30 ديسمبر 2021
خواطر على هامش ذكرى المذبحة
في يوم 18 أغسطس/ آب 2013 وفي العمود اليومي الذي كنت أكتبه في صحيفة (الشروق) القاهرية، نشرت السطور التالية، والتي حملت عنوان (قبل حظر الأسئلة)، وقلت فيها ما نصه:
"ما هي المشكلة الطبية أو العقلية أو النفسية التي تمنع الكثيرين من إدراك إمكانية أن تكون معارضاً لجماعة الإخوان ولاعناً لقياداتها ورافضاً لاعتداءات أنصارها المسلحين على الكنائس وأقسام الشرطة، وتكون في نفس الوقت مدركاً لأن أية حلول أمنية غير سياسية، لن تحل مشكلتك مع هذه الجماعة بل ستزيد المشكلة تعقيداً؟ هل هي نفس المشكلة الطبية أو العقلية أو النفسية التي تمنع أنصار جماعة الإخوان من إدراك استحالة عودة محمد مرسي إلى الحكم وأنهم بعدم تقديمهم لأي حلول سياسية واقعية وإصرارهم في المضي في سكة "كل شيء أو لا شيء" يصعبون على أنفسهم مهمة البقاء على قيد الحياة السياسية ويصعبون علينا جميعاً مهمة البقاء على قيد الحياة بشكل عام؟
أين ذهبت الأسلحة الكيماوية والآلية الثقيلة التي كانت كل الصحف ووسائل الإعلام الخاصة والحكومية تجزم بوجودها في اعتصامي رابعة والنهضة وتتحدث عن قدرتها على إسقاط آلاف القتلى؟ لماذا لم نسمع صوتا واحدا للسادة المحترمين الذين وصلوا إلى الحكم يعلّق على عشرات الفيديوهات التي تظهر كيف كان يتم قنص المعتصمين والمعتصمات العُزّل في الرأس والصدر حتى عند قيامهم بإسعاف زملائهم أو تصويرهم لما يجري؟ هل هناك فيديو يظهر قيام قوات الأمن بحفر الأرض لتجد تحتها عشرات الجثث محترقة ومدفونة تحت المنصة أم المفروض أن نصدق أن ذلك حدث لمجرد عرض وسائل الإعلام فاقدة المصداقية لفيديو يظهر قوات الأمن وهي تقف إلى جوار جثث محترقة لم يتم تحقيق رسمي محترم يكشف من تسبب في حرقها؟ لماذا لم تقم وسيلة إعلام مصرية واحدة بعرض صور وأسماء ضحايا فض الاعتصامين، إن لم يكن احتراماً لإنسانيتهم فاحتراماً لحق المشاهد في المعرفة؟ كيف نصدق الآن من كانوا يبكون على دماء الشهداء الذين سقطوا في عهد مرسي وهم يصمتون على بقاء وزير الداخلية محمد إبراهيم الذي سفك تلك الدماء وأضاف إليها الآن دماء جديدة لمن كان يقتل من أجلهم بالأمس وكانوا يباركونه ويبررون له مثلما تفعلون الآن بالضبط؟
لن أوجه أسئلتي للرئيس "الفاترينة" عدلي منصور، بل سأوجهها لمن يديرون البلاد فعلياً ويتحملون مسؤولية قتل المواطنين المصريين، وعلى رأس هؤلاء رئيس الوزراء حازم الببلاوي ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي وسأسألهما: إذا كنتما حريصين على العدالة فلماذا سمحتما بالاعتداء على مسرح جريمة فض الاعتصامين والقيام بتنظيفهما في نفس اليوم قبل معاينة أجهزة العدالة ومنظمات حقوق الإنسان للمكانين؟ هل فجأة تذكرت الدولة التي تركت أكوام الزبالة بالشهور في الشوارع أن النظافة من الإيمان؟ أم أن المطلوب إخفاء آثار وحشية الفض التي ستظل تطاردكما إلى الأبد وستتحملان مسؤولية ما حدث أنتما وكل من شارك في ذلك أو برره أو باركه أو صمت عليه؟
