07 نوفمبر 2024
خمس سنوات على الثورات العربية..العجز الفكري ومسألة السياسة
منذ أكثر من عقدين، يؤكد باحثون كثيرون فشل المشروع القومي واليساري والإسلامي، وأن المشروع البديل هو المشروع الليبرالي. كان هذا سائداً قبل اندلاع الثورات العربية، في أواخر العام 2010، والتي كشفت هشاشة السياسات الليبرالية، ولو طبقها نظام شموليّ، واستفادت منها قلّة احتكارية محددة من رجال السلطة والأثرياء عامة، لكنها، في الحقيقة، صارت سياسات عامة للدولة كذلك، وتبيّن أنّها تعمق الفوارق بين الطبقات. الأسوأ على الإطلاق، أنه تزامن معها توسع كبير في الحركات الجهادية. وبعكس الكلام عن الفشل، فقد سمحت للحركات الأصولية بفرصة تاريخية نادرة لتتبوأ سدة السلطة. إذاً فشلت كل المشاريع المنقودة والمحبذة إيديولوجياً، أقصد الليبرالية، وتبيّن أن للمشروع الأصولي حظوظاً كبيرة كذلك.
بدلاً من التساؤل عن سبب هذا الفشل الكبير، كما يعتقد القائلون بذلك، ما زال النقاش يأخذ طابعاً عقائدياً أو عقيدياً، فهناك من يقاتل من أجل أحد المشاريع ويرفض الآخر، وكذلك البقية، وفي ذلك، برز التيار الليبرالي بشكل مسيطرٍ. هذا نقاش فاسد، وأهميته تتأتى فقط من نقض فكري لكل مسلمات هذه المشاريع وممارساتها، فحينها سيكون للنقد شرف الدخول بحقول المعرفة، لكن هذا لم يكن إلا بالكاد من خلال بعض الكتابات القيّمة.
بنظرة تاريخية للفترة السابقة للاستقلال، وما بعدها بعقدٍ، يتوضح أن الليبرالية التي كانت حينها أكثر ميلاً لمشروع صناعي وبناء دولة قومية والاعتماد على دستور وقوانين حديثة للدولة، فشلت في بناء دولة حديثة، وأقصد عدم قدرتها على حل المسألة الزراعية بالإصلاح الزراعي، أو مواجهة الخطر الصهيوني بجيوش قوية، أو تبني مشروع وطني ومناهض بالكامل للمشاريع الإمبريالية وحل المسالة القومية. وبعكس ذلك، كان الانخراط في الأحلاف الإقليمية والعالمية، وبالتالي، كان سهلاً الانقلاب العسكري عليها، وطبعاً القضية ليست فقط قضية انقلابٍ عسكريٍ، بل هي، قبل ذلك، إخفاق في القضايا المذكورة، ولو لم يكن كذلك لفشل الانقلاب، وعلقت رؤوس قادتها الذين أصبحوا قادة الدول "التقدمية". إذاً هناك فشل كبير للرأسمالية الكبيرة ولمشروعها الليبرالي، ولنقل هناك فشل متعدد الجوانب، وهذا ما سمح للجنرالات بالتسلط على الحكم. وفي هذا، علينا الاعتراف بأن الجنرالات هؤلاء امتلكوا مشروعاً تاريخياً، وإن بصورة كاريكاتورية قياساً بالمشاريع الأوروبية، ولا سيما بخصوص الإصلاح الزراعي والتعليم العام والقضية الوطنية والقومية، وحتى التصنيع النسبي.
تركز الجدال الفاسد الذي اندلع، في العقود الأخيرة، من جهة التيار الليبرالي، وأن القوميين واليساريين قطعوا حركة التاريخ الطبيعية، ودمروا مشروع النهضة، أي الليبرالية العربية. وعكس ذلك قول اليساريين أن مشروع القوميين واليساريين كان عظيماً، وجاء بالإصلاح الزراعي والتعليم العام وواجه إسرائيل. والحقيقة، وبعد الثورات الكاشفة لكل تلك التيارات، يستقرئ العقل أن المشروع الليبرالي فشل في أن يكون مثيلاً للمشاريع الأوروبية، وكذلك فشل المشروع القومي في أن يكون مثيلاً للمشروع الاشتراكي الروسي والصيني وسواه، أي تحقق لنا فشلٌ كاملٌ في التصنيع والدمقرطة والاشتراكية، وإذا كانت الحصيلة في أوروبا وروسيا والصين تصنيع تلك البلاد، بغض النظر عن شكل الحكم السياسي، فإن النتيجة في البلاد العربية بائسة بالكامل.
