06 نوفمبر 2024
خطوط الموصل الحمر
أخطر ما يواجهه بلدٌ ما أن يسقط في حمأة أزماتٍ لا أول لها ولا آخر، الأخطر أن يتكالب عليه الغرباء، ويتقاتلون على أرضه، محاولين السيطرة على ثرواته، والاستحواذ على قراره، والأكثر خطورةً أن لا يجد من بين حاكميه الذين جاءت بهم إلى السلطة مصادفةٌ شريرةٌ من يمتلك الحكمة والقدرة والشجاعة على إدارة هذه الأزمات، والتحكّم فيها لغاية الوصول بالبلد وبأهله إلى شاطئ السلامة والأمان.
فكّرت في هذا كله، وأنا أدير النظر بين فضائياتٍ وإذاعات وصحف، وكلها تتحدّث عن استعدادات جارية للبدء بعملية تحرير الموصل، وانتزاعها من قبضة "داعش"، وعن خلافات بين القوى التي سوف تشارك أو لا تشارك فيها، وأعرف أن هناك نوعاً من "الفيتو"، يضعه طرف على آخر، وأن قوىً إقليمية ودولية تمارس أدواراً مشبوهة، وتتبادل الاتهامات على هامش المعركة المقبلة، وما يحيط بها. وأسمع عن خلافاتٍ أعمق ووجهات نظر حادّة حول الموصل، وما ينتظرها في اليوم التالي، ومن سيمسك بأرض المدينة، ويستأثر بتقرير مجريات أمرها بعد التحرير، ومخاوف من نزوح سكاني جماعي، يهدّد بمحنةٍ إنسانيةٍ، لا قبل لدولةٍ، مثل العراق، بمواجهتها، ومن انتهاكات محتملةٍ تغذيها خلفياتٌ طائفيةٌ أو عرقية، وكذا من عمليات تغيير ديموغرافي، قد تطاول المدينة، فتفسد عليها مستقبلها.
لمعرفة المشهد عن قرب، حملت هذا كله إلى من قد يعينني أكثر على معرفة الحال وتقييمه، وكان قد أقام في المدينة، قبل أن يهجرها إلى أربيل، اختبر خلفيات ما يجري في الميدان، وخبايا ما يدور في المجالس، قال لي على الهاتف: "اختلطت الصورة، وتداخلت أبعادها، وتمدّدت الوقائع اليومية، لتصبح في حالة سيولةٍ ظاهرة، فعلى المستويين، الدولي والإقليمي، بدا واضحاً أن الأميركيين يريدون من عملية التحرير أن تشكّل دعماً للديمقراطيين في انتخابات الرئاسة. ولذلك، زجّوا آلافاً من قواتهم المسلحة، واستنفروا سلاح الجو، وأمنوا مكاناً للمخابرات الأميركية (سي آي إيه) قريباً من أرض المعركة التي يعتبرونها فاصلةً في إطار مكافحة الإرهاب. ووجد الأتراك أنفسهم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ قد لا تتكرّر. ولذلك، يصرّون على إبقاء وجودهم العسكري ثابتاً في الميدان، ولا يكفون عن الإفصاح علناً أن المعركة هي معركتهم، وعيونهم تتركّز على معاهدة لوزان التي عقدت قبل قرن، والتي ضمت الموصل إلى عراقٍ موحد، وما دامت الخريطة العراقية توشك أن تتمزّق، فقد أصبح من حقهم أن يعيدوا الفرع إلى الأصل، كما يزعمون!
أما الإيرانيون فيضحكون ملء أشداقهم، هم يدركون جيداً أن الغنيمة لا بد أن تصل إليهم في آخر المطاف. ولذلك، تراهم يمارسون "التقية" في نفي وجودهم العسكري على أرض العراق، وفي الادعاء بأنهم يقدّمون مساعدةً عسكريةً استشارية فقط، لكنهم يصارحوننا أنهم لن يسمحوا بتهديد أمنهم القومي، ويعتبرون أرضنا، من شمالها إلى جنوبها، مجالاً حيوياً لهم"
سألته: "وأين العرب من معركة الموصل؟". تنهد قليلاً قبل أن يجيب: "أنت تعرف أن العرب مشغولون كلٌّ بدائه، ولم يعد لأكثر دولهم حولٌ ولا قوة، بل ولا قدرة لهم على أن يصرخوا أو يستغيثوا.. فكيف لهم أن يغيثوا!". "والعراق؟. أطلق محدّثي ضحكة طويلة قبل أن يتابع: "اختصر العراق نفسه في شخص حيدر العبادي، الموكول إليه صنع القرار، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة بحكم الدستور، وهو يبدو منجرحاً، وفي حالة نكوصٍ، وعجز عن الثبات على موقفٍ، بحكم القوى الضاغطة عليه. تراه يعلن أن عملية التحرير ستكون عراقيةً خالصةً، وينفي أي وجود لعسكريين أجانب، وأمامه، على مدى النظر خمسة آلاف عسكري أميركي، ومئات من أفراد "فيلق القدس" الإيراني، ومثلهم من الأتراك، وآخرون من 63 دولة، وهو يناكف الأتراك، وينسّق مع الأميركيين، ويمالئ الإيرانيين، ويتودّد للروس، وتلك حالٌ لا يحسده عليها أحد".