لماذا كان البعض يهلل لأي رد فعل دولي يدين أفعال حكم الإخوان أيا كان مصدره، بينما الآن يدين كل رد فعل دولي يستنكر التدخل الأمني الغشيم وينبه لخطورته على مصر؟ هل أنتم ضد التدخل الدولي في شؤون مصر بشكل عام أم أنكم ضد التدخل الدولي الذي لا يتفق مع مواقفكم فقط؟ هل سيتذكر المتشدد الإسلامي الذي حاول إحراق سفارة الدنمارك على سبيل المثال لا الحصر أن تلك الدولة غضبت هي وغيرها من الدول التي يراها كافرة لأن إنسانيته انتهكت بينما باركت قتله الدول العربية المسلمة؟ وهل يصدق الذي يدعي الليبرالية والعلمانية أن غضب الدول الغربية على سفك الدماء وراءه دعمها للإخوان، مع أنه لو كلّف نفسه قليلا بالبحث في شبكة الإنترنت لوجد أن وسائل الإعلام الدولية على سبيل المثال لا الحصر احتفت مؤخرا بقيام الممثلة البريطانية الكبيرة فناً وسناً جولي كريستي بالإضراب عن الطعام تضامناً مع معتقلي غوانتانامو ولم يتهمها أحد بالإرهاب مثلما تتهم أنت من ينبهك إلى خطورة أن تبارك العقاب الجماعي والقتل العشوائي؟
عندما وقف الفريق السيسي ليطلب من المصريين تفويضه لمكافحة الإرهاب ألم تكن لديه فكرة عن كم التصريحات الطائفية الحقيرة التي تنطلق من منصتي رابعة والنهضة؟ لماذا لم يصدر أوامره لقوات الجيش بتأمين كل الكنائس، خصوصاً في محافظات الصعيد التي يعلم حجم تواجد أنصار الجماعات المتطرفة فيها؟ هل استمع إلى تصريحات الأنبا مكاريوس أسقف المنيا المفزعة التي قال فيها للمذيع شريف عامر: "اتصلنا بقوات الأمن فاعتذروا عن التواجد.. طلبناهم وماجوش في كل المواقع اللي حصل فيها حرق واعتداءات"، هل هذا تواطؤ أم عجز أم لعب بالنار؟ وأياً كان فإلى أين يقودنا في المستقبل الذي لا نعلم خطة لمواجهته حتى الآن؟
لماذا لا يوجه الفريق السيسي كلاما شديد اللهجة لكل من يصرحون إعلاميا بأن محمد مرسي ومحمد البرادعي على ما بينهما من اختلافات كانا جاسوسين دوليين؟ ألا يدرك أن مجرد سماحه بتداول ذلك يعني طعنا مباشرا فيه كرئيس للمخابرات الحربية تعامل كثيرا مع الاثنين وأقسم اليمين أمام مرسي ووافق على وجود البرادعي إلى جواره عند إعلانه لخارطة الطريق بعد 30 يونيو؟ هل يظن الفريق السيسي أن الشاب الذي شاهد أعز أصدقائه وهم يُقتلون إلى جواره كالحيوانات دون رحمة ولا إنسانية لن يتبنى خزعبلات سيد قطب وشكري مصطفى وبن لادن ولن يتحول إلى مشروع إرهابي يسعى للانتقام من المجتمع؟ هل يصدق الفريق السيسي أولئك المثقفين الذين يتزلفون له ليل نهار عندما يقولون إن مصر يمكن أن تصبح مجتمعاً مدنياً متحضراً بقوة السلاح؟ هل يمكن أن يدلنا على نموذج لدولة واحدة في العالم تمكنت من حسم صراع سياسي مع أي جماعة سياسية حتى لو كانت مسلحة بطريقة غير سياسية؟
أخيراً: هل يمكن أن نتقدم شبراً إلى الأمام طالما لم نقدم إجابات حاسمة لهذه الأسئلة وغيرها؟ وإذا استفزك طرحي لهذه الأسئلة ودفعك لسبي ولعني بدلا من محاولة الإجابة عليها، فلماذا تضيع وقتك أصلا في القراءة لشخص يرفض تسليم عقله للإجابات المعلبة وسيتمسك بطرح الأسئلة حتى لو أعلنوا حظر الأسئلة؟
اسألوا يرحمكم الله".