قصدنا أن الجدال بين تيارات الفكر العربي يجب أن يُؤسس نفسَه مجدداً، وأن يتساءل السؤال الرئيسي، والذي ما انفك يطرح نفسه: لماذا فشلنا، وفشلت ثوراتنا الأخيرة، وتقدم الغرب، ونجحت ثوراتهم؟ من نافل القول العودة إلى الكلام عن أن المشروع الليبرالي هو الحل؛ فهو، ولا سيما في العقدين المنصرمين، سياساتٌ عممتها الأنظمة الشمولية في مصر وتونس وسورية، وكان نتيجتها ثورات شعبية. ومن نافل القول إن المشروع الاشتراكي هو الحل، فهذا المشروع دونه ألف عقبة وعقبة، ولا يمكن الوصول إليه من دون المرور بالحداثة والدمقرطة والتصنيع، وأقصد هنا من دون تطور الوعي، ليصبح وعياً حداثياً بامتياز، وكذلك بوجود إمكانات لهيمنة التصنيع على أشكال الإنتاج الأخرى، وبغياب ذلك، لن يجد المشروع الاشتراكي أرضاً صلبة له، وبالتالي، هو مشروع فاشل.
فشل وتخلف
يتبدى العجز الفكري في الخندقة الفكرية العبثية، والعقلية العقائدية "المتوحشة" ضد المشاريع الفكرية الأخرى. ولكن، هل من بديل للتوجه الفكري هذا؟
ولكن، قبل ذلك لنوضح أن ثلاثة مشاريع فشلت في تاريخنا الحالي، المشروع "الليبرالي" قبل الاستقلال، ومشروع الانقلابات العسكرية بعده، ومشروع الثورات ما بعد 2010. نعم المشروع الأخير والذي حمل شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، وكذلك شعار الكرامة فشل بدوره. وكان نتيجة ذلك كله بروز الأصولية الإسلامية والجهادية من ناحية. وهناك عودة إلى أشكال من الاستعمار التقليدي وغير التقليدي، فدخول الروس إلى سورية يشبه كثيراً الاستعمار التقليدي، وكذلك السياسات الأميركية تجاه العراق، فهناك عودة الجيش الأميركي إلى هذا البلد، ورفض وجود إيران دولة إقليمية مهيمنة عليه، عدا عن دور تركي يحاول جاهداً أن يزرع لنفسه مكانة في الدول العربية. وضمن هذا الاتجاه، يمكن قراءة التحالف الدولي المشكّل ضد داعش في سورية.
الكلام عن بديل فكري ربما هو السؤال الذي يجب تناوله بعمق شديدٍ، فالتخلف العربي أصبح كاملاً متكاملاً، في الاقتصاد وفي السياسة وفي التعليم، وحتى في النزعة الوطنية والقومية. وهناك انبعاث كبير للسلفية والأصولية والطائفية والمذهبية، وقد انتهت عدّة ثورات إلى حروبٍ محلية وقد تصبح مستدامة، وهذا مما سيمكّن الدول الإقليمية، وليس فقط الامبريالية في التحكم بحياة الشعوب العربية، ولا سيما لبنان والعراق وسورية واليمن وليبيا، وربما هناك بلدان أخرى مرشحة للانهيار، كالسودان ربما.
وبنظرةٍ سريعة للبدائل المقترحة، ولا سيما بعد مرور خمس سنوات على الثورات، ستعطينا نظرةً تشاؤميةً حيال الواقع العربي، فإن كانت السياسات الليبرالية والانفتاح على السياسات العولمية هي سبب الانهيار الاقتصادي، فإن السياسات الاقتصادية نفسها أعيد العمل بها في كل من مصر وتونس وبقية الدول العربية، وبالتالي، سيبقى الواقع في حالةٍ تأزم شديدٍ؛ وإذا كانت السلطة الأمنية متغولة، فإن هذه السلطة في مصر وتونس، الدولتين المعتبرتين ناجحتين في ثورتيهما، فإن السلطة الأمنية أعيدت إلى سابق عهدها، ولا سيما في مصر. وفي دول كسورية وليبيا واليمن، أصبح الوضع أكثر كارثية، وقد برزت فيها السلطة الشمولية للجهاديات والحروب المذهبية والطائفية كذلك.
