبهم، وهو ما وقع لأئمة في مدينتي الجيلي، والجريف غرب.
تشرف إدارة الدعوة والعقيدة الحكومية على المساجد في جميع الولايات، وترسخ اعتقاداً أنّ الإدارة هي التي توجه الأئمة بدعم المواقف الحكومية من خلال خطبة الجمعة، وهذا ما بات يثير حفيظة المصلين الذين تختلف توجهاتهم السياسية. كذلك، برزت دعوات لتحييد المساجد عن حالة الانقسام السياسي الحاد في الساحة السودانية، على أن يركز الأئمة على ما يحفظ الوحدة والدماء.
وكان الشيخ عبد الحي يوسف، قد ذكر في بيان له أنّ المساجد لم تُجعل للهتاف والصيحات بتأييد موقف سياسي أو معارضته، وإنّما المساجد لبيان حكم الله وهدي رسوله وفق الآداب والسنن المرعية. ودعا يوسف إلى تنزيه بيوت الله عن الخلافات السياسية والخلافات المذهبية، مؤكداً أنّ المساجد بنيت لذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبيناً أنّ إمام المسجد يتناول الشأن العام بما يراه مبرئاً لذمته ومخلياً لساحته.
ولم يتفق كثيرون مع هذه الرؤية إذ يرون أنّ المساجد ينبغي لها أن تكون حاضرة في كلّ قضايا الناس وهمومهم، وأن تكون هي في المقدمة بعدما ضاق الخناق على الناس من الأوضاع المعيشية. ويقول الدكتور عبد الصمد علي عبد الصمد، خطيب مسجد العودة بالخرطوم، إنّه لا يتفق مع ما ذهب إليه الشيخ عبد الحي يوسف في بيانه، مشيراً في حديث إلى "العربي الجديد" إلى أنّ منابر المساجد من أوجب واجباتها مناقشة كلّ قضايا المسلمين الدينية والدنيوية وتبيين الحقائق للناس خصوصاً في القضايا التي تبرز فيها الفتن التي تؤدي إلى إزهاق الأرواح، لافتاً إلى أنّ رسالة المسجد في هذا الوضع الحالي ينبغي أن تذهب إلى إدانة قتل الناس وفي الوقت نفسه التحذير من مغبة الخروج على الحاكم، مشيراً إلى أنّ المناداة بإبعاد المساجد عن هموم المسلمين إنّما هي مناداة بفصل الدين عن الدولة، وهي علمانية واضحة.
حول المشادات التي تحدث في المساجد بين الأئمة والمصلين، يقول عبد الصمد إنّهم كخطباء مساجد لا يقدمون برنامج "ما يطلبه المستمعون" بل يتحدثون بما يرضي الله ورسوله الكريم، ويرضي ضمائرهم من بعد ذلك، ومن حق غيرهم التعقيب على كلامهم. ويلفت إلى أنّهم في اجتماع مع إدارة العقيدة والدعوة، اتفقوا على تلك المضامين على أن يجري التعامل بموجب القانون تجاه أيّ حالة عنف تجاه أيّ خطيب. ينفي عبد الصمد أن يكون للخطباء أيّ مصالح مع الدولة إذ إنّ الرواتب التي يتقاضونها حتى، ليست ذات قيمة كبيرة، كما ينفي توجيه الحكومة رسائل سياسية عبر إدارة العقيدة والدعوة.
لكنّ الهادي محمد الأمين، الصحافي المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، يؤكد أنّ إدارة العقيدة والدعوة هي التي تتولى توجيه أئمة المساجد في خطبهم الأسبوعية، لذلك تكون غالبية الخطب متطابقة مع وجهة النظر الحكومية، فتعمد إلى امتصاص الغضب الشعبي المتصاعد. وإذا خرج خطيب عن ذلك يكون في حدود صغيرة، ولا يصل مثلاً إلى حدّ المطالبة بإسقاط النظام. وهي الحدود التي يتبعها خطيب مسجد كافوري في خطبه الأسبوعية التي تنقل عبر القنوات الحكومية، وذلك للهدف نفسه، امتصاص الغضب وتخفيف الضغائن.
يستبعد الأمين أن يكون للمساجد أيّ دور في تحريك الشارع، ذلك لأنّ الجماعات الإسلامية بمختلف مذاهبها منحازة للحركة الإسلامية التي تحكم البلاد، منبهاً إلى قدرة الحركة على استغلال المساجد لصالحها، ومبيناً أنّ المسجد الوحيد الذي تخرج منه التظاهرات هو مسجد السيد عبد الرحمن المهدي، معقل طائفة الأنصار بأم درمان. وحول جدوى الفتاوى التي يصدرها بعض الأئمة بحرمة الخروج على الحاكم، يقول الأمين إنّ تلك الفتاوى تثبت تماماً عدم جدواها، بل فشلها في وقف تصاعد الاحتجاجات الشعبية، مشيراً إلى أنّ القواعد الشعبية للجماعات الإسلامية حتى، لا توافق شيوخها دائماً، بل تجادلهم باعتبار خروج السودانيين الحالي إلى التظاهر والاحتجاج نابعاً من الدستور الذي شاركت في وضعه العديد من الجماعات الإسلامية نفسها.