كنت قد كتبت هذا المقال بعد يومين من مذبحة رابعة لكي يُنشر في يوم 18 أغسطس/ آب 2013 في العمود اليومي الذي كنت أكتبه في صحيفة الشروق. كان قد سبق أن نشرت قبله بيوم مقالاً مليئاً بالحزن والارتباك بعنوان (محاولات لكتابة مقال يليق)، وكان قد سبقه عقب مذبحة المنصة بيومين مقال بعنوان (دائرة الدم) جلب لي الكثير من المشاكل والانتقادات، وما زلت أعتقد أن الكثيرين يتجاهلون أهمية الإشارة إلى مذبحة المنصة بوصفها في رأيي كانت "بروفة جنرال" لمذبحة رابعة، خصوصاً بعد أن تم التأكد من فعالية الدور الإعلامي ومن وجود غطاء سياسي "مدني" لتنفيذ مذبحة رابعة.
كما لعلك تعلم، منذ أن وقعت مذبحة رابعة، جرت محاولات عديدة لإسقاطها من الذاكرة ومحاولات عديدة لاستثمارها ومحاولات أيضا لتصوير أنها كانت المذبحة الأولى وتناسي كل ما قاد إليها من مذابح، وما زالت المحاولات مستمرة وستظل مستمرة، لكن محاولات إسقاط المذبحة من الذاكرة لن تنجح في ظني، لأن مذبحة رابعة هي بشكل عملي حجر الأساس في مشروع السيسي للحكم، وبسببها كان يتم وصفه بالمخلص والمنقذ من سياسيين ومثقفين وفنانين كبار، ولو لم تتعثر خطاه الاقتصادية والسياسية، خصوصاً في مرحلة ما بعد بيع جزيرتي تيران وصنافير، لاستمر وصف الكثيرين له بذلك. المشكلة أيضاً أن البعض ما زال مصمماً على التعامل مع الموقف من المذبحة بوصفه مسألة تخصّ الإخوان وحدهم، وحين تواجهه بعض الأسئلة المتعلقة بالمذبحة، يهرب نحو مواقف عصبية وانفعالية، لكن كما كتبت كثيراً، السيسي نفسه يفشل محاولات كثيرين من مؤيديه السابقين والمستمرين لتناسي ما حدث، لأن القاتل لا ينسى أبداً، حتى وإن رغب بعض أهالي الضحايا في النسيان طلباً للراحة والرحمة.
في الوقت نفسه حاول بعض السياسيين والمثقفين أن يسبغوا على موقفهم المؤيد للمذبحة صبغة سياسية حكيمة تنحاز إلى دولة القانون والدستور، وبالطبع أثبت الواقع هزلية مثل هذه المواقف التي لم يعد حتى أصحابها يرددونها بنفس الحماس، لكي لا يجلبوا لأنفسهم الشتيمة، كان البعض يستسهل أيضاً لعن وتخوين المواقف التي أدانت المذبحة والتي أعلنها معارضون للإخوان، برغم أن هؤلاء كانوا أفراداً ليس لهم وزن سياسي مؤثر، ومع ذلك فقد تعرضوا لحملات عاتية من التشويه والتخوين ليكونوا عبرة لغيرهم، مثلما تعرضوا في الوقت نفسه لحملات ضارية ممن تبقى على قيد الحياة والحرية من مؤيدي جماعة الإخوان، على أساس أن تأييدك للإطاحة بحكم الإخوان، لا يعطيك الحق في أن ترفض قتلهم، وكل ما ينبغي عليك فعله أن تنحاز إلى معسكر الإخوان متبنياً كامل رؤيته أو تصمت، وهي حملات لم تسكت أصحاب هذه الأصوات، ولم توقف نظام السيسي عن التنكيل بمن ظفرت به من أصحابها.
ربما لم يعد للمقالات التي كُتبت عقب المذبحة نفس الأهمية التي اكتسبتها وقت نشرها، اللهم إلا لمن يُعنى بتوثيق المرحلة، ولذلك أسعى قريباً لتوثيق ردود الأفعال العنيفة التي أحدثته نشر مثل هذه المقالات التي كنت أكتبها في الشروق، خصوصاً في شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2013، وقد كان أقسى ردود الأفعال هو ما يأتي من الأصدقاء والأساتذة المعروفين بانحيازهم للحرية وحقوق الإنسان، ليس فقط لأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة"، ولكن أيضاً لأن استسهال التفريط في مساحات كانت متاحة للنقد والمعارضة وطرح الأسئلة، أدى إلى توحش السلطة بشكل دفع ثمنه الجميع بعد ذلك، ورأيي أن ذلك لم يكن حتمياً كما يحب البعض أن يصوره، وكما يحاول بعض قادة الإخوان أن يصوروا أن المذبحة كانت حتمية ولم يكن هناك مخرج منها، وللأسف سيستمر الترويج للحتميات كلما استمرت أوهام الحلول النهائية في الانتشار، خصوصا والواقع الإقليمي والدولي يساهم في الترويج لها ويعلي من وزنها.