لا يمكن قراءة الثورات العربية إلا في إطار عالمي، فالواقع العربي، كما كل واقع، ومنذ أن برزت الرأسمالية، عالمي بامتياز، وهو أشدّ تشابكاً في التسعينيات ولاحقاً، ولا سيما مع نهاية المشروع "الاشتراكي" العالمي، وكل قراءة خارج السياق العالمي هي إيديولوجية بامتياز، فالرأسمالية كونية، وإن تمايزت تمظهراتها بين الدول، بين متقدمة ومتخلفة وبين بين، وإن تعددت القراءة لهذا التمظهر، وسواء أكانت القراءات ليبرالية أو ماركسية وسواها من القراءات.
حدثت الثورات العربية، أخيراً، رداً شعبيّاً على تعميم السياسات العولمية على كل دول العالم، وبأجواء دولية تفيد بفشل المشروع الاشتراكي في البلدان التي كانت اشتراكية، لكن فشل تلك السياسات ما ينفك يتصاعد ومنذ 2008 بشكل رئيسي، وهناك قراءات جادة تقول بصعوبة تجاوز تلك الأزمات الاقتصادية الحالية، وبالتالي، الممكن الوحيد محاولات لإدارة تلك الأزمات، وهذا ما دفع الشعوب العربية للثورة أو للاحتجاجات الواسعة، وهو السبب نفسه الذي أوصل اليسار إلى الحكومة في اليونان، وأدى إلى تصاعد الحركات اليسارية في إسبانيا والبرتغال وايرلندا، وكذلك، ولأسباب كثيرة، تصاعد اليمين في فرنسا بصورة رئيسية.
لست أتوخى قراءة اقتصادية وحيدة الجانب للثورات العربية. ولكن، لا يمكن تجاهل معطيات الواقع كذلك، فقد كانت تقارير كثيرة تشير إلى تصاعدٍ في أعداد المفقرين والعاطلين عن العمل في العقد الأول من الألفية الجديدة، لكن هذه المؤشرات كانت تمارس تحت سلطات شمولية، وبالتالي، وبدلاً أن يقرأ العقل السبب المركزي للإفقار، أي السياسات الليبرالية في الاقتصاد، فإن القراءة ركزت على السياسي، أي على الشمولية وضرورة إزالتها لتعم الحرية. ومن هنا، رُفعت شعارات الحرية كمواجهة للاستبداد، والكرامة كمواجهة للهمجية الأمنية.
ساهمت في تعميم هذه الشعارات المعارضة الليبرالية وهمجية السلطة الأمنية، ولا سيما في سورية، وبالتالي، دَفعت العقل للمواجهة الثأرية، بدلاً من طرح برامج للثورات، لتكون المواجهة حقيقية، ويمكن بواسطتها مواجهة ألاعيب الأنظمة. وزاد الأمر تعقيداً، حينما رفضت قراءة اللوحة العالمية للعولمة، أي للرأسمالية الحالية، فكان الاستنجاد بالولايات المتحدة الأميركية أو فرنسا من أكبر الأخطاء، كان الوهم كبيراً، حيث أن أميركا لا بد أن تستجيب، كما استجابت للمعارضة العراقية ضد صدام حسين وضد القذافي. المعارضة السورية لا تقرأ الواقع، وتتجاهل الدور الروسي المعطل للقراءات الدولية والداعم للنظام، وكذلك عدم دعم الامبريالية الثورات الشعبية في الأصل.
القراءة الموضوعية لم تحدث، وكان العقل الليبرالي السوري منتشياً بالانتصارات في تونس ومصر، وكان العقل الشبابي متوهماً بأن الانتصار قاب قوسين أو أدنى. لم تهتم المعارضة بتعقيدات الواقع السوري، ولم تقرأ فشل الليبرالية كما أوضحناها. وبالتالي، لم تتحسس التعقيدات التي أوجدها النظام، كما كل نظام عربي، أمام الشعب حينما يثور. هذا بالضبط ما ساعد تلك الأنظمة في الالتفاف على الثورات، وكان الالتفاف بأشكال متعددة، ربما تشذ الثورات السورية والمصرية واليمنية عن ذلك، وقد يكون السبب الكتلة البشرية المهمشة، وهو ما استدعى مواجهات قوية من الأنظمة القديمة، وإلا ستنجح تلك الثورات وتشكل منارة لشعوب عربية وعالمية أخرى للثورة مجدداً. كان لا بد أن تصبح الثورة السورية مقتلة للثائرين، وعبرة للشعوب الأخرى المتطلعة للثورات، وهو ما كان في كل الأحوال.
