عقد الوفد الفني المصري المشارك في مفاوضات سدّ النهضة الإثيوبي، في اليومين الماضيين، اجتماعات مطوّلة في واشنطن مع الفريق الفني والقانوني في وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، والذي صاغ مسودة الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل، التي تم تسليمها إلى كل من مصر وإثيوبيا والسودان، الثلاثاء الماضي، واعتذرت بعدها أديس أبابا عن حضور جولة المفاوضات التي كان من المقرر إجراؤها في واشنطن في اليومين الماضيين، لتُحدث انقلاباً على المسار التفاوضي، وتخلي الجولة من مضمونها وتفشل مساعي الإدارة الأميركية لتكون هذه الجولة هي الأخيرة في المفاوضات تمهيداً لتوقيع اتفاق ثلاثي جديد ونهائي يضمن تحقيق جوانب من اهتمامات الأطراف المختلفة.
في السياق، أفادت مصادر حكومية في وزارة الري المصرية لـ"العربي الجديد"، بأن الانسحاب الإثيوبي من الجولة أحدث انقساماً عنيفاً في الفريق المصري، الذي تقوده شخصيات تنتمي للمخابرات العامة تتواصل مباشرة وعلى مدار الساعة مع رئاسة الجمهورية وينسق مع الخارجية والري، إذ ارتأى بعض المسؤولين من وزارة الري ضرورة العودة إلى مصر وعدم حضور الاجتماع والإعلان عن تعليق المفاوضات. كما طالبوا الرئاسة والخارجية باتّباع "خطط سياسية محضة للتعامل مع الموقف"، الأمر الذي رفضته الرئاسة وأبلغت الوفد بصدور تعليمات من رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بتأكيد استمرار التفاوض وتمسك مصر به كحل وحيد للأزمة.
وأوضحت المصادر أن الصياغة الأميركية لمسودة الاتفاق، التي اعترضت عليها إثيوبيا، تضمن لها في الحقيقة الغالبية العظمى من مطالبها، بتمكينها من الاستمرار في ملء الخزان (البحيرة) بالكميات المطلوب تأمينها بشكل مستديم، لضمان توليد الكهرباء من السد لمدة خمس سنوات تالية لبدء التوليد في صيف 2021، فضلاً عن الاقتراب بشدة مما تطالب به من تمرير 35 مليار متر مكعب في فترات الملء لمصر، و32 مليار متر مكعب في فترات الجفاف. واقترحت المسودة الأميركية، كما نشرت "العربي الجديد" في وقت سابق، ضمان تمرير 37 مليار متر مكعب من المياه لمصر في أوقات الملء والجفاف، كرقم وسط بين الرقمين الإثيوبيين ورقم الـ40 مليار متر مكعب الذي تتمسك به مصر، على أن يترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث.
وأضافت المصادر أن الخزانة الأميركية أبلغت الوفد المصري بأن إثيوبيا "لا تعتزم العودة للمفاوضات قبل الانتخابات المحلية في أغسطس/آب المقبل"، مما يعني تأكد المطالبات التي أبدتها إثيوبيا لجميع الأطراف الأسبوع الماضي، والتي ادّعت أن بقاء حكومة أبي أحمد في السلطة، وفوز حزبه في الانتخابات المقبلة هو الضامن الوحيد لتنفيذ أي اتفاقات بشأن السد مع مصر والسودان، وبالتالي فعلى جميع الأطراف وقف المفاوضات حتى ذلك الحين. لكن المشكلة الأولى هنا أن الخطة الإثيوبية التي تم إعلانها من قبل خلال المفاوضات، تنصّ على بدء عملية ملء السد في يوليو/تموز المقبل، وبالتالي فإن القاهرة أبلغت كلا من واشنطن والخرطوم خلال اجتماعات الأمس بأنها "ترفض بشكل قاطع أي حل أو إرجاء من شأنه بدء عملية الملء قبل الاتفاق الكامل والشامل حول قواعد الملء والتشغيل". وبحسب المصادر، فإن السودان من جهته "غير مرتاح للمراوغات الإثيوبية" لكنه في الوقت نفسه "يصرّ على ألا يكتسب الاتفاق حصانة دبلوماسية أو قوة حكمية، إلا بعد إقراره من السلطة التشريعية في كل دولة"، وبالتالي فإن هذا الأمر يصب في مصلحة المزاعم الإثيوبية.
