قد لا تكون محض مصادفة أن يتزامن رحيل فنان لامع مع الذكرى الثانية عشرة لاحتلال العراق في التاسع من نيسان/ أبريل 2003. مات مثل ملاك متعب، بعد أن ترك وطناً لا يتسع إلا للموت المجاني وحرّاس لاهوت القتل على الهوية. رحل خليل شوقي وسط صقيع الغربة التي لم تكن ترفاً.
خمد الجسد، بعد أن حمل جذوة فن متقدة، استمدت ضوءها من تاريخ شخصي لا ينفصل عن تاريخ المسرح العراقي. فشوقي الذي ولد في بغداد، عام 1924، درس المسرح في أول دورة لمعهد الفنون الجميلة، وتخرج منه عام 1954، ليلتحق بتلفزيون بغداد منذ تأسيسه في 1956، ويكتب أول تمثيلية مخصّصة للتلفزيون العراقي الوليد.
ورغم اتساع فضاء إسهاماته في المسرح والتلفزيون والسينما، إلا أن ثمة أدواراً أدّاها بقيت عالقة في الذاكرة الإبداعية الجمعية. لعل دوره عبد القادر بيك في "الذئب وعيون المدينة" أحد أهم الأعمال في تاريخ الدراما العراقية والذي كتبه عادل كاظم وأخرجه إبراهيم عبد الجليل. في هذا الدور تفوّق شوقي على نفسه، فجسّد شخصية البخيل المرابي بكل حواسه وروحه. لقد امتلك موهبة التقاط ملامح الشخصيات من الخزين الشعبي العراقي.
أما في السينما، فقد أدّى شخصية "المطيرجي" (مربي الحمام) في فيلم "من المسؤول" وهو في بداية مشواره. لم تتوقف علاقته بالسينما العراقية عند التمثيل، إذ أخرج فيلم "الحارس" عام 1967، ونال عنه الجائزة الفضية في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1968، إضافة إلى جائزتين تقديريّتين من مهرجاني طشقند وكارلوفيفاري.
قد لا تكون السينما، وكذلك التلفزيون، سوى متنفس جانبي لشوقي، غير أن المسرح يظل عالمه الذي يسكنه. يختلط مساره المسرحي بتاريخ فرقة "المسرح الفني الحديث" التي كان أحد مؤسسيها. مسار مشترك يحفر في أعماق النفس العراقية ودهاليزها، رافقه فيه يوسف العاني وسامي عبد الحميد وقاسم محمد.
أبدع هؤلاء عبر الأداء وعبر النصّ والتوظيب الركحي، في مسرحيات لا زالت تحفظها ذاكرة محبي المسرح العراقي مثل "بغداد الأزل"، و"ولاية وبعير" و"الفيل يا ملك الزمان"، عن نص سعد الله ونوس. خليل شوقي برز بالخصوص عن أدوار في مسرحيات "الإنسان الطيب" و"خيط البريسم" و"كان يا ماكان" و"السيد والعبد" و"الينبوع" و"شعيط ومعيط".
تقف "النخلة والجيران"، المعدّة عن رواية غائب طعمة فرمان، كمسرحية فارقة في مشوار شوقي، فقد قدمت رائعة أدبية على طبق مسرحي، وفيها تميّز شوقي بحضور متفرد وهو يؤدي شخصية مصطفى الدلال الفاشل، والطيب والأناني والمستميت من أجل أن يكوّن مستقبله من جديد بعد مغامرات خائبة لتحقيق الغنى المادي.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، غادر خليل شوقي العراق إلى هولندا بعد عقود من الانكسارات. كان فراراً قسرياً عرفه معظم مبدعي بلد أغرقته الأيدولوجيا المتخشبة في أوهام الانتصارات الدونكيشوتية. غادر بغداد، لكنه ترك أبواب ذاكرته مشرعة تفتح على دخان حرائقها.
منذ عام، واحتفاء بعيد ميلاده التسعين، قدّمت أسرته عرضاً مسرحياً "شوقياً" خالصاً على مسرح كويستموس في لندن، من إخراج ابنته الوسطى روناك، وشاركت في التمثيل مي وابنتها عشتار، ورويدا وأيسر إبنتا نجله البكر فارس، كما صمّم ديكور العمل واثق شوقي وأشرف على الإدارة الفنية فارس خليل شوقي.