تقدم الأصولية والجهادية
بفشل الليبرالية كحركة سياسية في أن تكون بديلاً عن النظام الشمولي، تقدمت الأصولية والجهادية لتحتل المشهد السياسي، ولا سيما وأنها الحركات الوحيدة الأكثر تنظيماً، واستفادت من تطييف النظام القديم للوعي والعلاقات الاجتماعية، ومناسبة ذلك للشكل الإنتاجي السائد، أي التجارة. وفي سنوات الثورة، استفادت من محاولة النظام إظهار الثورة حركة طائفية، ومارس لأجل ذلك النظام أفعالاً طائفية، ومنها مجازر "طائفية". لا تمتلك الأصولية هذه بدورها مشروعاً لحل المشكلات المتعددة الأوجه، وبالتالي، كان سهلاً إزاحتها، ولا سيما وأنها سعت إلى أخونة الدولة أو الثورة وللتخلي عن الديمقراطية وكل المفاهيم الحداثية، والجدال بين الإسلاميين وسواهم بخصوص الدولة المدنية والعلمانية يظهر إرباكات كثيرة، وفي أكثريتها مفتعلة، بينما الدولة المدنية من وجهة الحداثة تتطابق مع الدولة غير الدينية، ويمكن القول العلمانية.
أن تشذ التجربة التونسية فهو أمر يستدعي تدقيقاً كثيراً في إمكانية نجاح حركة النهضة نفسها في التفرد بالحكم، نقصد أن البراغماتية هي التي أوجبت إبعاد التسلط على النظام السياسي، وليس القناعة الحداثية بالمشروع الحداثي، كما يقرأ تيار فكري توجهات حركة النهضة.
لا شك أن الموقف من الإسلاميين، من غير الجهاديين، يتطلب مناخاً مختلفاً ورؤية جديدة لكل تيارات الفكر الحداثي، لكن ذلك لا يمكن أن يتجاوز التخلي عن أن تكون الدولة حداثية، وأن ينطلق الدستور، وكل القوانين فيها، من مبدأ المواطنة وشرعة حقوق الإنسان بكل ملحقاتها، ومن الضرورة أن يصبح الدين مرجعية أخلاقية، وليس تشريعية، للحركات الأصولية، والتخلي عن كل النصوص التمييزية ضد الأديان الأخرى، أو الرافضين للدين نفسه. في هذه النقاط، يمكن إيجاد تشابكات جديدة بين تيارات الفكر والسياسة كذلك.
مسألة السياسة بما هي تعبير عن صراع بين تيارات فكرية وسياسية وإيديولوجية، وتخفي خلفها مصالح طبقية لطبقات وفئات متمايزة، لا يمكنها أن تنطلق من التناقض الكامل في مجتمعاتنا العربية، فليس في مقدور تيار واحد أن يواجه مشكلات هذا الواقع، كما أوضحنا بعضها أعلاه، وبالتالي، مواجهة سياسات العولمة، أو مشكلات تطبيق الديمقراطية، أو الدول الإقليمية، ومنها إسرائيل ككيان صهيوني، والانهيار الاقتصادي الكبير، أقول هذه القضايا من غير الممكن مواجهتها بتيارٍ فكريٍّ، كما يزعم التيار الليبرالي أو الإسلامي، كونهما الأكثر سيادة في هذه الفترة التاريخية؛ فالاثنان لا يمتلكان رؤية وسياسات وبرامج قادرة بمفردها، بل ومشتركة على تجاوز العقبات، وليس مثال تونس ومصر وبعد خمس سنوات على ثورتيهما، وبقية البلاد العربية إلا دليلاً ساطعاً على ذلك الفشل. وبالتالي، هناك ضرورة للانتهاء من عقلية الخندقة الفكرية المخصية بامتياز، والتفكر العميق بكيفية إدارة السياسة العربية، وبما يسمح بتجاوز المشكلات المحددة أعلاه.