المذابح والمصائب تُنسي بعضها بعضاً، لكن الاستمرار في طرح الأسئلة يحيي الذاكرة، والذاكرة هنا لا علاقة لها بفكرة تقليب المواجع، بل بالتعامل مع حقائق الواقع المرير الذي وصلت إليه مصر، وهو واقع لم يأتِ من فراغ، ولم يصنعه حاكم فرد بقرارات منفردة، بل صنعته سلطة تحالفت فيها أجهزة الجيش والشرطة والقضاء بدعم إعلامي وسياسي كبير، وبعد تفويض شعبي واسع لم تشهد له مصر مثيلاً منذ عقود، وما يجعل الكثيرين ممن تضرروا من سياسات السيسي الاقتصادية والاجتماعية مترددين في الإقرار بهذه الحقيقة، هو أملهم المشروع في حدوث تغيير ما بشكل معجز، يريحهم من الورطة التي وجدوا أنفسهم فيها، ومن يدري ربما يحدث بالفعل هذا التغيير المعجز الذي يريح الناس من وجود عبد الفتاح السيسي على رأس السلطة، لكن ذلك لن ينهي حقيقة أن السيسي كان ـ برغم خطورة دوره الشخصي ـ ممثلاً لشبكة مصالح واسعة متجذرة في أجهزة الدولة الخطيرة القادرة على القتل والقمع، وأن وصوله إلى قمة السلطة، كان مرتبطاً برغبة عارمة لدى الملايين في التضحية بمواطنين غيرهم لكي تستقر أحوالهم المعيشية، وقد يكون التذكير بهذه الحقائق مزعجاً مثلما كان طرح الأسئلة في لحظات النشوة الوطنية بالقتل مزعجاً أيضاً، لكنه سيظل الطريق الوحيد للتذكير بأن أي تغيير حقيقي في المستقبل، سواء كان المستقبل القريب أم البعيد، لن يتحقق إلا بالعدالة الانتقالية التي لا يمكن تصورها بدون مواجهة الحقائق المريرة، وستكون الأسئلة وحدها نقطة البداية.
أو هكذا أظن.
"ما هي المشكلة الطبية أو العقلية أو النفسية التي تمنع الكثيرين من إدراك إمكانية أن تكون معارضاً لجماعة الإخوان ولاعناً لقياداتها ورافضاً لاعتداءات أنصارها المسلحين على الكنائس وأقسام الشرطة، وتكون في نفس الوقت مدركاً لأن أية حلول أمنية غير سياسية، لن تحل مشكلتك مع هذه الجماعة بل ستزيد المشكلة تعقيداً؟ هل هي نفس المشكلة الطبية أو العقلية أو النفسية التي تمنع أنصار جماعة الإخوان من إدراك استحالة عودة محمد مرسي إلى الحكم وأنهم بعدم تقديمهم لأي حلول سياسية واقعية وإصرارهم في المضي في سكة "كل شيء أو لا شيء" يصعبون على أنفسهم مهمة البقاء على قيد الحياة السياسية ويصعبون علينا جميعاً مهمة البقاء على قيد الحياة بشكل عام؟
أين ذهبت الأسلحة الكيماوية والآلية الثقيلة التي كانت كل الصحف ووسائل الإعلام الخاصة والحكومية تجزم بوجودها في اعتصامي رابعة والنهضة وتتحدث عن قدرتها على إسقاط آلاف القتلى؟ لماذا لم نسمع صوتا واحدا للسادة المحترمين الذين وصلوا إلى الحكم يعلّق على عشرات الفيديوهات التي تظهر كيف كان يتم قنص المعتصمين والمعتصمات العُزّل في الرأس والصدر حتى عند قيامهم بإسعاف زملائهم أو تصويرهم لما يجري؟ هل هناك فيديو يظهر قيام قوات الأمن بحفر الأرض لتجد تحتها عشرات الجثث محترقة ومدفونة تحت المنصة أم المفروض أن نصدق أن ذلك حدث لمجرد عرض وسائل الإعلام فاقدة المصداقية لفيديو يظهر قوات الأمن وهي تقف إلى جوار جثث محترقة لم يتم تحقيق رسمي محترم يكشف من تسبب في حرقها؟ لماذا لم تقم وسيلة إعلام مصرية واحدة بعرض صور وأسماء ضحايا فض الاعتصامين، إن لم يكن احتراماً لإنسانيتهم فاحتراماً لحق المشاهد في المعرفة؟ كيف نصدق الآن من كانوا يبكون على دماء الشهداء الذين سقطوا في عهد مرسي وهم يصمتون على بقاء وزير الداخلية محمد إبراهيم الذي سفك تلك الدماء وأضاف إليها الآن دماء جديدة لمن كان يقتل من أجلهم بالأمس وكانوا يباركونه ويبررون له مثلما تفعلون الآن بالضبط؟
لن أوجه أسئلتي للرئيس "الفاترينة" عدلي منصور، بل سأوجهها لمن يديرون البلاد فعلياً ويتحملون مسؤولية قتل المواطنين المصريين، وعلى رأس هؤلاء رئيس الوزراء حازم الببلاوي ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي وسأسألهما: إذا كنتما حريصين على العدالة فلماذا سمحتما بالاعتداء على مسرح جريمة فض الاعتصامين والقيام بتنظيفهما في نفس اليوم قبل معاينة أجهزة العدالة ومنظمات حقوق الإنسان للمكانين؟ هل فجأة تذكرت الدولة التي تركت أكوام الزبالة بالشهور في الشوارع أن النظافة من الإيمان؟ أم أن المطلوب إخفاء آثار وحشية الفض التي ستظل تطاردكما إلى الأبد وستتحملان مسؤولية ما حدث أنتما وكل من شارك في ذلك أو برره أو باركه أو صمت عليه؟
لماذا كان البعض يهلل لأي رد فعل دولي يدين أفعال حكم الإخوان أيا كان مصدره، بينما الآن يدين كل رد فعل دولي يستنكر التدخل الأمني الغشيم وينبه لخطورته على مصر؟ هل أنتم ضد التدخل الدولي في شؤون مصر بشكل عام أم أنكم ضد التدخل الدولي الذي لا يتفق مع مواقفكم فقط؟ هل سيتذكر المتشدد الإسلامي الذي حاول إحراق سفارة الدنمارك على سبيل المثال لا الحصر أن تلك الدولة غضبت هي وغيرها من الدول التي يراها كافرة لأن إنسانيته انتهكت بينما باركت قتله الدول العربية المسلمة؟ وهل يصدق الذي يدعي الليبرالية والعلمانية أن غضب الدول الغربية على سفك الدماء وراءه دعمها للإخوان، مع أنه لو كلّف نفسه قليلا بالبحث في شبكة الإنترنت لوجد أن وسائل الإعلام الدولية على سبيل المثال لا الحصر احتفت مؤخرا بقيام الممثلة البريطانية الكبيرة فناً وسناً جولي كريستي بالإضراب عن الطعام تضامناً مع معتقلي غوانتانامو ولم يتهمها أحد بالإرهاب مثلما تتهم أنت من ينبهك إلى خطورة أن تبارك العقاب الجماعي والقتل العشوائي؟
عندما وقف الفريق السيسي ليطلب من المصريين تفويضه لمكافحة الإرهاب ألم تكن لديه فكرة عن كم التصريحات الطائفية الحقيرة التي تنطلق من منصتي رابعة والنهضة؟ لماذا لم يصدر أوامره لقوات الجيش بتأمين كل الكنائس، خصوصاً في محافظات الصعيد التي يعلم حجم تواجد أنصار الجماعات المتطرفة فيها؟ هل استمع إلى تصريحات الأنبا مكاريوس أسقف المنيا المفزعة التي قال فيها للمذيع شريف عامر: "اتصلنا بقوات الأمن فاعتذروا عن التواجد.. طلبناهم وماجوش في كل المواقع اللي حصل فيها حرق واعتداءات"، هل هذا تواطؤ أم عجز أم لعب بالنار؟ وأياً كان فإلى أين يقودنا في المستقبل الذي لا نعلم خطة لمواجهته حتى الآن؟