"وكيف ترى الحال في الموصل بعد داعش؟". "أنت تعرف أن العودة إلى التاريخ خط أحمر، واستعادة الخرائط الجغرافية الميتة خط أحمر كذلك، والبحث عن مخرج ثالث غير مسموحٍ به في الحاضر. لهذا، سوف تتوالى الأزمة فصولاً، وستلد أخرى وأخرى، وما علينا سوى أن نعوّد أنفسنا على الانتظار والصبر".
قال عبارته الأخيرة، وترك سماعة الهاتف مفتوحة، وغاب كأنما كان يريد أن يوحي أن الاحتمالات كلها ستظل مفتوحة.
لمعرفة المشهد عن قرب، حملت هذا كله إلى من قد يعينني أكثر على معرفة الحال وتقييمه، وكان قد أقام في المدينة، قبل أن يهجرها إلى أربيل، اختبر خلفيات ما يجري في الميدان، وخبايا ما يدور في المجالس، قال لي على الهاتف: "اختلطت الصورة، وتداخلت أبعادها، وتمدّدت الوقائع اليومية، لتصبح في حالة سيولةٍ ظاهرة، فعلى المستويين، الدولي والإقليمي، بدا واضحاً أن الأميركيين يريدون من عملية التحرير أن تشكّل دعماً للديمقراطيين في انتخابات الرئاسة. ولذلك، زجّوا آلافاً من قواتهم المسلحة، واستنفروا سلاح الجو، وأمنوا مكاناً للمخابرات الأميركية (سي آي إيه) قريباً من أرض المعركة التي يعتبرونها فاصلةً في إطار مكافحة الإرهاب. ووجد الأتراك أنفسهم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ قد لا تتكرّر. ولذلك، يصرّون على إبقاء وجودهم العسكري ثابتاً في الميدان، ولا يكفون عن الإفصاح علناً أن المعركة هي معركتهم، وعيونهم تتركّز على معاهدة لوزان التي عقدت قبل قرن، والتي ضمت الموصل إلى عراقٍ موحد، وما دامت الخريطة العراقية توشك أن تتمزّق، فقد أصبح من حقهم أن يعيدوا الفرع إلى الأصل، كما يزعمون!
أما الإيرانيون فيضحكون ملء أشداقهم، هم يدركون جيداً أن الغنيمة لا بد أن تصل إليهم في آخر المطاف. ولذلك، تراهم يمارسون "التقية" في نفي وجودهم العسكري على أرض العراق، وفي الادعاء بأنهم يقدّمون مساعدةً عسكريةً استشارية فقط، لكنهم يصارحوننا أنهم لن يسمحوا بتهديد أمنهم القومي، ويعتبرون أرضنا، من شمالها إلى جنوبها، مجالاً حيوياً لهم"
سألته: "وأين العرب من معركة الموصل؟". تنهد قليلاً قبل أن يجيب: "أنت تعرف أن العرب مشغولون كلٌّ بدائه، ولم يعد لأكثر دولهم حولٌ ولا قوة، بل ولا قدرة لهم على أن يصرخوا أو يستغيثوا.. فكيف لهم أن يغيثوا!". "والعراق؟. أطلق محدّثي ضحكة طويلة قبل أن يتابع: "اختصر العراق نفسه في شخص حيدر العبادي، الموكول إليه صنع القرار، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة بحكم الدستور، وهو يبدو منجرحاً، وفي حالة نكوصٍ، وعجز عن الثبات على موقفٍ، بحكم القوى الضاغطة عليه. تراه يعلن أن عملية التحرير ستكون عراقيةً خالصةً، وينفي أي وجود لعسكريين أجانب، وأمامه، على مدى النظر خمسة آلاف عسكري أميركي، ومئات من أفراد "فيلق القدس" الإيراني، ومثلهم من الأتراك، وآخرون من 63 دولة، وهو يناكف الأتراك، وينسّق مع الأميركيين، ويمالئ الإيرانيين، ويتودّد للروس، وتلك حالٌ لا يحسده عليها أحد".
"وكيف ترى الحال في الموصل بعد داعش؟". "أنت تعرف أن العودة إلى التاريخ خط أحمر، واستعادة الخرائط الجغرافية الميتة خط أحمر كذلك، والبحث عن مخرج ثالث غير مسموحٍ به في الحاضر. لهذا، سوف تتوالى الأزمة فصولاً، وستلد أخرى وأخرى، وما علينا سوى أن نعوّد أنفسنا على الانتظار والصبر".
قال عبارته الأخيرة، وترك سماعة الهاتف مفتوحة، وغاب كأنما كان يريد أن يوحي أن الاحتمالات كلها ستظل مفتوحة.