هل ذلك ممكنٌ في ظل الشروط الحالية؛ سنقول الأمر في غاية التعقيد، لكن نقاش هذه القضايا يتطلب ورشاً ثقافية، تنهي الأدلجة وعقلية امتلاك الحقيقة المطلقة والثقة العمياء بمشروعٍ محدد. ربما تكون هذه الأوليات المدخل نحو تجاوز العجز الفكري، وطرح قضية السياسة، وبما لا يميّع التناقض بين الطبقات والتيارات السياسية والفكرية. ولكن، بما ينزع عنها الطابع التوحشي والاستئثاري الفاشل بامتياز ومنذ بداية النهضة العربية.
بدلاً من التساؤل عن سبب هذا الفشل الكبير، كما يعتقد القائلون بذلك، ما زال النقاش يأخذ طابعاً عقائدياً أو عقيدياً، فهناك من يقاتل من أجل أحد المشاريع ويرفض الآخر، وكذلك البقية، وفي ذلك، برز التيار الليبرالي بشكل مسيطرٍ. هذا نقاش فاسد، وأهميته تتأتى فقط من نقض فكري لكل مسلمات هذه المشاريع وممارساتها، فحينها سيكون للنقد شرف الدخول بحقول المعرفة، لكن هذا لم يكن إلا بالكاد من خلال بعض الكتابات القيّمة.
بنظرة تاريخية للفترة السابقة للاستقلال، وما بعدها بعقدٍ، يتوضح أن الليبرالية التي كانت حينها أكثر ميلاً لمشروع صناعي وبناء دولة قومية والاعتماد على دستور وقوانين حديثة للدولة، فشلت في بناء دولة حديثة، وأقصد عدم قدرتها على حل المسألة الزراعية بالإصلاح الزراعي، أو مواجهة الخطر الصهيوني بجيوش قوية، أو تبني مشروع وطني ومناهض بالكامل للمشاريع الإمبريالية وحل المسالة القومية. وبعكس ذلك، كان الانخراط في الأحلاف الإقليمية والعالمية، وبالتالي، كان سهلاً الانقلاب العسكري عليها، وطبعاً القضية ليست فقط قضية انقلابٍ عسكريٍ، بل هي، قبل ذلك، إخفاق في القضايا المذكورة، ولو لم يكن كذلك لفشل الانقلاب، وعلقت رؤوس قادتها الذين أصبحوا قادة الدول "التقدمية". إذاً هناك فشل كبير للرأسمالية الكبيرة ولمشروعها الليبرالي، ولنقل هناك فشل متعدد الجوانب، وهذا ما سمح للجنرالات بالتسلط على الحكم. وفي هذا، علينا الاعتراف بأن الجنرالات هؤلاء امتلكوا مشروعاً تاريخياً، وإن بصورة كاريكاتورية قياساً بالمشاريع الأوروبية، ولا سيما بخصوص الإصلاح الزراعي والتعليم العام والقضية الوطنية والقومية، وحتى التصنيع النسبي.
تركز الجدال الفاسد الذي اندلع، في العقود الأخيرة، من جهة التيار الليبرالي، وأن القوميين واليساريين قطعوا حركة التاريخ الطبيعية، ودمروا مشروع النهضة، أي الليبرالية العربية. وعكس ذلك قول اليساريين أن مشروع القوميين واليساريين كان عظيماً، وجاء بالإصلاح الزراعي والتعليم العام وواجه إسرائيل. والحقيقة، وبعد الثورات الكاشفة لكل تلك التيارات، يستقرئ العقل أن المشروع الليبرالي فشل في أن يكون مثيلاً للمشاريع الأوروبية، وكذلك فشل المشروع القومي في أن يكون مثيلاً للمشروع الاشتراكي الروسي والصيني وسواه، أي تحقق لنا فشلٌ كاملٌ في التصنيع والدمقرطة والاشتراكية، وإذا كانت الحصيلة في أوروبا وروسيا والصين تصنيع تلك البلاد، بغض النظر عن شكل الحكم السياسي، فإن النتيجة في البلاد العربية بائسة بالكامل.