لماذا لا يوجه الفريق السيسي كلاما شديد اللهجة لكل من يصرحون إعلاميا بأن محمد مرسي ومحمد البرادعي على ما بينهما من اختلافات كانا جاسوسين دوليين؟ ألا يدرك أن مجرد سماحه بتداول ذلك يعني طعنا مباشرا فيه كرئيس للمخابرات الحربية تعامل كثيرا مع الاثنين وأقسم اليمين أمام مرسي ووافق على وجود البرادعي إلى جواره عند إعلانه لخارطة الطريق بعد 30 يونيو؟ هل يظن الفريق السيسي أن الشاب الذي شاهد أعز أصدقائه وهم يُقتلون إلى جواره كالحيوانات دون رحمة ولا إنسانية لن يتبنى خزعبلات سيد قطب وشكري مصطفى وبن لادن ولن يتحول إلى مشروع إرهابي يسعى للانتقام من المجتمع؟ هل يصدق الفريق السيسي أولئك المثقفين الذين يتزلفون له ليل نهار عندما يقولون إن مصر يمكن أن تصبح مجتمعاً مدنياً متحضراً بقوة السلاح؟ هل يمكن أن يدلنا على نموذج لدولة واحدة في العالم تمكنت من حسم صراع سياسي مع أي جماعة سياسية حتى لو كانت مسلحة بطريقة غير سياسية؟
أخيراً: هل يمكن أن نتقدم شبراً إلى الأمام طالما لم نقدم إجابات حاسمة لهذه الأسئلة وغيرها؟ وإذا استفزك طرحي لهذه الأسئلة ودفعك لسبي ولعني بدلا من محاولة الإجابة عليها، فلماذا تضيع وقتك أصلا في القراءة لشخص يرفض تسليم عقله للإجابات المعلبة وسيتمسك بطرح الأسئلة حتى لو أعلنوا حظر الأسئلة؟
اسألوا يرحمكم الله".
كنت قد كتبت هذا المقال بعد يومين من مذبحة رابعة لكي يُنشر في يوم 18 أغسطس/ آب 2013 في العمود اليومي الذي كنت أكتبه في صحيفة الشروق. كان قد سبق أن نشرت قبله بيوم مقالاً مليئاً بالحزن والارتباك بعنوان (محاولات لكتابة مقال يليق)، وكان قد سبقه عقب مذبحة المنصة بيومين مقال بعنوان (دائرة الدم) جلب لي الكثير من المشاكل والانتقادات، وما زلت أعتقد أن الكثيرين يتجاهلون أهمية الإشارة إلى مذبحة المنصة بوصفها في رأيي كانت "بروفة جنرال" لمذبحة رابعة، خصوصاً بعد أن تم التأكد من فعالية الدور الإعلامي ومن وجود غطاء سياسي "مدني" لتنفيذ مذبحة رابعة.
كما لعلك تعلم، منذ أن وقعت مذبحة رابعة، جرت محاولات عديدة لإسقاطها من الذاكرة ومحاولات عديدة لاستثمارها ومحاولات أيضا لتصوير أنها كانت المذبحة الأولى وتناسي كل ما قاد إليها من مذابح، وما زالت المحاولات مستمرة وستظل مستمرة، لكن محاولات إسقاط المذبحة من الذاكرة لن تنجح في ظني، لأن مذبحة رابعة هي بشكل عملي حجر الأساس في مشروع السيسي للحكم، وبسببها كان يتم وصفه بالمخلص والمنقذ من سياسيين ومثقفين وفنانين كبار، ولو لم تتعثر خطاه الاقتصادية والسياسية، خصوصاً في مرحلة ما بعد بيع جزيرتي تيران وصنافير، لاستمر وصف الكثيرين له بذلك. المشكلة أيضاً أن البعض ما زال مصمماً على التعامل مع الموقف من المذبحة بوصفه مسألة تخصّ الإخوان وحدهم، وحين تواجهه بعض الأسئلة المتعلقة بالمذبحة، يهرب نحو مواقف عصبية وانفعالية، لكن كما كتبت كثيراً، السيسي نفسه يفشل محاولات كثيرين من مؤيديه السابقين والمستمرين لتناسي ما حدث، لأن القاتل لا ينسى أبداً، حتى وإن رغب بعض أهالي الضحايا في النسيان طلباً للراحة والرحمة.