المشكلة الثانية بحسب المصادر الفنية نفسها، أن "إرجاء الملء، على الرغم من أنه ضروري حالياً كنوع من التصعيد المقابل من مصر احتجاجاً على الانقلاب الإثيوبي الأخير، فإنه يأتي على عكس ما كانت ترجوه مصر على المستوى الفني"، فهي كانت ترغب في أن يتم الملء بدءاً من العام الحالي وبأسرع وقت، لاستغلال سنوات الفيضان والرخاء، كحل أفضل من الانتظار والإرجاء لسنوات لا يمكن التنبؤ حالياً بحجم فيضان النيل فيها.
والمشكلة الثالثة أنه "لا توجد خطط مصرية بديلة لمواجهة الإثيوبيين إذا أعلنوا نهائياً عدم المضي قدماً في المفاوضات، في ظل تعالي حدة النعرة الوطنية والاستقلالية لدى حكومة أديس أبابا التي أحرجت بشكل واضح الإدارة الأميركية التي كانت تضغط في مختلف الطرق لتسريع التوصل إلى اتفاق بما في ذلك الإغراء بالمساعدات الاقتصادية للدول الثلاث ورعاية مشروع زراعة الحزام الأخضر للاستمطار". ورجحت أن تعود مصر بالتدريج إلى الخطوات غير المجدية واليائسة التي كانت تقوم بها من قبل مثل الشكوى لدى المستثمرين والمشاركين في مشروع السد والتهديد غير المنتج باللجوء لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، بالمطالبة بالرجوع للأطر السياسية والدولية الحاكمة للقضية، قبل اتفاق المبادئ، الموقع بين الدول الثلاث عام 2015 وعلى رأسها اتفاقية أديس أبابا 1902 والتي تمنع الإثيوبيين من بناء أي أعمال إنشائية أو سدود على النيل الأزرق وغيره من روافد النيل إلا بإذن من الحكومة السودانية والحكومة البريطانية إبان احتلالها لمصر.
من جهتها، كشفت مصادر دبلوماسية مصرية عن معلومات جديدة بشأن الخطط الإثيوبية الجديدة للمماطلة، والتي توصلت لها من خلال المسؤولين الأميركيين، إذ "أبلغت أديس أبابا، واشنطن، بأنها باتت ترى أن أي اتفاق ثلاثي حول مياه النيل الأزرق، من دون عرضه على باقي دول حوض النيل، أمر يفتقر للعدالة، ويسمح باحتكار دولتي المصب للمياه، وإهدار نتائج الاتفاق الإطاري في عنتيبي (أوغندا) عام 2010". وفسرت المصادر الدبلوماسية هذه الرسالة الإثيوبية بأنها "تمهيد للانسحاب الرسمي من المفاوضات الثلاثية برعاية واشنطن والبنك الدولي، خصوصاً أن اتفاق عنتيبي يقوم في الأساس على إعادة توزيع الحصص بصورة مجحفة لمصر والسودان وتزيد عن إمكانيات دول المنبع في التخزين والاستفادة، الأمر الذي يفرغ كل المفاوضات الثلاثية، بما فيها اتفاق المبادئ 2015، من قيمتها ومعناها".
وجاء انقلاب إثيوبيا على المسار التفاوضي ومقاطعة جولة واشنطن في ظل دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر ضد أبي أحمد وتداول شائعات على نطاق واسع في الشارع الإثيوبي وأوساط المعارضة في الخارج والمغتربين، تركز على أن أحمد، المنتمي لقومية الأورومو، يقدّم مصالح مصر وأميركا على المصالح الإثيوبية، ويعطل إنجاز مشروع السد، على الرغم من أن الحقيقة هي أنه لولا الثورة الإدارية والأمنية التي قام بها أحمد فور وصوله للسلطة، لما كان السد قد بلغ هذه المستويات المتقدمة من الإنشاءات، بعد إبطاء لعدة سنوات بسبب سوء الإدارة والفساد.
وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قد أدلى أثناء زيارته لأديس أبابا الأسبوع الماضي بتصريح مربك، قال فيه إن اتفاق سد النهضة "بحاجة لمزيد من الوقت لتصفية الخلافات"، مما بدا مخالفاً للاتجاه الأميركي السابق إعلانه هذا الشهر. وصرح رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله ميريام ديسالين من الخرطوم، الثلاثاء الماضي، عن رغبة إثيوبيا في إرجاء الاتفاق، تأكيداً لما انفردت بنشره "العربي الجديد" قبل تلك الزيارة، بشأن محاولات إثيوبية حثيثة، على صعيد الاتصالات المستمرة بين أديس أبابا وواشنطن من جهة، ومع القاهرة من جهة أخرى، لتأجيل إعلان التوصل إلى الاتفاق النهائي لفترة إضافية، غير محددة، لحين تهدئة الأوضاع السياسية المتوترة في إثيوبيا، بسبب الاستعدادات للانتخابات التشريعية.
وسبق أن كشفت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد" أن الأفكار والمقترحات الأميركية للحل ما زالت تواجه عراقيل بسبب رفض المصريين والإثيوبيين العديد من تفاصيلها، وأنها دارت تحديداً حول أمرين اثنين؛ أولهما: ضمان تمرير 37 مليار متر مكعب من المياه لمصر في أوقات الملء والجفاف، والأمر الثاني هو ضبط آلية محددة للتنسيق بين مصر والسودان وإثيوبيا في إدارة فترة الملء الأولى، فيتم السماح لمصر بالمطالبة باتخاذ التدابير الاستثنائية بناء على مؤشرات مقياس فيضان النيل الأزرق بدلاً من مؤشرات السد العالي، وهو الأمر الذي ما زالت إثيوبيا ترى أنه سيمنعها من تنفيذ جدول ملء محدود للغاية زمنياً لا يزيد على 7 سنوات لملء السد بشكل كامل ومستديم، لإنتاج أكبر قدر من الكهرباء والحفاظ على وتيرة الإنتاج في الفترة بين صيف 2021 وخريف 2026.
وترفض مصر هذا السيناريو وتتمسك بالقياس على مؤشرات السد العالي في أسوان، ليس فقط للحفاظ على مرونة المنظومة المائية لمواجهة الظروف القاسية التي قد تنشأ عن ملء وتشغيل سد النهضة، بل أيضاً لمنع الخروج المبكر لمساحات زراعية شاسعة من الخطة المحلية لزراعة المحاصيل الاستراتيجية، خصوصاً أن نصيب مصر الصافي من المياه يقل بنحو 21 مليار متر مكعب في السنة عن حاجتها المثلى. الأمر الذي ترفضه إثيوبيا بحجة أن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً، قد يؤدي إلى حرمانها من إمكانية الملء لأشهر عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي ترى أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.
وسبق أن شددت المصادر الدبلوماسية المصرية على أن إعلان التوصل إلى اتفاق هو في الحقيقة أقصى ما تطمح له مصر في الوضع الحالي، بغض النظر عن تأثير هذا الاتفاق واقعياً على حصتها من مياه النيل، وكذلك فإن إعلان التوصل لاتفاق هو أقصى ما يمكن لإثيوبيا منحه لمصر والسودان في الفترة الحالية، بغض النظر عن المحتوى، وذلك كله قياساً بتوقيع السيسي على اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 والذي كلف مصر تبعات سياسية وقانونية وفنية سلبية كبيرة لا يمكن تداركها حالياً، ولم تتح للمفاوض المصري الكثير من الخيارات.