قصدنا أن الجدال بين تيارات الفكر العربي يجب أن يُؤسس نفسَه مجدداً، وأن يتساءل السؤال الرئيسي، والذي ما انفك يطرح نفسه: لماذا فشلنا، وفشلت ثوراتنا الأخيرة، وتقدم الغرب، ونجحت ثوراتهم؟ من نافل القول العودة إلى الكلام عن أن المشروع الليبرالي هو الحل؛ فهو، ولا سيما في العقدين المنصرمين، سياساتٌ عممتها الأنظمة الشمولية في مصر وتونس وسورية، وكان نتيجتها ثورات شعبية. ومن نافل القول إن المشروع الاشتراكي هو الحل، فهذا المشروع دونه ألف عقبة وعقبة، ولا يمكن الوصول إليه من دون المرور بالحداثة والدمقرطة والتصنيع، وأقصد هنا من دون تطور الوعي، ليصبح وعياً حداثياً بامتياز، وكذلك بوجود إمكانات لهيمنة التصنيع على أشكال الإنتاج الأخرى، وبغياب ذلك، لن يجد المشروع الاشتراكي أرضاً صلبة له، وبالتالي، هو مشروع فاشل.
فشل وتخلف
يتبدى العجز الفكري في الخندقة الفكرية العبثية، والعقلية العقائدية "المتوحشة" ضد المشاريع الفكرية الأخرى. ولكن، هل من بديل للتوجه الفكري هذا؟
ولكن، قبل ذلك لنوضح أن ثلاثة مشاريع فشلت في تاريخنا الحالي، المشروع "الليبرالي" قبل الاستقلال، ومشروع الانقلابات العسكرية بعده، ومشروع الثورات ما بعد 2010. نعم المشروع الأخير والذي حمل شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، وكذلك شعار الكرامة فشل بدوره. وكان نتيجة ذلك كله بروز الأصولية الإسلامية والجهادية من ناحية. وهناك عودة إلى أشكال من الاستعمار التقليدي وغير التقليدي، فدخول الروس إلى سورية يشبه كثيراً الاستعمار التقليدي، وكذلك السياسات الأميركية تجاه العراق، فهناك عودة الجيش الأميركي إلى هذا البلد، ورفض وجود إيران دولة إقليمية مهيمنة عليه، عدا عن دور تركي يحاول جاهداً أن يزرع لنفسه مكانة في الدول العربية. وضمن هذا الاتجاه، يمكن قراءة التحالف الدولي المشكّل ضد داعش في سورية.
الكلام عن بديل فكري ربما هو السؤال الذي يجب تناوله بعمق شديدٍ، فالتخلف العربي أصبح كاملاً متكاملاً، في الاقتصاد وفي السياسة وفي التعليم، وحتى في النزعة الوطنية والقومية. وهناك انبعاث كبير للسلفية والأصولية والطائفية والمذهبية، وقد انتهت عدّة ثورات إلى حروبٍ محلية وقد تصبح مستدامة، وهذا مما سيمكّن الدول الإقليمية، وليس فقط الامبريالية في التحكم بحياة الشعوب العربية، ولا سيما لبنان والعراق وسورية واليمن وليبيا، وربما هناك بلدان أخرى مرشحة للانهيار، كالسودان ربما.
وبنظرةٍ سريعة للبدائل المقترحة، ولا سيما بعد مرور خمس سنوات على الثورات، ستعطينا نظرةً تشاؤميةً حيال الواقع العربي، فإن كانت السياسات الليبرالية والانفتاح على السياسات العولمية هي سبب الانهيار الاقتصادي، فإن السياسات الاقتصادية نفسها أعيد العمل بها في كل من مصر وتونس وبقية الدول العربية، وبالتالي، سيبقى الواقع في حالةٍ تأزم شديدٍ؛ وإذا كانت السلطة الأمنية متغولة، فإن هذه السلطة في مصر وتونس، الدولتين المعتبرتين ناجحتين في ثورتيهما، فإن السلطة الأمنية أعيدت إلى سابق عهدها، ولا سيما في مصر. وفي دول كسورية وليبيا واليمن، أصبح الوضع أكثر كارثية، وقد برزت فيها السلطة الشمولية للجهاديات والحروب المذهبية والطائفية كذلك.
لا يمكن قراءة الثورات العربية إلا في إطار عالمي، فالواقع العربي، كما كل واقع، ومنذ أن برزت الرأسمالية، عالمي بامتياز، وهو أشدّ تشابكاً في التسعينيات ولاحقاً، ولا سيما مع نهاية المشروع "الاشتراكي" العالمي، وكل قراءة خارج السياق العالمي هي إيديولوجية بامتياز، فالرأسمالية كونية، وإن تمايزت تمظهراتها بين الدول، بين متقدمة ومتخلفة وبين بين، وإن تعددت القراءة لهذا التمظهر، وسواء أكانت القراءات ليبرالية أو ماركسية وسواها من القراءات.