في الوقت نفسه حاول بعض السياسيين والمثقفين أن يسبغوا على موقفهم المؤيد للمذبحة صبغة سياسية حكيمة تنحاز إلى دولة القانون والدستور، وبالطبع أثبت الواقع هزلية مثل هذه المواقف التي لم يعد حتى أصحابها يرددونها بنفس الحماس، لكي لا يجلبوا لأنفسهم الشتيمة، كان البعض يستسهل أيضاً لعن وتخوين المواقف التي أدانت المذبحة والتي أعلنها معارضون للإخوان، برغم أن هؤلاء كانوا أفراداً ليس لهم وزن سياسي مؤثر، ومع ذلك فقد تعرضوا لحملات عاتية من التشويه والتخوين ليكونوا عبرة لغيرهم، مثلما تعرضوا في الوقت نفسه لحملات ضارية ممن تبقى على قيد الحياة والحرية من مؤيدي جماعة الإخوان، على أساس أن تأييدك للإطاحة بحكم الإخوان، لا يعطيك الحق في أن ترفض قتلهم، وكل ما ينبغي عليك فعله أن تنحاز إلى معسكر الإخوان متبنياً كامل رؤيته أو تصمت، وهي حملات لم تسكت أصحاب هذه الأصوات، ولم توقف نظام السيسي عن التنكيل بمن ظفرت به من أصحابها.
ربما لم يعد للمقالات التي كُتبت عقب المذبحة نفس الأهمية التي اكتسبتها وقت نشرها، اللهم إلا لمن يُعنى بتوثيق المرحلة، ولذلك أسعى قريباً لتوثيق ردود الأفعال العنيفة التي أحدثته نشر مثل هذه المقالات التي كنت أكتبها في الشروق، خصوصاً في شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2013، وقد كان أقسى ردود الأفعال هو ما يأتي من الأصدقاء والأساتذة المعروفين بانحيازهم للحرية وحقوق الإنسان، ليس فقط لأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة"، ولكن أيضاً لأن استسهال التفريط في مساحات كانت متاحة للنقد والمعارضة وطرح الأسئلة، أدى إلى توحش السلطة بشكل دفع ثمنه الجميع بعد ذلك، ورأيي أن ذلك لم يكن حتمياً كما يحب البعض أن يصوره، وكما يحاول بعض قادة الإخوان أن يصوروا أن المذبحة كانت حتمية ولم يكن هناك مخرج منها، وللأسف سيستمر الترويج للحتميات كلما استمرت أوهام الحلول النهائية في الانتشار، خصوصا والواقع الإقليمي والدولي يساهم في الترويج لها ويعلي من وزنها.
المذابح والمصائب تُنسي بعضها بعضاً، لكن الاستمرار في طرح الأسئلة يحيي الذاكرة، والذاكرة هنا لا علاقة لها بفكرة تقليب المواجع، بل بالتعامل مع حقائق الواقع المرير الذي وصلت إليه مصر، وهو واقع لم يأتِ من فراغ، ولم يصنعه حاكم فرد بقرارات منفردة، بل صنعته سلطة تحالفت فيها أجهزة الجيش والشرطة والقضاء بدعم إعلامي وسياسي كبير، وبعد تفويض شعبي واسع لم تشهد له مصر مثيلاً منذ عقود، وما يجعل الكثيرين ممن تضرروا من سياسات السيسي الاقتصادية والاجتماعية مترددين في الإقرار بهذه الحقيقة، هو أملهم المشروع في حدوث تغيير ما بشكل معجز، يريحهم من الورطة التي وجدوا أنفسهم فيها، ومن يدري ربما يحدث بالفعل هذا التغيير المعجز الذي يريح الناس من وجود عبد الفتاح السيسي على رأس السلطة، لكن ذلك لن ينهي حقيقة أن السيسي كان ـ برغم خطورة دوره الشخصي ـ ممثلاً لشبكة مصالح واسعة متجذرة في أجهزة الدولة الخطيرة القادرة على القتل والقمع، وأن وصوله إلى قمة السلطة، كان مرتبطاً برغبة عارمة لدى الملايين في التضحية بمواطنين غيرهم لكي تستقر أحوالهم المعيشية، وقد يكون التذكير بهذه الحقائق مزعجاً مثلما كان طرح الأسئلة في لحظات النشوة الوطنية بالقتل مزعجاً أيضاً، لكنه سيظل الطريق الوحيد للتذكير بأن أي تغيير حقيقي في المستقبل، سواء كان المستقبل القريب أم البعيد، لن يتحقق إلا بالعدالة الانتقالية التي لا يمكن تصورها بدون مواجهة الحقائق المريرة، وستكون الأسئلة وحدها نقطة البداية.
أو هكذا أظن.