حدثت الثورات العربية، أخيراً، رداً شعبيّاً على تعميم السياسات العولمية على كل دول العالم، وبأجواء دولية تفيد بفشل المشروع الاشتراكي في البلدان التي كانت اشتراكية، لكن فشل تلك السياسات ما ينفك يتصاعد ومنذ 2008 بشكل رئيسي، وهناك قراءات جادة تقول بصعوبة تجاوز تلك الأزمات الاقتصادية الحالية، وبالتالي، الممكن الوحيد محاولات لإدارة تلك الأزمات، وهذا ما دفع الشعوب العربية للثورة أو للاحتجاجات الواسعة، وهو السبب نفسه الذي أوصل اليسار إلى الحكومة في اليونان، وأدى إلى تصاعد الحركات اليسارية في إسبانيا والبرتغال وايرلندا، وكذلك، ولأسباب كثيرة، تصاعد اليمين في فرنسا بصورة رئيسية.
لست أتوخى قراءة اقتصادية وحيدة الجانب للثورات العربية. ولكن، لا يمكن تجاهل معطيات الواقع كذلك، فقد كانت تقارير كثيرة تشير إلى تصاعدٍ في أعداد المفقرين والعاطلين عن العمل في العقد الأول من الألفية الجديدة، لكن هذه المؤشرات كانت تمارس تحت سلطات شمولية، وبالتالي، وبدلاً أن يقرأ العقل السبب المركزي للإفقار، أي السياسات الليبرالية في الاقتصاد، فإن القراءة ركزت على السياسي، أي على الشمولية وضرورة إزالتها لتعم الحرية. ومن هنا، رُفعت شعارات الحرية كمواجهة للاستبداد، والكرامة كمواجهة للهمجية الأمنية.
ساهمت في تعميم هذه الشعارات المعارضة الليبرالية وهمجية السلطة الأمنية، ولا سيما في سورية، وبالتالي، دَفعت العقل للمواجهة الثأرية، بدلاً من طرح برامج للثورات، لتكون المواجهة حقيقية، ويمكن بواسطتها مواجهة ألاعيب الأنظمة. وزاد الأمر تعقيداً، حينما رفضت قراءة اللوحة العالمية للعولمة، أي للرأسمالية الحالية، فكان الاستنجاد بالولايات المتحدة الأميركية أو فرنسا من أكبر الأخطاء، كان الوهم كبيراً، حيث أن أميركا لا بد أن تستجيب، كما استجابت للمعارضة العراقية ضد صدام حسين وضد القذافي. المعارضة السورية لا تقرأ الواقع، وتتجاهل الدور الروسي المعطل للقراءات الدولية والداعم للنظام، وكذلك عدم دعم الامبريالية الثورات الشعبية في الأصل.
القراءة الموضوعية لم تحدث، وكان العقل الليبرالي السوري منتشياً بالانتصارات في تونس ومصر، وكان العقل الشبابي متوهماً بأن الانتصار قاب قوسين أو أدنى. لم تهتم المعارضة بتعقيدات الواقع السوري، ولم تقرأ فشل الليبرالية كما أوضحناها. وبالتالي، لم تتحسس التعقيدات التي أوجدها النظام، كما كل نظام عربي، أمام الشعب حينما يثور. هذا بالضبط ما ساعد تلك الأنظمة في الالتفاف على الثورات، وكان الالتفاف بأشكال متعددة، ربما تشذ الثورات السورية والمصرية واليمنية عن ذلك، وقد يكون السبب الكتلة البشرية المهمشة، وهو ما استدعى مواجهات قوية من الأنظمة القديمة، وإلا ستنجح تلك الثورات وتشكل منارة لشعوب عربية وعالمية أخرى للثورة مجدداً. كان لا بد أن تصبح الثورة السورية مقتلة للثائرين، وعبرة للشعوب الأخرى المتطلعة للثورات، وهو ما كان في كل الأحوال.
تقدم الأصولية والجهادية
بفشل الليبرالية كحركة سياسية في أن تكون بديلاً عن النظام الشمولي، تقدمت الأصولية والجهادية لتحتل المشهد السياسي، ولا سيما وأنها الحركات الوحيدة الأكثر تنظيماً، واستفادت من تطييف النظام القديم للوعي والعلاقات الاجتماعية، ومناسبة ذلك للشكل الإنتاجي السائد، أي التجارة. وفي سنوات الثورة، استفادت من محاولة النظام إظهار الثورة حركة طائفية، ومارس لأجل ذلك النظام أفعالاً طائفية، ومنها مجازر "طائفية". لا تمتلك الأصولية هذه بدورها مشروعاً لحل المشكلات المتعددة الأوجه، وبالتالي، كان سهلاً إزاحتها، ولا سيما وأنها سعت إلى أخونة الدولة أو الثورة وللتخلي عن الديمقراطية وكل المفاهيم الحداثية، والجدال بين الإسلاميين وسواهم بخصوص الدولة المدنية والعلمانية يظهر إرباكات كثيرة، وفي أكثريتها مفتعلة، بينما الدولة المدنية من وجهة الحداثة تتطابق مع الدولة غير الدينية، ويمكن القول العلمانية.
أن تشذ التجربة التونسية فهو أمر يستدعي تدقيقاً كثيراً في إمكانية نجاح حركة النهضة نفسها في التفرد بالحكم، نقصد أن البراغماتية هي التي أوجبت إبعاد التسلط على النظام السياسي، وليس القناعة الحداثية بالمشروع الحداثي، كما يقرأ تيار فكري توجهات حركة النهضة.
لا شك أن الموقف من الإسلاميين، من غير الجهاديين، يتطلب مناخاً مختلفاً ورؤية جديدة لكل تيارات الفكر الحداثي، لكن ذلك لا يمكن أن يتجاوز التخلي عن أن تكون الدولة حداثية، وأن ينطلق الدستور، وكل القوانين فيها، من مبدأ المواطنة وشرعة حقوق الإنسان بكل ملحقاتها، ومن الضرورة أن يصبح الدين مرجعية أخلاقية، وليس تشريعية، للحركات الأصولية، والتخلي عن كل النصوص التمييزية ضد الأديان الأخرى، أو الرافضين للدين نفسه. في هذه النقاط، يمكن إيجاد تشابكات جديدة بين تيارات الفكر والسياسة كذلك.
مسألة السياسة بما هي تعبير عن صراع بين تيارات فكرية وسياسية وإيديولوجية، وتخفي خلفها مصالح طبقية لطبقات وفئات متمايزة، لا يمكنها أن تنطلق من التناقض الكامل في مجتمعاتنا العربية، فليس في مقدور تيار واحد أن يواجه مشكلات هذا الواقع، كما أوضحنا بعضها أعلاه، وبالتالي، مواجهة سياسات العولمة، أو مشكلات تطبيق الديمقراطية، أو الدول الإقليمية، ومنها إسرائيل ككيان صهيوني، والانهيار الاقتصادي الكبير، أقول هذه القضايا من غير الممكن مواجهتها بتيارٍ فكريٍّ، كما يزعم التيار الليبرالي أو الإسلامي، كونهما الأكثر سيادة في هذه الفترة التاريخية؛ فالاثنان لا يمتلكان رؤية وسياسات وبرامج قادرة بمفردها، بل ومشتركة على تجاوز العقبات، وليس مثال تونس ومصر وبعد خمس سنوات على ثورتيهما، وبقية البلاد العربية إلا دليلاً ساطعاً على ذلك الفشل. وبالتالي، هناك ضرورة للانتهاء من عقلية الخندقة الفكرية المخصية بامتياز، والتفكر العميق بكيفية إدارة السياسة العربية، وبما يسمح بتجاوز المشكلات المحددة أعلاه.
هل ذلك ممكنٌ في ظل الشروط الحالية؛ سنقول الأمر في غاية التعقيد، لكن نقاش هذه القضايا يتطلب ورشاً ثقافية، تنهي الأدلجة وعقلية امتلاك الحقيقة المطلقة والثقة العمياء بمشروعٍ محدد. ربما تكون هذه الأوليات المدخل نحو تجاوز العجز الفكري، وطرح قضية السياسة، وبما لا يميّع التناقض بين الطبقات والتيارات السياسية والفكرية. ولكن، بما ينزع عنها الطابع التوحشي والاستئثاري الفاشل بامتياز ومنذ بداية النهضة العربية.